فيالق السّماء....

  

            فيالق السّماء ... محمود سعيد

   

اختارت منظمة العفو الدولية 37 كاتباً من العالم كله وطلبت منهم التبرع بكتابة قصة عن حقوق الإنسان، بمناسبة مرور العام الستين على إصدار مبادئ تلك الحقوق. نشرت مجموعة القصص في أدنبرة، ثم في لندن، والولايات المتحدة وكندا، وترجمت إلى العديد من لغات العالم.

هذه القصة من بين القصص المنشورة باللغة الإنكليزية وتنشر لأول مرة باللغة العربية.
في مثل هذا الوقت من الصّباح تسيطر عليه رغبة قويّة بالطّيران، في الحقيقة قبل هذا الوقت، بعد أن يصلّي صلاة الصّبح، ويبدأ الضّوء بالتّسلّل بطيئاً وبثبات، فينشر تلك الغلالة الزّرقاء الخافتة فوق الغابات الشّاسعة التي لا تنتهي من نخيل يكحّل ضفّتي الفرات. كيف سيكون المنظر من الجوّ؟ لو كان عنده طائرة صغيرة لحلّق يوميّاً فوق هذه المنطقة التي يحبّها أكثر من أيّ بقعة على الأرض. الزّرقاء، اسم على مسمىً، من بعيد تبدو سوداء، ثم يتغيّر اللون إلى أخضر، وفي ضوء الفجر تبدو أقرب إلى الزّرقة، أما الآن فضوء الشّمس الخفيف يداعب عينيه، قادماً من الشّرق، ليسفح فوق الفرات مرآة بلوريّة هائلة تعكس مياهه شبه السّاكنة، حتى يختفي في الجنوب.
يروق له أن يطلّ من الطّابق الثّاني، يسمح لعينيه التّسكّع في الغابات، في النّهر ينسدح كعفريت كبير عريض، الطّيران على أجنحة غير مرّئيّة في فضاء واسع يمتد حتى نهايّة قوس الأفق، ينظر إلى حديقته الكبيرة، المسيّجة بجدار أسلاك مخرّمة حتى مياه النّهر. وحيث يستطيع أن يرى سيّارات الأعوان، وأفراد القبيلة الكبيرة يتجمّعون، قرب السّياج، تثير سيّاراتهم الغبار وهي تتوقّف، واحدة بعد الأخرى. لم يرَ متى وقفت السّيّارة الأولى، ولم يسمع صوت محرّكها، لكنّه عندما وقف أمام النّافذة في السّابعة صباحاً، رأى أربع سيّارات، أما الآن فقد تجاوزت العشرين. خمس عشرة سيّارة في الصّف الأول، والباقي في الثّاني، وغبار يثور في غير نقطة ينبئ بمجيء المزيد، ترى كم ستصبح عندما يتحرّك الموكب في العاشرة صباحاً؟ هل ستصل الألف؟ ملأت الابتسامة وجهه. أغمض عينيه، أحسّ بـ حنان تقف قربه إلى اليمين، تحيط خصره بساعدها، التّفتَ إليها، ثم أراح رأسه على كتفها، فنزلت عيناه على صدرها النّاهد، كانت ترتدي ثوباً فضفاضاً من الحرير الأحمرّ يزهو بألوان شتى. دائماً يثيره جسدُها، نهداها البارزان، انسجام جسدها، قبّلها في رقبتها، تطوّر إحساسه إلى إثارة فجائيّة، ملأ وجهها قبلاً، ويداه تتحسّسان ثدييها، قهقهتْ، أبعدت نفسها كفى، الأطفال قادمون.
توقّف، شدّت خصرَه بشوق إلامَ تنظر؟
أشار إلى فراغ خالٍ من النّخيل شمال البيت، قال هناك سنبني روضة، ومدرسة ابتدائيّة، ومستوصف، ومدينة ألعاب، وقاعة موسيقى و.
ضحكت ألم تنس مدرسة الرّقص؟
هزّ رأسه نعم، ومدرسة رقص. ستتعلم فتياتنا رقص الباليه، لن يبقى طفل واحد في قبيلتنا أميّاً، سيدرس الجميع.
شدّت على خصره بقوّة، أخذت تدغدغه فوق الحزام بانتشاء، حدّق في عينيها، ابتسمت، يحبّ ابتسامتها الواسعة، تلمع أسنانها البيض، تشعّ، تظهر غمازتان في الوجه الجميل الباهي، ينتشي بقوة حينما يحسّ بها قربه كيف يدعي البعض أن الحبّ يخفت، يختفي بعد الزّواج؟ هذه خمس عشرة سنة وهي قربه وحبه يتأجّج كلّ لحظة.
ثم ماذا؟
ومجمّع رياضيّ، بعشرين لعبة دوليّة كرة قدم، سلة، طائرة. و
ما أكثر أحلامك
الحياة كفاح لتحقيق حلم.
ثم أشار نحو الجنوب جاء عليّ كاظم.
ليته لم يأتِ.
لا تحقدي.
سيّارة ذات دفع رباعيّ حمرّاء، تشق الصّحراء، تثير الغبار. ثم سمعا صوت أمرّأة كهلة حجّي، الرّيوق الافطار حاضر.
ضحك ضحكة قصيرة سمسمة. لا، تنادني حجّي. لم أحجّ بعد.
لكنّك تنوي.
ضحكت حنان أيُّ جواب ذكيّ
ابتسمت الكهلة الأطفال ينتظرون.
نزل الجميع إلى الطّابق الأول. مطبخ بطول عشرة أمتار وعرض خمسة، ثلّاجتان، مجمّدة، خزانات معلّقة على الطّول، انتظمت فوق المنضدة الطّوليّة مئات النّسخ من كتاب مجلّد تجليداً أنيقاً، على غلافه صورة الزّوج بملابس سود، عمامة خضراء فيالق السّماء، عراق جديد، مبادئ جديدة. محمّـد أحمد.
المائدة تطلّ على الحديقة الخلفيّة، الصّغيرة المليئة بأزاهير السّوسن والدّاوادي بألوانهما المتعدّدة، وخلفها غابة نخيل وبرتقال وليمون وتين ونارنج، وجدا نور وشهاب ينتظران حول المنضدة، هتف شهاب وعيناه الواسعتان تلمعان، وهو يحرّك يده كعادته سأجيء معكم.
قالتّ أمّه لا، لا تأتي، لا أنتَ ولا أختُك. سيتدافع مئات الألوف حول المرقد. ستضيع بينهم. لا أحد يدري كيف سيكون الازدحام.
قالتّ نور، كانت في السّابعة، ورثت جمال أمّها بدقائقه سأبقى أنا في البيت مع خالة سمسمة.
سمع الجميع فتح الباب، الخارجيّ، ثم صوت أقدام، في الممرّ، وصوت سمسمة ترحّب أهلا عليّ، ابني، أسرع. لم يأكلوا بعد.
ظهر شاب في نهاية الثّلاثينات، أسمرّ، في حنكه اعوجاج واضح نحو اليمين، وجحوظ خفيف في عينيه القهوائيتين، وصلعة تلمع، بدا أصغر قليلاً نحو خمس سنوات من الزّوج، سلّم عليهم، بصوت ممتزج بضحكة قصيرة، رحبّ به الزّوج أهلاً عليّ.
جلس كعضو في الأسرة بالرّغم من تضرج، وخجل اعترى وجنتيه، رمق الزّوجة بنظرة تحتيّة، ثم جلس إلى المائدة، قال الزّوج وقت ممتاز. لم نبدأ الفطور، بسم الله.
هذا ما نويته.
ياللا.
المنضدة واسعة بطول نحو خمسة أمتار، جلسوا جميعا في زاويتيها القريبة من الحديقة. حدَّق وابتسامة كبيرة على شفتيه بالقشطة، ثلاثة أنواع من الجبن، دبس، لبن، حليب. بدؤوا يأكلون، وسمسيّة واقفة على رؤوسهم، تصبّ الشّاي لمن يريد، ثم قطع قليلاً من القشطة، وبدأ يلوك، وعينا الطّفل شهاب مثبّت على حنكه الأعوج، لحظت أمه توقّفه عن الأكل وتحديقه بعليّ، قالتّ له كُل. أسرع.
سأل الزّوج عليّاً ماذا قالوا لك؟
يوافقون على أشياء كثيرة.
عليّ. متى أصبحت دبلوماسيّاً؟ قل كلّ شيء
يرفضون أن يقوم أيّ تنظيم جديد
باسم فيالق السّماء؟
تحت أيّ اسم.
حسناً سنتقدّم لإقامة جمعيّة.
تتقدمون لمن؟
وزارة الدّاخليّة. أليست هي مسؤولة عن إجازة الأحزاب والتّنظيمات الجديدة
مستشار الأمن القومي منهم. سيرفض.
لكنّ تنظيمنا قائم على الأرض، لا يستطيعون رفضه.
هذه هي النّقطة الرّئيسة. ربما لو لم يعرفوا عنكم لأجازوكم، لكن بعد أن عرفوا لا.
حدق الزّوج ليس لهم الحقّ. انتهت الدّيكتاتوريّة منذ أكثر من ثلاث سنوات، نستطيع أن نقيم تنظيمنا الذي نشاء، وقتما نشاء. عصر جديد، دستور جديد، آمال جديدة، عدد قبيلتي أكثر من عشرة آلاف رجل، كلّنا سنوقّع على الطّلب، ستكون القبيلة قلب التّغيير، نقطة جذب لكل العراقيين، ستنتهي التّفرقة المذهبيّة، لا استغلال، لا خمس.
ثم التّفت نحو خزانة المطبخ الكبيرة حيث مئات الأعداد من كتاب فيالق السّماء، أشار.
قاطع عليّ كاظم هاتفاً، بصوت عالٍ هذا هو بيت القصيد.
رشف شيئاً من الشّاي، قال وهو ينقل عينيه الجاحظتان بين عيني محمّـد أحمد وزوجته كلّ شيء إلا هذا. لن يتنازلوا عن الخمس، قالوا لي كان المرّحوم أبوك يدفع ثلاثمئة ألف دولار سنوياً خُمساً، قطعت أنت الخمس منذ الوفاة، منذ سنتين، ضربتهم بالصّميم.
قاطعت الزّوجة أنت أول واحد قرأ الكتاب، وفرحت لعدم دفع الخمس.
قال الزّوج أاطّلعت على المشاريع التي سأفعلها بفلوس الخمس؟
دعك من هذا. لا يستطيعون إجبارك على دفع الخمس، لكنّهم لن يسمحوا لك بإعلان تنظيمك؟
وماذا عن المبادئ الأخرى؟
أيّ مبادئ؟
احتدّ صوت محمّـد أحمد، قال باستنكار اللطم، الطّبر، إيذاء النّاس، السّب، الشّتم، القراءات، تنظيمنا يوحد العراقيّين، والعرب، والمسلمين.
يا شيخ، يا ابن عمي، قلت لك غير مرّة، وأكرر، التّنظيم ممنوع، الخمس واجب، الاحتفالات ، اللطم، الطّبر، كلّ شيء باقٍ لا تغيير، لن تستطيع أنت أو غيرك تغيير شيئاً.
يعني نبقى قروداً نلطم، نضرب أنفسنا بالسّلاسل، نطبّر، نلطّخ أنفسنا بالوحول، نبقى حيوانات. لا روضات، لا تعليم، لا غناء، لا رقص، لا أغاني، نبقى معزولين عن العالم نبقى.
قاطع عليّ كاظم يا شيخ. يا طويل العمرّ، لماذا العجلة؟ أنظر إلى الحياة. تتطور الاختراعات في هذا الوقت يوميّاً بما يعادل ألف سنة في الماضي، لكن اجتماعيّاً تسير الأمور بهدوء وبالتّدريج. في كتابك ما يعدونه جرائم يعاقب عليها الشّرع، والمحاكم الدّينيّة بالإعدام.
ماذا مثلاً؟
التّعليم المختلط في المرّاحل الدّراسيّة كلّها، الفتيات والفتيان. هذا انتحار.
ثم ماذا؟ كان التّعليم المختلط عندنا في الجامعات حتى الاحتلال.
لهذا سقط النّظام السّابق. نحن الآن يا شيخ، تحت سيطرة إسلاميّة.
قهقهتْ حنان، حدّقت فيه هل هم مسلمون؟
نكّس رأسه خجلاً، لم يردّ.
تدخلت في الكتاب تنظيم إسلاميّ عصريّ واعٍ منير.
أمسك زوجها بيدها ورفعها إلى الأعلى، فنزل كمها الحريري العريض إلى كتفها، بان ساعدها أبيض شفافاً شهياً كلّه، وشيء من تجويف ما تحت إبطها. اُستثير عليّ كاظم، أحسّ بتوتر شديد، غضّ عينيه. فيما صفقّ الطّفلان في ضحكة شملت الجميع.
أضاف محمّـد إننا نريد إسلاماً عصريّاً يجمع ولا يفرّق.
سيخصّونك بامتيازات، ومكرُمات.
ما هي؟
يسامحونك بالخمس. لا تدفعه. مقابل إنهاء التّنظيم.
رشوة.
أقِم ما تريد من بنايات ومنشآت. لكن عليك أن تضع اسم المرّجعيّة على أيّ منها، لأنّك ستقيمها من المورد المفترض أن يكون لها.
يعني من السّرقة.
ابتسم عليّ كاظم يا شيخ، يا طويل العمرّ، يا أبو شهاب، يا حبيبي، كلّهم ضدّك، عليك أن تتنازل قليلاً.
إنهم يريدون كلّ شيء. لكن هل سيتدخّلون بشؤون التّعليم؟
طبعاً، سيتدخّلون، سيضعون القوانين الدّاخليّة للمدارس، المناهج، الكتب، التّعليمات.
احتّج محمّـد وهو يبتسم، وينظر إلى زوجته وطفليه الذين يبادلونه الابتسامة يعني سأكون مقاولا للمرّجعيّة، سأبني لهم مدارس، ورياض أطفال بجهودي، وتبرعات قبيلتي، وهم يضعون أسماءهم.
كيف يدرسون رقصاً وغناءً في مدرسة إسلاميّة؟
ثم ماذا؟
فرويد ودارون وماركس؟
صرخ محمّـد ما المشكلة أنا درست فرويد ودارون وماركس، أنا أفضل عازف عود في الكوفة كلّها، أنا أرقص أفضل من أيّ راقص.
تناول يد حنان، ونظر إلى الطّفلين هيّا.
نزلت من الكرسي، أسرع الطّفلان، شدّوا على يد بعضهم، أخذ محمّـد يغني بصوت جميل، ويدبك يا عين موليّتي، يا عين موليّا
ضحك عليّ كاظم، توقّف محمّـد هيّ معنا.
لا.
تسمرّت عينا عليّ كاظم على جسد حنان المطواع وهي ترقص، ازداد توتره، بينما استمرّ محمّـد يدبك ويدقّ الأرض برجله
يا عين موليّتي، يا عين موليّا
جسر الحديد انقطع من دوس رجليّ.
أيّ تناسق في هذا الجسد البضّ، لطالما سحره جمالها، بياضها، أينسى أجمل خمس دقائق في حياته، وهو فوقها؟ مازال يحسّ بسخونة، وحميميّة ذلك الجسد وهو يخترقه، كان ذلك قبل سبع سنين، ومازال الآن بعد تلك المدة نفسه. ما أسعدك يا ابن العم جسد معجزة بالرّغم من كونها أمٌ لولدين، في الثّانية والثّلاثين، لكن كشحها كشح مرّاهقة في السّادسة عشرة. كلّ شيء ذهب إلى ابن عمه، زعامة القبيلة، الوسامة، الدّراسة في بغداد، أجمل زوجة في الكون كله، عقل راجح، موسيقي، كاتب، راقص، وسيم، وهو لا شيء، قبح في التّقاطيع، جحوظ في العينين، صلعة قبيحة. جسم مشوّه، وعقل كسيح. رسوب دائم يقوده إلى الجيش، وحينما سرّح بتوسط من عمه، أصبح سائقاً له، بينما محمّـد ابن الشّيخ وخريج جامعة، زعيم قبيلة هائلة. مليونير، مثقف، وسيم. ليس له إلا أن يحلم بجسد زوجة ابن عمه. صنع مئات الأشياء الصّغيرة لجلب انتباهها عبثاً، لم يحقق شيئاً، حتى توصل إلى وضع الخطة الجهنميّة. آنذاك أحسّ بارتياح، سيعمل على تحقيقها. وحينما حانت الفرصة لم يفلتها. كان من المفروض أن يسوق السّيّارة إلى البصرة قبل سبع سنوات بعمه ومحمّـد إلى البصرة. تُوفي المصدّر صاحب المخزن الجرداغ الذي يتعاملان معه لخزن ونقل التّمور إلى الهند، أعدّ السّيّارة للسّفرة، لكنّه حضر كيس ماء ساخن، ووضعه على جبهته، وعندما أيقظه عمّه، حشرج صوته أنا محموم. ضع يدك على جبهتي.
أنار عمّه الغرفة، وضع أصابعه على جبهة عليّ، صرخ حالاً إنّك تلتهب. سنأخذك إلى المستشفى.
لا، يكفي أن أبقى ساكناً بضع ساعات.
الوقت ربيع، ظلّ على أعصابه ينتظر عمه، وابنه يغادران، وكلّه آذان يتسمّع أيّ حركة.
ياللا.
هجمت عليه نور، سحبته من يده ليرقص معهم، في الوقت الذي كف الشّيخ عن الرّقص السّاعة التّاسعة لنستعد.
دعنا نشرب شاياً آخر.
مازالتّ حمّى الرّقص تسيطر على الطّفلة، قالتّ لأخيها دعنا نرقص وحدنا.
هيّا.
أخذت تدبُك وترقص، وتغنّي مع أخيها
يا عين موليّتي، يا عين موليّا
جسر الحديد..
قاطع عليّ طويل العمرّ. هذا بالذّات ما لا يريدونه.
لماذا؟
كم أصبح عمرّ نور؟
سبع سنوات.
عليها أن تتحجّب.
استنكرت حنان ماذا؟
تتحجّب
قهقهتْ بسخريّة، وكأنها تبصق في وجهه، بينما كانت نظراتها مرّكزتين في عينيه أنت آخر من يتكلّم عن الحجاب
نكّس رأسه خجلاً. أمسك محمّـد بساعدها، يهدئها دعيه يتكلّم.
ثم التّفت إليه أنا أعرف كيف أربي أولادي. دعهم في ضلالهم يعمهون.1
ثم نهض لنغيّر ملابسنا.
صعد مسرعاً إلى الطّابق الثّاني، ويده بيد زوجته حتى إذ دخلا الغرفة، قال لها بهدوء قسوت عليه. مسكين، يتيم، لولا أبي لشُرّد في الشّوارع، ثم فوق كلّ ذلك دميم مشوّه.
لا، ليس بمسكين، إنه مستعد لعمل كلّ شيء، يتجسّس عليك، سافل أصبح سائقاً للمستشار الأمني بقدرة قادر يثقون به، يفاوض عنهم.
ما قيمة سائق. لا تعطي الأمرّ أكثر من أهميته، لا تنسي أنّه ربيب العائلة.
أغلقت الباب وراءها، بالمفتاح بينما أخذ محمّـد يبدّل ملابسه، وإذ التّفت رآها عارية إلا من قطعة حريريّة حمرّاء في الوسط، تلتهب مع بشرتها النّاصعة، هجم عليها. أوقفته بكلتا يديها، هتفت سنتأخر. اليوم عاشوراء. أهمّ يوم في السّنة، أنت شيخ. الكلّ ينتظرك.
قهقه دعيني أقبل هذا النّهد أولاً.
دفعته وهي تثبت حمالة الصّدر الحمرّاء لا تضيع زعامتك للقبيلة بالتّأخير. للناس السّنة.
ابتعد عنها صدقتِ. أنتِ أحكم مني.
حدق به عليّ وهو ينزل دشداشة سوداء، عباءة سوداء، ذات زري ذهبي عريض، وعمامة خضراء صغيرة، ذهل للتغيير، أهو نفسه الذي كان يعزف العود ويغني، ويرقص قبل قليل؟ هو الآن شيخ القبيلة القويّة، هتف من دون شعور أنت شيخ الشّيوخ يا محمّـد. هكذا الهيبة وإلا فلا.
ضحك محمّـد شكراً.
نزلت حنان وراءه، ثوب أزرق نيلي غامق سابغ حتى القدمين، عصابتها السّوداء فوق الجبهة، فوطة ابريسم كاظميّة، فاخرة، تنزل شراريبها حتى الصّدر النّاهد. أراد عليّ أن يقول لها أنّها حتى في حلتها هذه تبدو أجمل من أيّ نجمة سينمائيّة، لكنّه خشي أن تذّله، نظر إلى زوجها لماذا تأخذها معك.
لِمَ لا
لماذا تعرّضها للخطر؟
يعني أنا معرّض للخطر
اضطرب عليّ من يدري
لم تلتفت إليه، اتجهت صوب غرفة المعيشة، كان الطّفلان يتمتعان بمشاهدة قناة كارتون فضائيّة، عانقت نور، قبلتها حبيبتي ديري بالك على أخيك، لا تفعليّ أي شيء من دون خالة سمسمة.
لا.
ثم عانقت شهاب، قالتّ له اسمع كلام أختك، وخالة سمسمة، ثم خرجت، لم ترَ زوجها ولا عليّ، قصدت الباب الخارجي، وإذ وصلت إلى السّاحة التّرابيّة خارج الحديقة، رأت مئات السّيّارات متجمّعة فيها، زوجها يقف وأمامه أهمّ رؤوساء عشائر القبيلة، بينما جاء عليّ بسيّارة الدّفع الرّباعي الحمرّاء، ووقف قربه، قال لمحمّـد نسيت أن أقول لك إنهم أرسلوا معي مئتي قطعة سلاح، ونحو 400 رمانة يدويّة هديّة لكم.
لسنا بحاجة إلى سلاح، لو أردنا لاشترينا. أرجعه لهم.
لكنّكم مستهدفون.
ممن؟
من القاعدة.
قهقه محمّـد، وقهقه من كان واقفاً قربه معه أرجع السّلاح إليهم. قل لهم إنّنا مسالمون، إنّنا رجال دعوة، ومستقبل، وسلام.
ثق بي. إنّكم مستهدفون.
كان أحد الأعوان فتح الباب لحنان فصعدت في سيّارة ألمانيّة فضيّة جديدة من اليمين، بينما صعد زوجها من اليسار، جلسا خلف سائق في السّتين، يرتدي ملابس عربيّة أنيقة بعقال وكوفيّة سوداء.
أخرج محمّـد يسراه من الشّباك، ربتَ على كتف عليّ الذي همّ بالكلام، قال له مع السّلامة. وإذ بدأت السّيّارة طريقها تبعتها مئات السّيّارات، فارتفع الغبار ليكوّن غيمة كبيرة لم تهدأ إلا بعد نحو عشر دقائق، عندما وصلت طريق النّجف المعبد.
رجع عليّ وهو في أشد حالات الاضطراب إلى البيت، فتحت سمسمة له الباب، بادرته لماذا لم تذهب إلى الطّبق؟
تعبان.
أأعدّ لك شاياً؟
يا ليت.
خمس دقائق.
وقف في باب غرفة المعيشة، كانت نور وشهاب منبطحين على وجهيهما، يشاهدان قناة الكرتون، حدق بهما. الحمد لله، لم ترث نور شيئاً من قبحه، ساعده الله وحده على تنفيذ الخطة الجهنميّة. ما إن سمع صوت السّيّارة تنطلق فجراً إلى البصرة يقودها محمّـد بدله، حتى أحس بارتياح. دخل غرفة محمّـد وحنان، فوجئ، أي رائحة حميمة أريج جسد الأنثى فواحاً معطاءً يغرق الغرفة ببحور نشوة مازالتّ تعطر كلّ شيء، لم ير في الظّلام شيئاً أمامه، لم يميّز السّرير العريض الذي رآه بضع مرّات في النّهار حينما كانت سمسمة تنظف الغرفة، لم يرَ حتى الشّباك المطل على الحديقة الخلفيّة. بقي جامداً بضع لحظات، اعتادت عيناه الظّلمة، ثم بدأ شبحها يظهر تدريجياً أمام نظراته، بعد دقائق تبينها، على جنبها الأيسر عارية إلا من غلالة، لم يميز لونها، الوقت ربيع، البطانيّة كما هي، مطويّة أسفل السّرير، بقي جامداً لحظات أخرى، شعرها الأسود يغطي وجهها كله، بعد قليل ميّز لون الجسد برّاقاً أكثر من ذي قبل، الفخذان المكتنزان، النّهد الأيمن، انتصابته، صعد إلى السّرير، احسّت بالحركة، انقلبت على ظهرها، كانت ركبتاها متقاربتان فتحهما، لمس الموقع الرّطب برؤوس أصابعه، همست محمّـد.
لم يجب، اكتفى بإخراج صوت ممممم.
فجأة هجمت عليه موجة إثارة عارمة، لم يستطع الصّبر، أولج، همست على كيفك محمّـد. أذّيتني.
أذابه سخونة جسدها، ثم عصفت به موجة الإثارة مرّة أخرى، فلم يضبط نفسه، قذف بلمح البصر، آنذاك تحركت، مدّت ساقيها، تنفسّت بعمق، مدّت يديها نحوه. ربما أدركته لم يكن متأكداً، نزل بسرعة إلى غرفته، وعضوه يقطر، ارتدى في عجلة بقيّة ملابسه، ركض. في باب الغرفة رآها واقفة. تلّف جسدها ببطانيّة. تنظر إليه فزعة شاحبة، مرّ من قربها شبه راكض، سالتّه أهو أنت؟ لم يجبها، نزل بسرعة البرق، غادر، اختفى. أين؟ لا أحد يدري. عاد بعد أربع سنوات، تأكّد أنّ حنان لم تذع الأمرّ وإلا كان قُتل كأيّ حيوان مؤذٍ. الأول من آذار 1998، يوم هروبه. لم ينسه، شاهد نور بعد أربع سنوات، عرف أنّها ولدت في بداية كانون الثّاني 2000 حدس أنّها ابنته لا ابنة محمّـد. بقي السّر بينهما، إلا من نظرات ازدراء دائمة ولهجة تقريع منتقاة بذكاء لا يفهمها سواه.
قصص الكارتون جديدة، لا ميكي ماوس وبباي، جديد كلّ يوم، اتكأ على ظهره اغمض عينيه، بباي في بحر عارم يقاتل عدوّه العملاق وهو قربهما، اضطرّ لمصالحتهما، انقلبا عليه كلاهما، اسقطاه في قرارة اليم. رنّ تلفونه النّقال. فتح عينيه، نظر إلى الرّقم. الرّقم السّري لمستشار الشّؤون الأمنيّة، أغلق التّلفون. ظلّ جالسّاً في مكانه، رأى في ساعة الحائط الحادية عشرة ودقيقتان. أنام ساعة ونصف لم يصدّق. مدّ يده إلى الشّاي. بارداً. لم يجد الطّفلين. دخلت سمسمة صح النّوم. لم أشأ إيقاظك، سهرت البارحة؟
البارحة فقط كلّ يوم. عمل إلى الثّانية عشرة في الأقل.
لماذا تركت البيت؟ ابن عمك يحملك على رأسه.
سأرجع.
أفضل ما تفعل.
نعم.
بدّل قناة التّلفزيون، فتح قناة العراقيّة، كان صوت المذيع يلعلع مسؤول الأمن في وزارة الدّاخليّة يصدر بيانا وزير الدّاخليّة يصرح، مجموعة من السّعوديين والمصريين والسّوريين والمغاربة هاجمت الجماهير المؤمنة، قتلت العشرات، كانت تريد القضاء على المرّاجع العظمى، لكنّ الحركة كشفت وباءت بالخذلان. انتقلت الكامرّا إلى مئات القتلى خارج سيّاراتهم، داخلها، على الطّريق، سيّارات مقلوبة، أخرى مثقوبة بالرّصاص، متفجرة بالمدفعيّة، حطام متبعثر لا يظهر منه شيء سوى ما تناثر بفعل قنابل الطّائرات.
أخيراً توقفت الكامرّا على بقايا سيّارة ألمانيّة فضيّة، لا يظهر منها سوى قليل من مؤخرتها أما الهيكل فمنسوف كلّه، لم يبقَ ما يذكر بوجود حياة من كان يقلها سوى بقعة دم قربها، لعلع صوت المذيع ثانية متشنجاً، قويّا،ً يمزّق الكون انظروا. سيّارة الدّجال الذي أعلن أنّه وكيل المهدي.
ارتجف عليّ، أخذت دموعه تجري بالرّغم منه، قتلا كلاهما إذاً، أيّ مصيبة كان يريد حنان لنفسه، أن تبقى، تعيش، فلعلها ترضى به بعد مقتل زوجها، لكن جرى كلّ شيء عكس ما توقع.
تجول بين القنوات، قناة عراقيّة ثانية، عضو برلمان يصرّح فئة ضالة تمهّد لنزول المهدي المنتظر.
قناة أردنيّة أستاذ الفنون الجميلة العراقي محمّـد أمين طالب هادئ ومتفتّح فكريّاً، عميق التّفكير بشكل يلفت النّظر، يحب الإنسان كإنسان.
في قناة كربلاء، شخص يتغنج، يضع عمامة سوداء على رأسه يريد أن يكون مطربا وملحنا ووكيلاً للمهدي في آن واحد.
قناة النّجف الرّساليّة مستهتر، منحرف منحط دجال لا يعرف سوى الغناء والموسيقى وجلسات الفرح والمتعة.
المتحدث باسم الحكومة قائد منظمة إرهابيّة. حصيلة إرهابيي فيالق السّماء 263 قتيلا. 502 أسير بينهم 210 اصيبوا بجروح. كميات هائلة من الأسلحة الخفيفة والثّقيلة في مقرهم الرّئيس.
فجأة أحسّ عليّ بأصوات الهيلوكبترات تحوم فوق البيت، وتعصف بالحديقة، ومئات الجنود يقتحمونها، دُفع باب المطبخ بقوة أسقطت سمسمة على ظهرها، انبث الجنود يحطمون كلّ شيء، يقلبون عاليه سافله، دخل قسم منهم غرفة المعيشة، صعد آخرون الدّرج، لم ينقذه من ذهوله سوى رؤيته مستشار الأمن القومي بنفسه، يقف أمامه، بلحيته الشّعثاء، وعينبه الوحشيتين يرغو غضباً، يزمج تافه. منحرف كان من المفروض أن تعطيهم الأسلحة، أن توزّعها عليهم، ترميها في سيّاراتهم.
رفضوا. سيادة مستشار الأمن القومي.
أحسّ بكفّ مستشار الأمن القومي تصفعه بقوة أين السّلاح؟
في سيّارتي.
هات المفاتيح.
ثم التّفت إلى ضابط برتبة عقيد، وهو يناوله المفاتيح صُفّوا السّلاح في الحديقة هناك وصوروه.
أشار خارج المطبخ.
تناول نسخة من الكتاب من فوق منضدة المطبخ، حدق بها، قهقه فيالق السّماء.
ثم نظر إلى عليّ السّماء أم الشّيطان
نزل من الطّابق الثّاني بضعة جنود، يحمل أحدهم صندوقاً مفتوحاً مملوء بالمجوهرات والذّهب، يشدّه إلى صدره باليسرى، في اليمنى عدة ربطات من الدّولارات، آخر يحمل بضعة سيوف ذهبيّة وفضيّة، ثالثّ يتأبط تماثيل صغيرة كانت تزين قاعة الطّابق الثّاني، آخر أربعة جنود يمسك كلّ اثنان منهما طفلاً بقوة شديدة كي لا يهربان، والطّفلان يرتجفان ويصرخان، هتفت سمسمة مرّعوبة هؤلاء أطفال.
قال وزير الدّاخليّة اخرسي. أطفال شيطان.
حدّق بعليّ، وهو يلوح بالكتاب لعنكم الله، أنتم مرّتدون، أتباع المهدي الدّجال.
عشرات الجنود يصفون الأسلحة في الحديقة، كلّ نوع وحده، صوّرها مصوّر عجوز بدّقة من جميع الجهات، فتح باب المطبخ عسكريّ برتبة لواء، قال للوزير نحن جاهزون.
ابدؤوا.
هجم بضعة جنود على عليّ، ربطوا يديه ويدي سمسمة، انهالوا عليهما ضربا بالعصي الثّقيلة، حتى إذ سقطا أرضاً ربطوا أرجلهما، رموا الطّلين فوقهما مربوطين بالحبال وهما يصرخان ويبكيان.
خرج الكلّ من البيت الكبير. بعد ثوانٍ قليلة بدأت السّمتيات تقصف البيت حتى جعلته حطاماً.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1121 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع