تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة - ٧ الخدمة العسكرية

        

    تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة - ٧ الخدمة العسكرية

              

نستمر بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020.

في الفصل السابع يتطرق المؤلف الى موضوع ليس للأغلبية معرفة به وهو انخراط اليهود العراقيين في الخدمة العسكرية في النصف الأول من القرن العشرين. في هذا الفصل نقرأ عن الضابط سالم عيزر الذي شغل منصب آمر كتيبة للمشاة ثم أمر لمعسكر تدريب والذي جمدت ترقيته بالرغم من اقدميته لكونه يهودي وعن الطيار ناجي إبراهيم الذي كان قائد سرب في القوات الجوية العراقية وعن مشاركته في انقلاب بكر صدقي.
بعد صدور قانون الاحتياط لخريجي المعاهد العالية في نهاية الثلاثينيات أدى خريجوا الكليات من اليهود واجبهم كما يقضي القانون فمثلا يذكر المؤلف ان في 1939 صدرت إدارة ملكية بمنح رتبة ملازم ثاني احتياط ل 72 من خريجي كليات الطب وطب الاسنان والصيدلة وكان من ضمنهم 22 يهوديا. وفي عام 1940 منحت رتبة ملازم ثاني إلى 53 أكاديمياً في وحدات الهندسة والمشاة، من ضمنهم 7 يهود.
من الجدير بالذكر ان ضباط الاحتياط اليهود استدعوا للخدمة في أيار 1941 اثر اندلاع الحرب بين الجيش العراقي والجيش البريطاني. ومن بينهم الاديب أنور شاؤل والطبيب سلمان درويش الذي أُرسل لجبهة القتال في سن الذبان، وبعد عودته من ساحة الحرب أصيب بصدمة عنيفة جراء رؤيته حصيلة أعمال القتل والنهب والاغتصاب "الفرهود" ضد يهود بغداد. شارك في حوادث الفرهود في 1 و2 لحزيران بعض الجنود وافراد الشرطة والفتوة والرعاع. ويُسرد الدكتور سلمان درويش في كتابه، "كل شيء هادئ في العيادة"، عن زيارته مع بعض الضباط في طريق عودته دار أخيه الكانب شالوم درويش في الكرخ ليتفاجأ ان الدار قد نهبها الرعاع وعاثوا بها.
اما في نهاية الاربعينيات وعيشة الحرب مع إسرائيل فقد أحيلت القلة القليلة من الضباط اليهود الذين ما زالوا يخدمون في الجيش، على التقاعد، وعُزل ضباط الشرطة وتم اعتقال بعضهم "لأسباب أمنية". أما الجنود اليهود في الخدمة الإلزامية، فقد جُرِّدوا من أي سلاح واستُخدموا في أشغال مهينة.
انا في نهاية الفصل يتطرق المؤلف الى " حقائق غُيِّبت عن أنظار المؤرخين والباحثين" وهي خدمة بعض اليهود العراقيين تحت راية الشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى حيث يشير الى محاضرة القاها نوري السعيد في 1947 - "...وقد لفت نظري وجود مائة من اليهود العراقيين وعلى رأسهم ضابطان يهوديان جاؤوا من معتقلات الأسرى للعمل تحت راية الملك حسين. وقد حاولت القيادة البريطانية والفرنسية فصل هؤلاء المتطوعين عن بقية إخوانهم واستخدامهم في جبهة فلسطين فلم تفلح إذ أصروا على الخدمة تحت الراية العربية في الحجاز ".

معلومات لم تذكر في الكتاب – في خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانيات من القرن الماضي وكان عدد اليهود العراقيين الذين بقوا في العراق لا يتجاوز بعض المئات استدعي قرابة 8-10 من اليهود الشباب للخدمة الإلزامية كجنود بالرغم انهم كانوا خريجي جامعة بغداد. خدم البعض قرابة العام وآخرون بضعة أشهر ثم صدرت قرارات بإعفائهم من اكمال الخدمة ذلك لكونهم من أبناء الطائفة اليهودية، تحفظا منهم.

الفصل السابع - في الخدمة العسكرية
يهود العراق في الحرب العالمية الأولى
كان اليهود في العهد العثماني مَعفيين من الخدمة العسكرية كونهم من "أهل الذمة" ودفعوا، حسب ما تمُليه الشريعة الإسلامية، "الجزية" مقابل تكفل الدولة بحماية أرواحهم وممتلكاتهم وحرية ممارسة عبادتهم. وفي عام 1855، في عهد التنظيمات الذي شمل تعديلات وإصلاحات في الكثير من شؤون الإمبراطورية العثمانية، ألغيت "الجزية" وحل محلها "بدل عسكري" وتحاشى الشباب اليهود الالتحاق بالخدمة العسكرية. من جهتها تكفلت الطائفة اليهودية بدفع مبلغ سنوي من المال إلى السلطات الحكومية كـ"بدل" لخدمة أبنائها في الجيش بعد تقسيطه على الذكور وبحسب أحوالهم المادية. كل هذا يعني بان الحال بقى على ما هو عليه دون ان يطرأ أي تغيير على ما كان عليه سابقاً.
وفي عام 1909، صدر الدستور التركي بعد الانقلاب الذي قام به "حزب الاتحاد والترقي" الذي ساوى بين رعايا الدولة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأجناسهم فألغي "البدل العسكري" وفرضت الخدمة العسكرية على جميع المكلفين. ولم تعد الطائفة اليهودية بعد ذلك مسؤولة عن جمع "البدل" ودفعه للسلطات، بل تحتم على كل فرد أن يدفعه شخصياً إذا ما فضل عدم الانخراط بالخدمة العسكرية. ودخل العديد، ممن لم يكن بمقدورهم دفع البدل، المدرسة الرشدية والمدرسة الإعدادية العسكرية ليتخرجوا منها ضباطاً. وقدرت المستشرقة البريطانية السيدة جيرترود بيل Gertrude Bell، التي شغلت وظيفة سكرتيرة المندوب السامي في العراق، عدد هؤلاء ﺒـ 100 شخص، بينما قدر آخرون إن عدد المنتسبين أقل من هذا العدد بكثير وانه لم يتجاوز العشرة ثم أخذ في التضاؤل كل عام.
ومن الجدير بالذكر بأن المسلمين لم يحبذوا، يوماً ما، فكرة تجنيد اليهود وتدريبهم على حمل واستخدام السلاح، كما كانوا ينظرون لليهودي نظرة استعلاء واستهزاء وانه جبان لا يُجدي نفعاً في الحرب. هذا النظرة الاستعلائية بُنيت على مااورده القران الكريم عن اليهود-: "غُلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا ". وفي العراق شُبِّه الجندي اليهودي مختبئا وراء بندقيته ويتساءل وجلاً: "طقت لو بعد؟"، وسخر آخرون منه بسؤالهم-: "وأش قال قلبك حسقيل من طقت الطقاقة؟ ". وعبّر آخرون عن استيائهم من تجنيد اليهود بمقُولة استهزاء مُعنونة لشخص السلطان العثماني-: "على شان الحرية عسكرك يا محمد رشاد موسوية ".
عندما اندلعت الحرب العظمى سنة 1914 أُعلن النفير العام وجُند جميع طلاب المدارس السلطانية والعالية وخريجيها ومنحوا، بعد تدريبهم، رتبة ضابط وأرسلوا إلى ساحة الحرب، وهكذا أصبح عدد غير قليل من الشباب اليهودي العراقي ضباطاً في الجيش العثماني وحاربوا بمختلف الميادين. ودُعي الشباب اليهودي، أسوة بغيرهم من الرعايا الأتراك، إلى الخدمة في الجيش المُقاتل. فالتحق الكثيرون وتخلف البعض أو هربوا. وذكر المؤرخ عباس العزاوي في كتابه "تاريخ العراق بين احتلالين" أن قيادة الجيش التركي في العراق أعدمت سنة 16-1915 خمسة عشر جندياً فروا من ساحات القتال منهم 9 مسلمين و 5 يهود ومسيحي واحد. واتى مير بصري، في مؤلفه الموسوم "أعلام اليهود في العراق الحديث"، على ذكر أسماء بعض الضباط اليهود من الذين كانوا يحاربون في الأناضول وفروا من الجيش منهم المحامي عبودي سيتي وروبين داود سلمان. وقد حكم عليهم بالإعدام غيابياً، لكنهم تمكنوا من التخفي والوصول إلى بغداد عن طريق البادية بعد مشاق جسيمة. وعلى أثر احتلال بريطانيا للبصرة، في أواخر عام 1914، هرب إليها عدد كبير من الشبان المسلمين واليهود خوفاً من التجنيد. وقدم لنا الأستاذ مير بصري في كتابه بعضاُ من تلك المخاطر والمشقات التي عانى منها الفارّون من الخدمة العسكرية أثناء تخفّيهم وهروبهم:
دُفع بالجنود إلى ساحات الوغى في الأناضول وفي سيبيريا وجنوب روسيا، فقتل منهم من قتل وأسر من أسر اختفت بعدها اثارهم. وذكر الأستاذ مير بصري أسماء العديد من الضباط اليهود العراقيين من الذين خدموا في الجيش العثماني إبان الحرب العالمية الأولى.
بقي المفهوم السلبي وانعدام الثقة ملازمين الشباب اليهود في خدمتهم العسكرية بالعراق المُعاصر. فمن جهة رحَّب زعماء اليهود بفرض الخدمة العسكرية على الجميع بمن فيهم أبناء الطائفة اليهودية ومن جهة أخرى اتسمت معاملتهم بالتمييز والعنصرية، ومنع من المجندين اليهود الالتحاق بالوحدات القتالية وعلى الأغلب كُلفوا بوظائف وخدمات غير ميدانية.
تأسس الجيش العراقي في مستهل حقبة الانتداب البريطاني على العراق، في 6 كانون الثاني/يناير 1921. أنظم إليه في البداية ضباط كانوا قد خدموا في الجيش التركي وعادوا ليرتدوا البزة العسكرية كمتطوعين، من بينهم ثمانية يهود برتبة ملازم أول - نقيب، عُينوا في وظائف إدارية ما عدا واحداً، سالم عيزر، الذي عين آمر كتيبة مشاة، وذلك بناء على إلحاحه وبعد أن هدد بعدم الانضمام إذا لم يلبَ طلبه، إضافة لهؤلاء تطوع فيما بعد عدة يهود، برُتب ضباط صف، عملوا لاسلكيين في الجيش. ومن البداية نظر إليهم بنظرة يشوبها الكثير من التحفظ، وأخذ عددهم، مع توجه العراق نحو الاستقلال، بالانخفاض. ويقول أبن يعقوب إن في عام 1932 لم يبق سوى ضابط يهودي واحد من جملة 55 ضابط خدموا في الجيش العراقي، وإن الموظفين اليهود في وزارة الدفاع عُزلوا جميعاً من وظائفهم. لو فرضنا أن معطيات ابن يعقوب غير دقيقة وقابلة للجدل، لكن مما لا شك فيه أنها تعبر عن اتجاه واضح لمعاملة السلطات العراقية للمتطوعين اليهود في السلك العسكري.
تصاعد هذا التوجه في الثلاثينات من القرن المنصرم ولم يقتصر الأمر على عدم تجنيد ضباط يهود للقوات المسلحة بل تعداه إلى عدم ترقية أولئك الذي كانوا في الخدمة الفعلية وباءت جميع مساعيهم لتعينهم بمناصب قيادية بالفشل، فالنظرة إليهم كانت نظرة يسودها الكثير من الشك والريبة، لا يمكن الوثوق بهم ومن ائتمانهم وإنهم سيجتازون مستقبلاً كل الخطوط او ينظمون إلى العدو الصهيوني. كان سالم عيزر أكثر المتضررين من هذه المعاملة حيث جُمدت ترقيته، ففي مقابلة له مع رئيس أركان الجيش العراقي نامق إسماعيل قال الأخير إن عدم ترقيته جاءت تحسباً من التحاقه في المستقبل بالعدو الصهيوني.
لم يبق في الجيش العراقي، في أواخر الثلاثينات من القرن المنصرم، من ثلة الضباط اليهود الذين خدموا في الجيش التركي، سوى ضابطين يهوديين: الرائد سالم عيزر، الذي شغل منصب آمر كتيبة للمشاة ثم أمر لمعسكر تدريب، والمقدم سيمون سيمان الذي كان مسؤولاً عن التعبئة في القوة الجوية العراقية.
أحيل سالم عيزر على التقاعد عام 1938 ثم أُعيد إلى الخدمة بعد ثلاث سنوات بعد فشل حكومة رشيد عالي الكيلاني وهروبها من العراق، وبقي في الخدمة حتى عام 1947 حين أُحيل على التقاعد. أما سيمون سيمان فقد أُحيل على التقاعد عام 1945، وكلاهما شارك في إخماد حركات التمرد العشائرية في الجنوب والشمال.
كان الطيار ناجي إبراهيم ظاهرة شاذة، فهو الطيار اليهودي الوحيد الذي خدم في القوة الجوية العراقية، وكان من أوائل الطيارين في العراق وشغل منصب قائد سرب. كان ناجي إبراهيم من الطيارين الذين فاجأوا العاصمة بغداد صبيحة التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1936، يوم الانقلاب الذي قام به بكر صدقي (1886-1937). وكان من أصدقاء الأديب أنور شاؤل الذي أورد في كتابه-:
"في صباح يوم من أواخر صيف 1936 دوى انفجار قنابل ثلاث أُلقيت على شاطئ دجلة، مجاور لسراي الحكومة حيث ديوان مجلس الوزراء...فمن هو، يا ترى، هذا الزائر المبكر بهذه التحية الغريبة؟... إنه كان رفاً من القوات الجوية العراقية مؤلفاً من ثلاث طائرات عسكرية بإمرة الرائد الطيار (موسى علي) وبمرافقة النقيب الطيار (ناجي إبراهيم) - وهو الضابط اليهودي الوحيد في القوة الجوية العراقية آنذاك وبعد ذاك - أما الطيار الثالث فلم يذكر اسمه في حينه ".
صدر قانون الخدمة الإلزامية بالجيش العراقي في 12 حزيران/يونيو 1935. وشمل جميع المواطنين البالغين 18 عاماً، استثني منهم خريجي المدارس الثانوية الذين تم تجنيدهم كضباط احتياط عند الحاجة. وأتاح القانون تأدية خدمة إلزامية قصيرة المدى طولها ثلاثة أشهر مقابل دفع "بدل" قدره 30 ديناراً ثم تحول بعدئذ إلى 50 ديناراً.
كعادتهم، لم يحبذ يهود العراق الخدمة في الجيش، وذلك خلافاً لزعمائهم الذين رأوا في التجنيد المطبق على الجميع تعبيراً للتقدم بدرب المساواة في الحقوق والواجبات.
صدر، في نهاية الثلاثينات من القرن المنصرم، قانون الاحتياط لخريجي المعاهد العالية، وأُلحق الأطباء والصيادلة بوحدات غير قتالية (خدمة غير مسلحة) بينما أُلحق المحامون والمهندسون في وحدات حربية (خدمة مسلّحة). ودخل هؤلاء وأولئك دورة للضباط دامت ستة أشهر تخرجوا منها برتبة ملازم ثاني وبعدها تفرقوا في وحدات مختلفة خدموا فيها ثلاثة أشهر إضافية.
أدى خريجي الجامعات العليا من اليهود واجبهم كما يقضي القانون مثلهم مثل زملائهم العراقيين الآخرين وتدربوا على حمل السلاح واجتازوا جميع متطلبات دورة الاحتياط وأتموها بنجاح. فمثلاً، ورد في الصحف العراقية في أواخر شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 1939، أن إرادة ملكية صدرت بمنح رتبة ملازم ثاني إلى 72 طبيباً وأطباء أسنان وصيادلة من ضمنهم 22 يهودياً حسب الترتيب التالي-:
15 طبيبا يهودياً من ضمن 34 طبيباً
3 أطباء أسنان يهود من ضمن 16 طبيباً
4 صيادلة من ضمن 22 صيدلياً
22 طبيباً وصيدلياً يهودياً من مجموع 72
في شهر آذار/مارس من عام 1940 منحت رتبة ملازم ثاني إلى 53 أكاديمياً في وحدات الهندسة والمشاة، من ضمنهم 7 يهود.
وعندما اندلعت الحرب بين الجيش العراقي والجيش البريطاني، في 2 من شهر أيار/مايس 1941، استُدعي هؤلاء اليهود لخدمة العلم واُلحقوا بوحدات عسكرية مختلفة، منها تلك التي أُرسلت لجبهة القتال وأُخرى لتأدية واجبات مختلفة في أنحاء البلاد. ومن بين الضباط الأكاديميين اليهود كان المحامي أنور شاؤل والطبيب سلمان درويش الذي أُرسل لجبهة القتال في سن الذبان، كلاهما من دعاة التوجه نحو "الوطنية العراقية"، وكلاهما تفاجأ بصدمة عنيفة أصابتهما جراء أعمال القتل والنهب والاغتصاب ضد يهود الطائفة اليهودية المستضعفة في بغداد، التي عرفت "بالفرهود" والتي جرت إثر اندحار الجيش العراقي في أواخر الشهر. ويُسرد الدكتور سلمان درويش في كتابه، "كل شيء هادئ في العيادة"، عن الصدمة التي فوجئ بها عندما عاد من ساحة الحرب ليرى دار أخيه قد نهبها الرعاع وعاثوا بها، يقول-:
"...وأسند إلي معالجة أفراد الجيش الذي أُمر باحتلال (سن الذبان) القاعدة الرئيسية للقوات البريطانية في الشرق الأوسط...ولما اندحر الجيش العراقي تلقى لواؤنا الرابض في الرمادي أمراً بالعودة إلى بغداد عن طريق الصحراء، وكانت المسيرة طويلة ومرهقة، وقبل وصولنا إلى جانب (الكرخ) الجانب الغربي من بغداد، حيث كان مسكن شقيقي شالوم، رأيت من باب اللياقة أن أدعو جميع الضباط بمن فيهم آمر اللواء إلى استراحة قصيرة وتناول الشاي والمرطبات في دار شقيقي قبل أن يتوجه كل ضابط إلى داره، فلقِيت الدعوة القبول والامتنان من الجميع".
"وعند وصولنا فوجئنا بصدمة لم تكن تخطر ببال أحد منا، إذ وجدنا الدار مفتوحة على مصراعيها وخالية من ساكنيها وأثاثها منهوب أو ممزق... وعلمنا فوراً... والحزن يملأ القلوب، بأن (الفرهود) كان المكافأة التي كوفئ بها يهود بغداد الذين اشترك الكثير من أبنائهم وفلذات أكبادهم مع القوات المحاربة وتبرع تجارهم بأموال طائلة بسخاء وبطيبة خاطر لدعم القوات المسلحة، أقول إن المكافأة كانت نهب بيوتهم ومحلاتهم التجارية واغتيال المئات منهم في الطرقات وفي دور سكناهم ".
ساد هدوء في البلاد بعد تلك الأحداث واستمر حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، واختفت أثار الصدمة بعد عدة أشهر من "مجزرة الفرهود" واجتاح الأسواق التجارية انتعاش وازدهار وهدأت الخواطر. وتغيرت المعاملة في الجيش العراقي نحو اليهود، وأعيد سالم عيزر إلى الخدمة برتبة مقدم، آمر فوج معسكر الرشيد حتى عام 1947، وفي هذه السنة أُعيد فرض القيود على المجندين اليهود في الجيش والعاملين في الشرطة. وعندما أرسلت الجيوش العربية إلى الديار المقدسة لمحاربة إسرائيل في أيار/مايس عام 1948، أحيلت القلة القليلة من الضباط اليهود الذين ما زالوا يخدمون في الجيش، على التقاعد، وعُزل ضباط الشرطة وتم اعتقال بعضهم "لأسباب أمنية". أما الجنود اليهود في الخدمة الإلزامية، فقد جُرِّدوا من أي سلاح واستُخدموا في أشغال مهينة.
احتجت الزعامة اليهودية بشدة على هذه الإجراءات، وهي التي رأت في حينه الخدمة الإلزامية تعبيراً للمساواة في الحقوق والواجبات، ورفعت شكواها في تشرين الأول/أكتوبر 1949 بمذكرة بعثت بها إلى نائب الحكومة العراقية ".
لقد كانت النظرة السلبية لخدمة اليهود في القوات المسلَّحة العراقية من قبل السلطات والسكان المسلمين في العراق وليدة تقاليد عهد قديم تتعلق أصولها بالشريعة الإسلامية. ولم يكن في وسع قوانين التجنيد تغييرها. ولم يكن من باب الصدفة أن يتيح المُشرِّع العثماني عام 1855 لأهل الذمة التخلص من الخدمة العسكرية بواسطة "البدل". وكان القانون الذي سن عام 1909 والذي ألزم الخدمة العسكرية على الجميع قد فُرض من قبل السلطات العليا ومن دون تهيئة الرأي العام لتقبُّله. ولم تتغير النظرة إلى خدمة اليهود بالقوات المسلحة في العراق المستقل عما كانت عليه في العهد العثماني، بل أزادتها تعصباً وتطرفاً حيث أخذ المد القومي العربي في التصاعد إلى جانب النزاع اليهودي - العربي في فلسطين، مما أساء في معاملة اليهود، وأصبح استيعابهم في القوات المسلحة كمتساوين في الحقوق والواجبات أمراً شبه المستحيل.

يهود عراقيون يخدمون تحت راية الشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى - حقائق غُيِّبت عن أنظار المؤرخين والباحثين

في شهر تموز/يوليو من عام 1916 رفع شريف مكة الحسين بن على (1854-1931) راية الثورة العربية ضد الدولة العثمانية لجانب بريطانيا العظمى، التي مدته بالعتاد والسلاح بوساطة ضابط المخابرات البريطاني لفتنانت كولونيل توماس إدوارد لورنس ((Thomas Edward Lawrence الذي كان حلقة الوصل بين الثوار في الحجاز وقيادة الجيش البريطاني في مصر برئاسة الجنرال اللنبي .(Allenby) التحق بالثوار ضباط عرب من الذين كانوا في خدمة الجيش التركي وأسرهم البريطانيون أثناء المعارك التي دارت بين القوات التركية والبريطانية ونقلوهم إلى معسكَرات للأسرى في الهند ومصر.
فاق عدد الضباط العراقيين الذين لبوا دعوة شريف مكة بكثير على عدد زملائهم الضباط العرب من سائر البلدان العربية. إذ قدر عدد الجنود الأسرى العراقيين بمعسكرات الاعتقال البريطانية بعدة آلاف من ضمنهم ضباط برتب عالية.
ترأس هؤلاء الثوار، بمسيرتهم من المدينة المنورة إلى دمشق، الأمير فيصل (1883-1933)، نجل الشريف حسين بن على، ثم خدموا تحت لوائه بسورية عندما تُوج ملكاَ عليها وغادروها إلى العراق بعد أن احتل الفرنسيون سوريا وأخرجوه منها.
عاد هؤلاء الضباط، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، إلى العراق ليتقلدوا فيه المناصب العالية، ويرسوا دعائم صرح المملكة العراقية الحديثة والسير بها نحو التقدم والترقي. وتبوأت نخبة منهم رئاسة الوزارة العراقية كنوري السعيد (1887-1958) وعلي جودت الأيوبي (1886-1969) وجعفر العسكري (1886-1936) وجميل المدفعي (1890-1956) وناجي شوكت (1894-1974) وآخرين غيرهم كمولود مخلص (1885-1954) الذي شغل منصب رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الأعيان.
كان بين رواد معسكرات الاعتقال مئات من الجنود اليهود الذين أسرتهم القوات البريطانية إبان المعارك التي دارت رحاها بين الطرفين. لا يوجد لدينا إحصاءات دقيقة عن عدد الأسرى اليهود في تلك المعسكرات لقلة المصادر التي تناولت موضوع خدمة يهود العراق في الجيش العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى. ومن القلائل الذين تطرقوا لهذا الموضوع هو عضو مجلس النواب العراقي سابقاً، المحامي، سلمان شينا (1899-1976) في كتابه "من بابل إلى صهيون" (מבבל לציון) الذي صدر في إسرائيل عام 1956، حيث قّدَّر عدد الأسري اليهود الذين كانوا معه في معتقل الأسرى في الهند، ما بين 200 إلى 350 أسيراً.
لم يتطرق شينا في كتابه إلى مساعي الإنكليز لإقناع الضباط الأسرى العرب للالتحاق بمسيرة الثورة التي اندلعت في الحجاز، لكنه جاء على ذكر أسماء البعض من زملائه في الأسر من بينهم ناجي شوكت الذي انضم، كما أسلفنا، إلى الثوار في الحجاز وتقلد مناصب رفيعة في المملكة العراقية، بما في ذلك رئاسة الحكومة.
أما نوري السعيد فقد فاجأنا بمعلومة، لم تكن معروفة لدى الباحثين والمؤرخين، عن انضمام مائة جندي عراقي يهودي برئاسة ضابطين يهوديين إلى ثوار الحجاز وخدمتهم تحت راية شريف مكة الحسين بن علي. ففي محاضرة، ألقاها في "دار الضباط" أمام طلاب "كلية الأركان في الجيش العراقي" عام 1947، قال-:
"...وقد لفت نظري وجود مائة من اليهود العراقيين وعلى رأسهم ضابطان يهوديان جاؤوا من معتقلات الأسرى للعمل تحت راية الملك حسين. وقد حاولت القيادة البريطانية والفرنسية فصل هؤلاء المتطوعين عن بقية إخوانهم واستخدامهم في جبهة فلسطين فلم تفلح إذ أصروا على الخدمة تحت الراية العربية في الحجاز ".
ثم عاد نوري السعيد في سياق محاضرته ليتطرق إلى هذه السرية من الجنود اليهود بعد عدة أشهر من لقائه الأول بهم، إذ قال-:
"...وفي تشرين الثاني (1917) قررنا الزحف بمجموع قواتنا إلى الكوبرة ثم إلى أبي اللسن وتركنا سرية المتطوعين اليهود العراقيين لحراسة المدخرات في العقبة على أن يكون الزعيم عبد الوهاب الشيخ محمد قائداً لموقع العقبة وآمراً للتموين ووضعنا تحت إمرته عدداً من الضباط والكتبة ".

لا شك عندي أن عدم إرسال الجنود اليهود إلى خوض المعركة، إلى جانب زملائهم الآخرين وإبقائهم في المؤخرة بمهام حراسة وأعمال إدارية، ما هو إلا دلالة واضحة على نظرة الاستعلاء نحو اليهود والاستهزاء بهم كجبناء لا يصلحون للحرب، كما أشرنا سابقاً.
وتجدر الإشارة هنا إلى النظرة الإيجابية الواضحة التي أبداها نوري السعيد في سياق محاضرته نحو اليهود العراقيين الذين انضموا متطوعين للخدمة تحت راية شريف مكة، ومن خلالها يمكننا أن نتلمس شعوره المماثل نحو يهود العراق عامة. فقد كان حتى ذلك الحين من المتعاطفين مع الطائفة اليهودية في العراق والمدافع عنها ضد التيارات المتطرفة المعادية لها. ثم انقلب هذا الميل والتعاطف بعد أشهر قليلة إلى نقمة ومعاداة، وذلك بعد أحداث "الوثبة". تلك المظاهرات التي قام بها معارضو الحكومة من اليمين واليسار في شهر كانون الثاني/يناير من عام 1948 ضد معاهدة “ݒورتسموث" والتي تعاطُف معها رؤساء الطائفة اليهودية.
وتجدر الإشارة، بهذا الصدد، إلى المذكرات التي وضعها الضباط العراقيون الذين التحقوا بالثوار أمثال ناجي شوكت وعلي جودت الأيوبي، الذين لم يأتوا فيها على ذكر زملائهم اليهود العراقيين الذي انضموا للخدمة تحت راية شريف مكة، فغيّبوا دورهم وامتنعوا عن الإشادة بهم، على نقيض ما فعل نوري السعيد عام 1947. ولا غرو، لأن تلك الذكريات نشرت بعد إقامة دولة إسرائيل. ومن الجلي أن الامتناع عن ذكر مناقب المواطنين اليهود كان ميِّزة شملت غالبية الكتاب والأدباء في عراق ما بعد الهجرة الجماعية. فمثلاً توفيق السويدي (1892-1968)، الذي شغل منصب رئيس الحكومة العراقيّة إبّان النظام الملكي، ذكر في كتابه "مذكراتي"، الذي يقع في 640 صفحة، سيرته الذاتيّة والأحداث والمواقف السياسيّة التي كان له ضلع فيها على مدى نصف قرن من الزمن ولكنّه تغاضى أو تجاهل ما قامت به وزارته التي أصدرت قانون إسقاط الجنسيّة العراقيّة عن المواطنين اليهود في العراق والذي نزح بموجبه إلى إسرائيل ما بقارب ربع أهالي العاصمة العراقيّة بغداد، ولم ينبس ببنت شفة عن أثر هذا الإجراء الخطير الذي خسر العراق من جرّائه قوة بشريّة فعّالة كانت في مقدّمة المثقّفين والتجّار في العراق، والذي دعم إسرائيل بقوّة بشريّة كانت بأمسِّ الحاجة إليها عسكريّاً واقتصادياً. أما كامل الچَادرچي (1897-1968)، رئيس "الحزب الوطني الدمقراطي"، فقد تجاهل في مذكراته دور الصحافي اليهودي نعيم صالح طويق (1916-1989)، الذي واكب دربه السياسي في العقد الرابع والخامس والسادس من القرن المنصرم بكل ما يتعلق بتحرير وإصدار جريدة "الأهالي". وهو الذي كان يصفه بساعده الأيمن. ومع ذلك لم يأت في مذكراته على ذكره وذكر اليهود الذين ساهموا في الكتابة بجريدة "الأهالي" في بداية دربها حين كان لهم القسط الأوفر في رواج وشعبية الجريدة. وكذلك كان موقف الشاعر محمد مهدي الجواهري (1915-1997)، صاحب جريدة "الرأي العام" نحو صديقه الصحافي سليم البصون (1927-1995) محرر جريدته وكاتب مقالاتها الافتتاحية، فهو الآخر غيًّب ذكر صاحبه في كتاب مذكراته المحتوي على 1000 صفحة. ومن الجهة الأخرى لم يجاهر سليم بصون بصداقته مع الجواهري وامتنع عن نشر كتابه "الجواهري بلسانه وبقلمي" طالما كان الجواهري حياً، تجنباً من إحراج صاحبه ومنع النيل منه. لذا صدر هذا الكتاب عام 2013 في بغداد بعد أن انتقل الاثنان إلى جوار ربهم. وفي هذا الصدد يقول ديفيد (خضر) بصون، نجل المرحوم سليم البصون، إن التأخير في نشر الكتاب الذي دام سنين طويلة نجم عن رغبة العائلة بعدم المجاهرة والتضليل على العلاقة المتينة بين الاثنين تجنباً لإمكانية تعرض الجواهري الى نقد او مكروه في السنوات التي عاشها متنقلا بين العراق وسوريا وتشيكوسلوفاكيا.
قناعتي كاملة بان لو كان توقيت القاء نوري السعيد لمحاضرته بعد أحداث "الوثبة" لكان هو الآخر قد تغاضى عن ذكر المتطوعين اليهود، من الذين خدموا في صفوف الثورة العربية الكبرى تحت راية شريف مكة، او حتى الإشادة بيهود العراق وعن دورهم الإيجابي في الدولة العراقيةَ، ولَغيَّب كما غيَّب الآخرون ذكر مناقب اليهود العراقيين ومزاياهم. إنه لأمر مؤسف جداً، لأن طمس هوية المواطنين اليهود وتغييب أدوارهم في بناء العراق الحديث ما هو إلا طمس وتشويه لفصل ناصع من تاريخ العراق.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/50755-2021-09-18-08-06-21.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع