وفاء .. ودخان ..قصة قصيرة بقلم / جلال چرمگا

        

           وفاء  ...  ودخان ...

                        

              

تموز /1995
شاب نشط ... كثير الحركة ..يحب عمله كثيرا .. تارة يجلس في مكتبة لرسم الخرائط والنماذج ... تارة يتصل بعماله للتأكد من مواصلة العمل .. تارة اخرى يجلس مع الزبائن للتباحث معهم بشأن كيفية تنفيذ الاعمال من تجميل واجهات المباني .. عمل مقاطع .. التغليف بورق الجدران وسقوف ثانوية ...الخ انه (الباش مهندس فتحي)..

الكل يلقبونه بالباش مهندس .. بالحقيقة هو لايحمل شهادة البكالوريوس في الهندسة فهو خريج احدى المعاهد العالية في فن الديكور .. ولكن ممارسته وحبه لتلك المهنة اصبح مهندسا ممارسا له الاطلاع الواسع في فن الهندسة المدنية والمعمارية .. علما انه فنان ورسام بارع...
كل شيء في (الباش المهندس فتحي) طبيعي .. عدا شيء واحد جلب انتباهي .. فهو كثير التدخين ..لاتفارق السيكاره شفتيه طوال النهار.. يحمل بيده اكثر من علبة سكاير.. اذا كانت تلك المسألة اعتيادية فهنالك شيء آخر يدخل في مجال التساؤل والحيرة!!.. فـ(باش مهندسنا) كلما اراد ان يشعل سيكاره جديدة يقطع منها بمقدار 2-3 سم يرميها جانبا وثم يقوم باشعالها .. مسألة غريبة وعجيبة .. هذا الرجل يدخن باستمرار.. فاذا ما عملنا عملية حسابية بسيطة نتوصل الى نتيجة بان مجموع مايرميه صاحبنا هدرا اكثر من علبة سكاير !!.. كلما اردت ان اساله عن السبب لم تتح لي الفرصة المناسبة لذلك.. والسبب هو كثرة مشاغل (الباش مهندس) باستمرار..
في احدى الايام وجدت الباش مهندس فتحي..جالس في مكتبه وغارق في رسم احدى اعماله وامامه مجموعة من الورق المتناثر و(سيكارته في فمه طبعا).. انها فرصة جيدة لاساله عن السبب :-... نظرا الي وعلامات الدهشة والحيرة والاحراج رسمت على وجهه كانما يريد الصمت بدل الكلام ...يريد العصيان بدل الاستسلام:-
- سؤالك يجدد جروحي .. دعني وشأني .. انها مسألة خاصة جدا .. اعيش قصتها باستمرار .. لاتفارقني دقيقة واحدة..
* ارجوالمعذرة ...فـ(والله لم اقصد احراجك ولكن لااخفي عليك بانني ومنذ وقت طويل اردت ان اسالك.. مع ذلك اسحب سؤالي واطلب المعذرة !!..
ضحك (الباش مهندس) ضحكة للمجاملة .. بعد ان شعر باحراجي الشديد..
- لايهم ذلك ..صدقني مع الآمي ارتاح بين حين واخر ان اقصها ولو انني..
هي كانت ابنة الجيران .. تدعى ( وفاء) .. احببتها .. واحبتني .. طلبت يدها فتزوجنا .. سكنا في نفس الحي الشعبي لاهلنا .. اتخذنا من شقة صغيرة عشا لنا .. تلك الشقة وبوجود ( وفاء ) كانت عبارة عن فيلا كبيرة وواسعة على ( النيل الخالد ) .. كنت احس بان شقتنا عبارة عن مجموعة كبيرة من الغرف الواسعة .. ويحيط بالفيلا حدائق كبيرة فيها كل انواع الزهور والنباتات الطبيعية من البلد وخاج البلد..

             

كنت استيقظ صباحا .. اتناول فطوري واذهب الى عملي اعود قبل المغرب تستقبلني ( وفاء ) استقبالا بحيث تنسيني تعب النهار كله .. تاخذ بيدي لاجلس على اريكة مخصصة لي.. تاتي بصحن كبير من الماء الفاتر .. تضع قدماي فيها .. تقوم باشعال سيكارة لي وتاخذ منها نفسين او اكثر..(مع العلم انها لم تكن تدخن) كنت احس ان السيكارة التي آخذها من يد ( وفاء ) لها طعم ولذة خاصة تختلف عن كل السكاير التي دخنتها طوال النهار ..
بعد ان تنهي غسل قدماي اكون انا الاخر قد انتهيت من تدخين سيكارتي.. بسرعة عجيبة تقوم باعداد العشاء .. ومن ثم اعداد الشاي ..بعد ذلك تقول :-
- ياخويا.. هذه السيكارة الاخيرة لك .. تناولها بعد الشاي ونترك علبة السكاير جانبا.. ارجو ان تتفرغ لي كليا.. ما ذا عملت اليوم..؟ وماذا ستعمل غدا..؟ وبالتالي عليك ان تنام مبكرا لانك تستيقظ بكير !!
كنت اطيع اوامر ( وفائي ) وكاني تلميذ على مقاعد الدراسة الابتدائية .. لان نصائحها كلها كانت من اجل راحتي..
كنا سعداء .. اكثر من سنتين ونحن في عشق دائم .. بل كان عشقنا يزداد يوما بعد يوم .. حتى كنا نحس باننا مازلنا في فترة شهر العسل!!!
بعد تلك السنتين اصبحت ( وفاء ) حامل .. يالها من فرحة .. ماذا سيكون الوليد..؟
اذا كان ولدا سنسميه فلان... واذا كانت بنتا سنسميها فلانة ..
لايهمني .. ولدا .. بنتا ... بل تهمني سلامة ( وفاء ) العزيزة..
ولكن يا فرحتي التي لم تدم.. لقد ماتت وفاء اثناء الولادة ..وفاة  ( وفاء ) تعني لي فقدان عقلي ..بصري .. روحي.. اصبحت بلا اصدقاء واقرباء .. لان ( وفاء) كانت بالنسبة لي تعني كل شيء.. نعم كل شيء..
بفراقي لـ ( وفاء ) صارت تلك الشقة الصغيرة.. اصغر يوما بعد يوم .. حتى كدت اختنق فيها لولا فراري منها .. ومن المدينة والبلد كله مرة واحدة .. عملت في عدة بلدان عربية واخيرا استقريت هنا .. انني لازلت اعيش مع ( وفاء ) .. كلما اشعل سيكارة احس بانها هي التي اشعلتها لي .. واحس بانها قد اخذت من سيكارتي (نفسين او اكثر) وعلي ان اكمل الباقي ..

  


تصور مع كل سيكارة و ( وفاء ) امامي .. واني ادخن طوال الليل والنهار.. اذن ( وفائي ) معي طوال الـ(24 ساعة)...
ان (الباش مهندس) مستمر في شرح حبه لـ(( وفاء )) وامامه (نفاضة السكاير) مملؤة بالرماد وبقايا السكاير .. كان يحرك سيكارته داخل (المنفضة) كنت متأكدا بانه كان يحاول ان يرسم وجه ( وفاء ) ليتباهى امامي ويقول لي :-
انظر  كم هي جميلة حبيبتي وفاء.. انظر الى وجهها .. شعرها ابتسامتها..حواجبها.. عيونها الجميلة.. الخ
كان منهمكا في رسم تلك اللوحة ( الموناليزية ) وفجأة شاهدت قطرات من  دموع سقطت نحو تلك ( المنفضة ) التي دمرت تلك اللوحة الجميلة .. وانا انظر اليه لم اتمالك نفسي وكانت دموعي اسرع واكثر من دموع الباش مهندس..
وهو مستمر بالكلام .. سحبت نفسي ودون ان اودعه .. كل الذي قلته بحق صديقي الباش مهندس :-
- انك وفي ياصديقي .. ارجو من الله ان يعوضك بـ ( وفاء) اوفى من ( وفاءك) يا اوفى باش مهندس....

           

للراغبين الأطلاع على القصة السابقة(لغة العيون) النقر على الرابط أدناه:

http://www.algardenia.com/thaqafawaadab/3076-2013-02-10-11-33-37.html

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

739 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع