الباب الثالث: حرب البناء المؤسسي
الفصل الثاني: إعادة التشكيل والبناء
التعقيدات الحاصلة
كانت البدايات الأولى لتشكيل المؤسسة العسكرية صعبة، والإمكانيات المتاحة متواضعة ومع ذلك أسهمت الوحدات المتشكلة حديثاً في الحد من اتساع رقعة الإرهاب، والحيلولة دون تحقيق أهدافه في تقويض أركان الدولة وتغيير شكل النظام من جانب، واعاقة عملية إعادة البناء من جانب آخر. عملية استمرت لكنها وبعد تسع سنوات (وقت اعداد الكتاب) يمكن تصنيف نموها بالمحدود، الذي لم يصل في أحسن الأحوال إلى المستوى الذي يجعل شكل التنظيم متماسكاً، قوياً، منضبطاً، وطنياً، قادراً على الحسم في ساحة قتال داخلية بالغة التعقيد، لأنها قد واجهت، ومازالت تواجه العديد من المصاعب، والعراقيل، والتجاوزات أهمها:
1. اشكالات التدريب العام. إن ظروف إعادة البناء لم تكن طبيعية منذ البداية، وعلى أساسها لم يأخذ المتدرب جندياً كان أو ضابطاً كفايته من ساحة العرضات في الجوانب الفنية، والمعنوية. كما ان قسماً من المتدربين في البداية، تدربوا على يد شركات أمريكية خاصة، تختلف سياقات تدريبها عن سياقات الجيش العراقي السابق، وعن طبيعة الشخصية العراقية. فتخرج قسم منهم بمعلومات فنية جيدة وبمستويات التزام، وقيم مهنية متدنية. لأن هذه الشركات كانت تركز في برامجها التدريبية على الرمي، واستخدام السلاح، وبعض الجوانب التعبوية، وإعادة التأهيل البدني، دون الاخذ بالحسبان التدريب على الضبط، وتحسين مستوى الولاء إلى العراق، وتعزيز المعنويات. وهذا نقص في التدريب الفني والنفسي، استمر طوال السنوات التسع الفائتة، وعندما انتقل الجهد التدريبي من الامريكي الى العراقي بعد الانسحاب عام 2010، لم يحصل تحسن في النوع، أي في العائد، لأن المدربين والمتدربين، مثقلين سوية بكثير من الهموم.
2. التوزيع العشوائي. وزع الضباط القادة، والآمرين في المراحل الأولى لإعادة البناء على المناصب بطريقة عشوائية، تخضع لمقابلات بعضها صورية، ورؤيا أجنبية، لا تولي الرأي العراقي أي اهتمام، وتستند الى معلومات مسجلة لدى الامريكان عن أصحاب الرتب العليا والى الموقف من النظام السابق، وأهملت جوانب أخرى لا تقل أهمية مثل الكفاءة والوطنية التي لم يتم التطرق إليها إلا في القليل من الحالات التي لا تشكل معياراً عاماً للمقارنة والقياس، والى مستوى ابدى فيه لواء ركن من المقيمين في امريكا، جاء مع قواتها بعد السقوط، مالكاً شركة مختصة بتزويد الامريكان بالمتطوعين، والمدربين من العراقيين، امتعاضاً من تصرف بعض الامريكان، مؤكداً انه وكلما يرشح لهم ضابطاً جيداً لمنصب معين، يجدهم قد عينوا بدلاً عنه ضابطاً آخراً لا صلة له بالاختصاص. كما ان المناصب المطلوب إشغالها لم تكن موصفة وظيفياً، وعملية الاختيار لإشغالها لم تعتمد التدرج المهني، والتراكم المعرفي، فسجلت خلالها حالات تجاوز لمنطق العسكرية العراقية المعروفة. إذ قُبل على سبيل المثال عقيد من الجيش السابق للعمل برتبة نقيب في الجيش الجديد، كما أعطي النقيب رتبة عميد في نفس الجيش الجديد أيضا، بينهم العقيد سامي الذي تم التعاقد معه للعمل برتبة نقيب، وعمل بهذه الرتبة، ثم قدم طلباً للشمول بقانون السياسيين المتضررين من النظام السابق، فقبل طلبه ومنح رتبة فريق. في ذات الوقت تم منح آخر برتبة نقيب رتبة لواء، وعين على الفور قائداً للفرقة الخامسة. كما نسب مدني لإدارة عمل عسكري تخصصي تجاوزاً على الأسس، والضوابط المهنية المعروفة.
3. التوجه النفعي الكتلوي. ان مساعي مد المحاصصة الحزبية والطائفية والقومية إلى عموم مفاصل الهرم القيادي للمؤسستين العسكرية والامنية سار بخطى متواترة منذ البداية. حتى أصبحت بسببه التشكيلة القيادية العليا في السني الاولى، تركيبة مختلفة الألوان، وغير متسقة الأهداف، يشعر في داخلها البعض أنه خاسر يسعى لتعويض خسارته، والبعض الآخر رابح يكافح من أجل زيادة هامش ربحه المتاح... تضاد نفسي حال دون تعزيز التفاني والإخلاص والتضحية من جهة، وأعاق عملية التطوير في بداية مشوارها من جهة أخرى. وبسسبها انتقلت بعض الأمراض الاجتماعية المخلة من المجتمع العام الى جسم المؤسستين، ودوائرهما، خاصة مع بداية التشكيل، واستمرت معه في ازدياد تبعاً لتعقيدات الموقف الأمني، وتطوراته السلبية، حتى دخل البعض من العسكريين والامنيين طرفاً في الاختراقات الأمنية الدائرة. فاعل مباشر لبعضها، وأداة بيد السياسي لتنفيذ مخططاته لبعضها الآخر.
4. القيادة المدنية للعسكر. لقد غالى الأمريكان، والسياسيين العراقيين الجدد بتطبيق فلسفة القيادة المدنية للعمل العسكري، قبل التهيؤ لفهم موضوعها. اذ انها وعلى الرغم من صحتها وحتمة تطبيقها في النظم الديمقراطية، الا انها وبسبب حداثة التجربة في العراق، لم تتح الفرصة إلى المدنيين لاكتساب خبرة قيادة العسكر سياسيا. وبنفس الوقت لم تتح الفرصة للعسكر إلى قيادة تجربة إعادة بناء مؤسستهم في ظل النظام الديمقراطي، وتحمل المسئولية كما تقتضي حاجة البلاد في الظروف الصعبة، الا ان هذا التوجه قد تقلص بالتدريج، مع كل سنة مرت بعيداً عن 2003 بداية التشكيل، وزاد التوجه لعسكرة المؤسسة العليا وهو توجه كذلك خاطئ.
5. الشك في النوايا. في ظروف التحول كانت هناك جملة صعوبات وعراقيل فنية، واجتماعية واقتصادية، ألقت بضلالها على المؤسسة العسكرية والأمنية، فكونت معادلة نفسية شبه متناقضة طرفها الأول سياسيون في الحكومات المتعاقبة بعد التغيير، ينظرون للعسكر نظرة شك وريبة، ورغبة في التنحية والعزل. وطرفها الثاني عسكراً ما زالوا يشككون بقدرة السياسيين على قيادتهم (مهنياً) باتجاه حسم الموقف لصالح فرض الأمن والاستقرار. تضاد أو صراع حال وسيحول الى أمد غير قليل دون التقدم إلى الأمام في تكوين مؤسسات فاعلة في الهيكل التنظيمي لمؤسسة، وجيش وطني قادر على الردع، والدفاع عن البلاد وديمقراطيتها بكفاءة في وضع سياسي يختلف فيه الفرقاء بكل شيء، اذ وعلى سبيل المثال عندما نوقشت جاهزية الجيش مراراً، وبالتحديد خلال التفاوض لانسحاب القوات الامريكية والحليفة من العراق عام 2010، أختلف السياسيون في تقديرها بضوء قربهم من الحكومة التي أقرت بحسن الجاهزية، وابتعادهم عنها مؤكدين ضعف الجاهزية، مستشهدين بكثر الخروقات الامنية التي لا يتوقف بعضها على الجاهزية، دون الركون الى الرأي الفني لرئيس اركان الجيش الفريق الاول بابكر الزيباري، الذي يشير الى ان الجاهزية للدفاع عن العراق ستكتمل بحدود العام 2020 (8).
6. تحديدات الحلفاء غير المكتوبة. إن أكثر المتغيرات تأثيراً على كفاءة المؤسسة العسكرية، وقدرة الجيش العراقي الجديد، حجما وتسليحاً وتدريباً، تلك التحديدات غير المكتوبة أو غير المعلنة التي وضعها الحلفاء المنتصرون في الحرب على الدولة العراقية، ومؤسساتها العسكرية والامنية الجديدة، لاعتبارات التـوازن الدولـي والإقليمي، وتراكمات الخبـرة السابقة، والتـي لا يمكن التجاوز عليها في الظروف السائدة، إلا بتدخلات مكثفة للسياسة، أو بحصول مواقف إقليمية تفرض ذلك.
7. التطوع المناطقي. إن تطورات العملية السياسية في العراق ما بعد التغيير تعد من بين العوامل ذات التأثير المباشر على إعادة بناء المؤسسة العسكرية، وتكوين قدرة قتالية كفوءة. إذ يلاحظ وبسبب الموقف من الحرب التي أسقطت النظام البعثي السابق، وكذلك من شكل نظام الحكم ما بعد التغيير. إن التطوع إلى قوات الحرس الوطني (الملغية) ومن ثم الى وحدات الجيش والشرطة ولجميع الصنوف على سبيل المثال تركز على الشباب من أبناء الوسط والجنوب. بعد أن امتنع أبناء مثلث الجزيرة عن الانخراط في تلك الوحدات، والمؤسسات إلا في حدود ضيقة تمثل نوعاً من الاستثناء كما ورد من قبل. وهذا موقف جعل المؤسسة وإن تطورت فنياً، تنقصها معايير الوحدة الوطنية الكفيلة بدعمها، وتطويرها قوة دفاعية وطنية، رصينة.... واقع حال ادركت الحكومة أبعاده ومخاطره، توجهت بعد عام 2010 الى تشكيل وحدات عسكرية نظامية في الموصل والانبار والى حد ما في ديالى يغلب على المتطوعين في صفوفها أبناء المنطقة، لتجاوز مسألة الغالبية الطائفية التي تميزت بها معظم وحدات المؤسسة، وتوجهت لاحقاً في 2012 الى الأمر باعادة المناسبين الى الخدمة الراغبين في العودة اليها من عموم الضابط وضباط الصف الباقين خارجها، سواء من الذين أحيلوا على التقاعد أو من أولئك الذين لم تحسم ملفاتهم بعد، وقدم آلاف منهم طلبات للعودة، وعاد بالفعل غير القليل من المناسبين صحياً وعمرياً، وأمنياً.
مما ورد في اعلاه يتبين وجود مصاعب وعراقيل، وأجواء سياسية غير ملائمة قد رافقت عملية تشكيل وزارتي الدفاع والداخلية، وبعض مؤسساتهما بعد عام 2003، واستمرت وإياهما، رغم وجود جهود وطنية جادة للعمل والتطوير، في ظروف صعبة منتجة واقعاً للجيش والشرطة كمؤسستين يتسم بخصائص محددة بعضها سلبية. هذا وقبل الخوض في تفاصيل سلبيتها لابد من التنويه الى أن المؤسستين، قد أنجزتا مهام ليست قليلة منذ أعادة تشكيلهما من جديد، يكفي أنهما قد دخلتا الحرب مع الارهاب قبل دخول وحداتهما ساحة العرضات في كثير من الاحيان، وهو دخول محتوم لا أحد من الدولة ولا الوزارتين، كان قادراً على الحيلولة دون حصوله، ولا أحد منهما يتحمل وحده تبعاته اللاحقة. وعموما سوف لن يتم التطرق هنا الى خصائص أخرى تعد ايجابية، لانها سوف لن تنفع في عملية البناء، وسوف لن تنفع المتابعين لتاريخهما الحالي بمقارنته بتاريخها السابق المذكور في البابين الاول والثاني، بصيغة اقتطعت منه أوجه الهدم فقط دون التنويه الى ايجابياتهما غير القليلة أيضاً. وبذا تم الاقتصار على السلب واوجه القصور التي يشكل اصلاحها ضرورة حتمية لاستمرار البناء والتطوير الذي تسعى الحكومة والوزارتين، وباقي المؤسسات إلى تحقيقه ضماناً لتكوين مؤسسة عسكرية وأمنية عراقية قادرة على حماية وصيانة الساعين جدياً الى اعادة البناء الديمقراطي والمهني بالشكل الصحيح. علماً ان الخطوة الصحيحة بمثل واقع العراق وظروف جيشه وقواته المسلحة تأتي أولاً من الاعتراف بالسلب بعد تشخيصه، ومن بعدها تتحدد خطوات التعامل مع جوانبه بشكل صحيح.
جوانب السلب في عملية اعادة التشكيل
ان الخصائص التي تعد سلبية في طريق اعادة البناء يمكن مناقشتها تحت العناوين الآتية:
1. الترهل الكمي.
حُسبَ للقوات المسلحة " نظرياً" أن يؤمن وجودها الجديد الأهداف الدفاعية الإستراتيجية للعراق، كما يحسب جميع المخططين في جميع الدول المتقدمة، إلا إن عوامل عديدة تدخلت بشكل مباشر، فأخلت بتلك الحسابات، وحالت دون اتمام التخطيط لتحقيقها كما يجب بينها أو على رأسها الظروف الامنية غير المواتية التي مرت بالبلاد منذ التغيير، وبالتحديد بعد سنة من حدوثه وحتى عام 2012، وهي ظروف حتمت الحاجة الماسة، لتجاوزها بأقل الخسائر إلى انشغال الوحدات المشكلة حديثاً في اعمال القتال، وحتمت ابقاء كافة الوحدات في حالة استعداد "انذار" قتالي طوال الفترة. وضع تعبوي، لا يمكن أن يسمح باكمال التشكيل ادارياً وفنياً، ولا يسمح بالوصول الى الجاهزية المطلوبة، يضاف لها أو يأتي من بعدها عامل الخبرة المهنية المحسوب ضعيفاً لبعض المفاصل العليا في عملية اعادة البناء، خاصة في المراحل الأولى للشروع بالتشكيل. فأول وزير للدفاع مدني، لم يعرف شيئا عن العسكرية، وكذلك الوزير الثاني الذي سبق له وان خدم جندياً في فترة الزمن السابق، وأول أمين عام لها كرجل ثان بالوزارة مدني لم يؤدي الخدمة العسكرية. مسألة وان تكن طبيعية في النظام الديمقراطي، حيث الوزير السياسي، من الكتلة السياسية التي فازت بالانتخاب، الا أن غير الطبيعي في مجالها هو ان بداية التشكيل كانت بحاجة الى حرفية مهنية، للتعامل مع القادة واحتياجاتهم للتطوير والتدريب والانفتاح، وهي لم تكن ميسورة آنذاك، أو ان تيسيرها غير مرغوب فيه، وكأن هناك قصد من هذا الموضوع، تؤشره وقائع لا تقبل التأويل بينها على سبيل المثال ان أول رئيس لأركان الجيش عينه الامريكان هو العميد عامر الهاشمي بعد منحه رتبة فريق، وهو في الأصل ضابط قضى غالبية حياته العسكرية مترجماً، ولم يتخرج من كلية الاركان. يضاف الى هذا إصابة العديد من مفاصل الوزارة المهمة، بداء الذاتية المفرطة والانحياز التي أبعدت بعضهم عن الحيادية، ودفعت البعض إلى الوقوف مع أو بالضد بعيداً عن الاصول المهنية، فقدموا غير المؤهلين، وتدخلوا بمنح الدرجات الوظيفية بشكل غير مقنن، حتى بات من المعتاد ان تجد بين الموظفين خريج حديث في الدرجة الخامسة، وآخر حاصل على الشهادة قبله بعشر سنوات، وخدم الدولة عشر سنوات في الدرجة العاشرة. من كثرتها شكلت وزارة الدفاع عام 2010، لجنة ادارية، لمراجعة الدرجات الوظيفية، وتدقيق التحصيل العلمي، فقررت تعديل بعضها الذي لا تتوافق شهادته وسني خدمته مع الدرجة التي منحت له، ورفعت قائمة بحوالي مائة وخمسين موظفاً مطلوب تعديل درجاتهم الوظيفية الى مراجعها العليا. كما ان التلكؤ بخطوات العملية السياسية، والتناحر بين الفرقاء خاصية أنتقلت بعض اوجهها الى الجيش والقوات المسلحة، لتصيب بعض قيادتها بنفس الداء، وتؤخر اصدار القوانين ذات الصلة بالبناء والتسليح والتجهيز، لان التناحر في مجلس النواب بين الكتل السياسية المشاركة في الحكومة وغير المتوافقة مع رئيسها على سبيل المثال قد أخر صياغة بعض القوانين، وأخر التصويت عليها، وأخر البت في التخصيصات، وحرف توجهات التعيين في المناصب القيادية، اذ ان منصب قائد فرقة مثلاً يتطلب التصويت عليه في البرلمان، والبرلمان لم يشهد تصويتاً على أي قائد عسكري منذ تكوينه برلماناً في دورتين انتخابيتين والى عام 2012، مما دفع القائد العام اللجوء الى مسألة التعيين بالوكالة، خيار اضطراري لا بديل عنه، لكنه من الناحية الاعتبارية لا ينسجم والسعي الجاد لتكوين قوات مسلحة، فيها القادة العسكريون يثقون بانفسهم، ويثق ممثلوا الشعب بهم، فيتحملوا والحالة هذه مسؤولية الدفاع عن الوطن بكل ثقة واقتدار. ولا ينسجم ايضاً مع صلاحيات البرلمان للرقابة، حيث لم ينفع مناداة البعض من البرلمانيين في وسائل الاعلام بتوجه العسكر لبيع المناصب القيادية على وفق تسعيرة نشرت عن تفاصيلها العديد من وسائل الاعلام، وصلت حداً تم التنويه اليه في وسائل الاعلام من ان منصب قائد الفرقة يتم التنسيب اليه لقاء مائة الف دولار، وهكذا لباقي المناصب الى حد آمر سرية، وهذه من أكثر العقبات الادارية والاخلاقية التي حرفت من بنية اعادة التشكيل لقيادات ووحدات القوات المسلحة، ومع هذه التنويهات الاعلامية التي كثرت في عراق ما بعد التغيير، فان البرلمان لم يبادر على التصديق، ولم يؤسس آلية رقابية تمنع بيع المناصب(9). وفوق هذا وذاك، يأتي عامل الوقت الذي لم يكن في صالح عملية اعادة البناء، بعد ان أصبح ضاغطاً، دافعاً الى الاستعجال، لتلبية حاجة القتال الى وحدات، والاستعجال وضع ارتباك، يعيدنا الى الزمن السابق والى ايام الحرب مع ايران، التي دفعت القيادة العامة الى تشكيل وحدات من بين الوحدات القائمة، أي نقل ضباط وضباط صف من هذا اللواء وذاك الى آخر جديد، وتطالبه على الفور باداء مهامه القتالية القياسية في الحال.
انها عوامل بالاضافة الى اخرى تتعلق بالشخصية العسكرية السابقة التي حملت معها الى المؤسسة العسكرية الحالية العديد من امراض التسويف وعدم المبالاة والارتزاق، فرضت جميعها على المعنيين بعملية إعادة البناء بعض الاستحقاقات باتجاه التوسع السريع بالملاكات خارج سياقات الحاجة والاختصاص، والحشر الوظيفي لإشغال المناصب، دون الالتزام بالشهادة والخبرة. وبالمحصلة تم انتاج، توجه للاحتماء بأصول الكـم حد الترهل في أحيان ليست قليلة على حساب النوع تبعاً للحاجة، وأدت إلى:
آ. ارتباك في العمل، وسوء في توزيع المسؤوليات، وقلة انتاج واضحة من تكدس الموظفين والعسكريين في غرف وقاعات، يملؤها الضجيج خاصة في السنة الاولى من بدء التشكيل.
ب. زيادة العبء الإداري، والكلف العامة. لان الكثرة في واقع الحال بطالة مقنعة بحاجة الى رواتب ونقل، وامور ادارية، وتكييف وتدفئة، تفوق كلفتها كثيراً ما يأتي عنها من مردود.
ج. التقاعس عن العمل الجاد بين المفاصل الوسط، والدنيا في سلم القيادة. اذ شهدت السني الاولى فوضى واضطراب وقلة ضبط وضعف في السيطرة، دفع المفاصل الوسط في التراتب القيادي التي تنظر الى الاعلى رغبة في القفز بالمكان أو سعياً لتجنب البقاء تحت النظر الى التكاسل وعدم المبالاة، والسعي لقضاء الوقت وانتظار آخر الشهر للحصول على الراتب المجزي، في دورة عمل تبدأ وتنتهي قريباً من نقطة الصفر في بعض الاحيان.
د. صعوبة التقييم، والمتابعة، وانعدامها في قسم من المناصب، اذ لم يعاد العمل بصيغ التقارير السرية السنوية للضباط، ولا التقييمات الدورية للموظفين طوال السنوات الخمس الاولى من التشكيل، فاصبحت البداية شاهداً على غياب التقييم العلمي الصحيح، المستبدل بالتقييم الشخصي الدارج في معظم الحالات. حتى درج في بعض الاحيان التي يسأل فيها الاعلى، جهة ما عن ضابط مطلوب نقله او ترقيته أو ترشيحه لشغل منصب ما، فعادة ما تأتي الاجابة بعبارة بسيطة"فلان جيد- وعلان سيء". وغالباً ما يكون باللهجة العراقية الدارجة "فلان خوش ضابط- وعلان مو خوش". وبسبب الوضع الامني والخوف من انتقال صورة التقييم السلبي الى المعني الذي قد يستجيب باستهداف حياة القائم بالتقييم شخصياً، فيكون التقييم في الغالب ايجابي أو تهرب من التقييم.
2. الوهن القيادي.
إن ظروف العمل الصعبة منذ البدايات الأولى، والاختلاط غير المتجانس بين عسكر قديم يحمل قدراً من المهنية، وخبرة قتال عسكرية وادارية جيدة، موضوعة في اناء مليء باليأس والاحباط الشديدين، وبين عسكر انتقل تواً الى النظام الجديد يحمل بعضهم جعبة مليئة بمساعي التسلق السريع، ومشاريع الكسب السريع، واستغلال الظروف بشكل سريع ايضاً. أمثلتهٌ كثيرة، بينها استغلال العلاقة والمعرفة بالمسؤول الاعلى للحصول على رتبة أو رتبتين عسكريتين أعلى لا ملاك لهما في الهيكلية التنظيمية للمؤسسة، ومحاولات الحصول على شارة الركن خلافاً لشروط الدراسة في كلية الاركان، وحصول عشرات الضباط على ترقيات الى رتب عليا تصل الى لواء وفريق دون توفر شروط المدة وتيسر الملاك. فكان بمجمله سلوك تسابق للاستحواذ والقفز والاستغلال مخل، ما كان يفترض ان يحصل في نظام جديد، على اعقاب نظام قديم بلغ فيه الاستغلال والانحراف الأسوء. فكان اختلاط تفاعلي، انتج مفاصل قيادية واهنة ليست في مجال الأوامر واصدارها، بل وفي مقاومة ضغوط السياسة وتدخلاتها في الشؤون الداخلية للمؤسسة، وهذه مع غياب الاسس الصحيحة للاختيار والتصنيف لعموم الهرم القيادي العسكري، والمدني الفني والإداري، وتسلل البعض من الانتهازيين والفاسدين إلى جسم المؤسسة العسكرية والامنية، والتقييدات الخارجية غير الواقعية في بعض الأحيان، وغياب المكننة"وسائل الاتصال" أو عدم فاعليتها، أوهنت المؤسسة واضعفت قدرات منتسبيها، وتسببت في اضعاف أو الأخلال بشروط القيادة، والسيطرة في ظروف هي الأحوج فيها إلى أن تكون قوية وحاسمة، وباستجابات سريعة، وتسببت أيضاً وفي احيان ليست قليلة باعمال قطع "بعضها مقصود" لسلسلة نقل الأوامر وسبل تنفيذها. هذا واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن ضباطاً قد عادوا الى الخدمة في القوات المسلحة، بعضهم لم يقتنع بالتغيير الذي حصل. وبعضهم يحمل نفساً طائفياً. وبعضهم الآخر اتصالاته مستمرة مع حزب البعث. وهم على قلتهم شكل سلوك قسم منهم قطع اضافي لسلسلة نقل الاوامر ولخطوات اعادة البناء. واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أيضاً وجود كم من الفاسدين، يتعمدون احداث ما مذكور للحصول على ثمن البت بالمعاملة أو تمشية متطلباتها، وعدم امتلاك غالبية دوائر ووحدات القوات المسلحة في السنوات الخمسة الاولى دافعية مهنية أو وطنية لمتابعة الرسائل والكتب الرسمية المطلوب تنفيذها، منها يمكن تأشير حصول حالات اهمال متعمد للبريد الوارد، وتلكؤ متعمد في الابطاء بتنفيذ الاوامر الصادرة، ذات الصلة بخطوات البناء واعادة التشكيل.
ان هذا الاهمال والتلكؤ وهن كان في الواقع موجود من الزمن السابق، كمشكلة للقيادة العليا، ادركت وجوده، وتعاملت معه بصيغ غير تقليدية، مثل إلزام الوزارات بالإجابة على طلبات الرئاسة خلال ثلاثة أيام، ومعاقبة من لا يرد أو يغفل في أن يرد، بعقوبات قاسية، والاجابة على ديوان الوزارة خلال اسبوع، وهكذا، حتى إنها أضطرت إلى معاقبة مدير الاستخبارات العسكرية العامة الفريق الركن خالد الجبوري بتنزيله إلى رتبة ادنى، بسبب التأخر في الرد على أحد استفسارات الرئاسة كما شاع في حينه، وكذلك لجأت أي القيادة الى إرسال منتسبي مكاتبها إلى بعض مواقع العمل للتأكد من كم المردود. ومع هذا كانت الإدارة آنذاك متعبة، مصابة بوهن دفعها مراراً الى المراوغة، والتسويف، وتشويه الحقائق في التعامل مع القيادات الادنى...انه وهن نفسي حصل في الزمن السابق، انتقل إلى الإدارة الجديدة، أخل تماماً بجدوى قياس المردود، وبمستويات زادت شدتها في الزمن الحالي، بسبب سقوط سلطة الخوف النفسية، وعدم وجود سلطة ضبط قوية، حتى أصبح أي قياس المردود من أصعب المسائل التي تعانيها مؤسسات الدولة ودوائرها العسكرية والامنية، وأصبحت المتابعة من الأمور المعقدة، وأصبح في الوقت نفسه، وجود ضعف ملموس في استجابة القيادات الادنى. وعلى وجه العموم كانت هذه صعوبات جعلت ردود الفعل اتجاه الاوامر بطيئة واحيانا شبه معدومة وبما يربك القيادة، وبنفس الاتجاه كونت ميولاً عند البعض الى ترك النهايات أقرب إلى السائبة بسبب قناعتهم بعدم جدوى التنفيذ، يقابله قناعات لدى الأعلى بعدم جدوى الإصرار على التنفيذ.
3. الوسع المسافي.
إن المهام الآنية غير التقليدية للجيش، تتمحور حول مهام مقاتلة الإرهاب، وبسط الأمن، وفرض الاستقرار في وسط وشمال وسط العراق، بالاشتراك مع وحدات وزارة الداخلية وتشكيلاتها العسكرية. وقوات متعددة الجنسية لغاية 2010. مهامٌ وطنية، وقتية، طارئة، اقتضت التوجه الى مضاعفة الجهد باتجاه تشكيل المزيد من الوحدات والتشكيلات والقيادات بوقت قصير نسبياً، وتحت التعرض إلى التهديد الأمني المباشر في كثير من الأحيان. واقتضت اقحامها تحت ضغط الضرورة الملحة في العمليات العسكرية، قبل اكتمال تهيئتها فنياً ومعنوياً، وإصدار الأوامر لبعضها من اجل التنفيذ الفوري لقسم من الواجبات على أساس اكتمال تشكيلها "نظرياً" دون الأخذ بالاعتبار القدرة القتالية الفعلية لها، أي إنها اضطرت إلى التكليف للقيام بأعمال، وواجبات دون النظر إلى إمكانيات تلك الوحدات في التنفيذ. ولما أخطأت وكررت الخطأ، تأثرت هيبتها سلباً، وقلتْ فرصها في الحسم السريع لمواقف تعبوية، وكونت بالمحصلة:
آ. حالة من الإحباط لدى المنتسبين، لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تحصل في الزمن السابق، نتيجة لتحميل الوحدة أعباء قتال تفوق قدرتها الاساسية.
ب. سعي لتنفيذ المهام دون وجود دوافع ذاتية للاستمرار بالتنفيذ، وديمومة العمل كما يفترض ان يكون، اذ ينفذ الآمر/القائد، الأوامر الصادرة اليه مع اقتناعه الجازم بعدم جدواها.
ج. تجنب مناقشة النتائج الخطأ في الزمن السابق، بسبب خشية الاتهام بتعمد التقصير الذي يودي بالحياة. وتجنبه في الزمن الحالي، بسبب خشية فقدان الحياة.
د. التشبث بالموقع، بدعوى الأهمية.
هـ. القلق من تاريخ انتماء حزبي، يمكن ان يستغل للاقصاء من الموقع .
انها مسافة بين الواقع المعاش، والآخر الذي يفترض ان يعاش، وهي كذلك مسافة بين الامكانيات الموجودة فعلاً، وتلك المطلوبة عملياً، اتسعت مع مرور الأيام، فكونت بالتدريج:
- حالة قبول لهنات الواقع الجديد.
- ملل لدى القادة والآمرين من التنفيذ المنقوص.
- كثر المطالبة لإكمال المستلزمات الضرورية لضمان حسن التنفيذ.
- القبول بالفشل الحاصل ومغالاة بتبرير حالة الفشل وإلقاء تبعاته على الغير، ومن بعد التعود على الفشل أو التقصير، دون أي اكتراث مهني أو وطني، عادة ما يحكم السلوك القيادي في مثل هكذا حالات.
ان وسع المسافة المذكورة، لا يتوقف على الجوانب التعبوية، ولا على مستلزمات القيادة والسيطرة، بل وامتد الى كافة الجوانب التي تغطي عملية التهيؤ والاستعداد واعادة التشكيل، بضمنها المكان الذي خصص لاسكان الدوائر والمؤسسات العسكرية من قبل الجانب الامريكي بداية، بواقع حال تبتعد فيه المسافة بين الامكانيات المتاحة والطموحة، مسافة بعيدة، اضطر الامريكان الى تقريبها في البداية من خلال تقسيم الغرف والقاعات الى قواطع زجاجية، وخشبية والمنيوم، بطريقة لم تكن مقنعة لعموم الضباط، والمدنيين، فأدت بالنهاية إلى تكدس في الأمكنة المخصصة لا يساعد على تحمل ضغوط العمل، والضوضاء المنتشرة طوال ســاعات الــدوام الرسمي، التي تربك التفكير، وتقلل من إمكانية التركيز، وأدت كذلك الى كثر التجوال في الممرات، وبين الغرف بكثافة عددية اثارت الفوضى، وقللت من احترام المنتسبين لأنفسهم ولقواتهم المسلحة، واخلت بمعايير الضبط والالتزام. حتى ان ضباط وموظفي تلك الفترة الزمنية الأولى والى عام 2008 يتذكرون تلك الغرف التي قسمت بقواطع، حشر فيها عدة ضباط قادة، واخرى وضع فيها عدة موظفين من قسم واحد. ويتذكرون أيضاً كيف كانوا يستدلون عند مراجعة احداها ان واحداً من الموجودين يعمل بجد، وآخرين شبه متفرجين، وان أصوات المراجعين، والموظفين تشوش على الانتباه والتركيز، ومئات المراجعين يسيرون في الممرات بما يشبه المسير في شارع عام، ومثلهم جالسين في بعض الممرات في الطابق الأرضي على وجه الخصوص، مما يدلل أن المسافة بين الواقع الموجود والذي يفترض ان يكون فيما يتعلق بالمكان واسعة لا تساعد على الايفاء بخطوات البناء واعادة التشكيل.
انها مسافات واسعة في العمل والعلاقات العامة، والاداء، والارتباط والضبط لا يمكن ان يساعد وجودها على تأمين الغاية من اعداد جيشاً قادراً على تنفيذ مهام قتالية صعبة في ظروف معقدة.
4. التعب التراكمي.
أستهدف الإرهابيون رجال الأمن، وكذلك العسكر، وبينهم الضباط القادة، والموظفون في المراكز القيادية، ولم يستثنوا باستهدافهم الموظفين العاديين... استهدافٌ بمستوى من الإصرار والإتقان حال دون إمكانية تنفيذ كثير من أعمال الجيش وأجهزته التنفيذية والاستخبارية والادارية حديثة العهد، وغير المكتملة التدريب فنياً، مما جعل عموم المنتسبين يعيشون قدراً من التوجس، وضغط التهديد بالقتل والاختطاف، وجعل الإدارة الفتية في حالة حرج من عدم إمكانية إيجاد حل، فتنازلت طوعياً عن محاسبة الأخطاء التي ترتكب، كنتائج جانبية، وتسببت دون رغبة منها في تعزيز حالة الاجهاد، وعدم المبالاة في تنفيذ المهام، وتسبب في أن يكون الوضع الامني العام ضاغط، مخيف، يجبر الضباط والموظفين بالدرجات العاليا احياناً، بالمجيئ الى دوائرهم في المنطقة الخضراء للاعوام من 2004 حتى نهاية عام 2009 بسيارات النقل العام "الكيا" وبملابس مدنية عادية واحياناً رديئة، ليحولوا دون التعرف اليهم من قبل الجيران أو سكنة الشارع، وكذلك من قبل الكمائن التي ينصبها في طريقهم الارهابيون. يغيرونها حال الوصول الى مكاتبهم، ويكررون العمل بنفس السياق بعد انتهاء الدوام الرسمي، حتى استنزف جهدهم ووقتهم، واضطربت حالتهم النفسية، وتراكم التعب في داخلهم. اعياء لم يبق مجالاً للتطوير والتدريب وتحسين الاداء، ويأس من امكانية الحل. استدار بسببهما المنتسيبون، غالبية المنتسبين الى الوراء، وبدلاً من التفتيش عن الحل وجد غير القليل منهم بالتشكي في دائرة الأعلى، وتكراره بين المحيطين بهم من الادنى نوع من الحل النفسي، فقلت قيمتهم وقللوا من قيمة المنصب الذي يشغلونه، وبالتدريج عزلوا انفسهم عن مهنيتهم، عن جيشهم الا ما يتعلق ببعض الاعمال الرتيبة، واستلام الراتب الشهري. واتجه قسم منهم الى التمارض، والغياب العمدي كتعامل ذاتي مع حالة الشد، والضغط شبه المستمرة حتى تسجل غياب ضباط برتب كبيرة الى خارج العراق والى مناطق اخرى من العراق، فكونوا خرقاً في البنية العسكرية صعب رتقه الى عام 2012. لكن البعض منهم وليس جميعهم محقين في سلوكهم هذا بسبب الوضع الامني غير المستقر، حق ادركته الادارة فسمحت مثلاً بالتأخير عن الحضور إلى الدوام الرسمي، فبات من الطبيعي ان لا تجد المدير والآمر في مكتبه مع بدايته، أي الدوام، وسمحت بتركه مبكراً. ومن الطبيعي ان لا تجد نفس المدير ونفس الامر في مكتبه قبل ساعة، واحياناً أكثر من ساعة من نهاية الدوام، فتقلصت بسببها ساعات الدوام، وزادت الحجج والتبريرات الخاصة بالتأخر عن الدوام، أبسطها الازدحام وغلق الطريق، فشاع سلوكاً غالباً، أثر سلبا على مستوى الالتزام والأداء. التقى في السنوات الاولى للتغيير مع سلوك أولئك القادمين من الخارج، الذين أعتلوا مناصب القيادة، ولم يتعودوا دوام الدوائر العراقية التقليدي من الساعة الثامنة صباحاً الى الثانية بعد الظهر. والتقت جميعها أو تفاعلت مع ظروف الامن غير المستقرة والازدحام الشديد، والقطع المفاجئ للشوارع، فانتجت صعوبة الانتظام بالدوام من مستوى وزير يصل الى مكتبه بعد الساعة العاشرة صباحاً في اغلب الايام، والى الوكلاء والمدراء العاميين وباقي الموظفين والمنتسبين العسكريين الذين يحضرون قبله بقليل، وتكفل الهاتف النقال بالافصاح عن المكان بشكل غير صحيح، اذ وعند الاستفسار من الشخص المطلوب عن مكان وجوده، يجيب البعض حتى بالدرجات الوظيفية والقيادية العليا انه في الطريق، وهناك ازدحام، وهو في الواقع مازال في بيته، لم يغادره بعد. فاختلط الامر على المدراء والموظفين وعلى الامرين والمأمورين، في وضع صعب فيه الحكم على الحقيقة. لكنه وضع في المؤسستين الامنية والعسكرية بدأ ينتظم بشكل مقبول بعد فترة من عام 2008، اذ يلاحظ وجود توجهات لتسجيل غياب، ومحاسبة من يغيب ولو بشكل محدود. علماً ان عدم الانتظام بالدوام الرسمي، سلوك يعد موجوداً منذ الازمنة السابقة ولو بحدود بسيطة، وغالباً ما يرتبط تكراره بالتغيير أو الانتقال من واقع الى آخر، فالعادة جرت ان تزداد شدته بعد حدوث الثورات والانقلابات، واعمال التمرد وظروف عدم الاستقرار، فمثلاً وفي عام 1969 عين لفترة قليلة المقدم الركن وليد محمود سيرت مديراً للاستخبارت العسكرية العامة، وكان معروف بانضباطه العالي وشدة محاسبته المقصرين وان كانوا حزبيين، ولما شعر بتأخر بعض الضباط عن الحضور مع بداية الدوام الرسمي الساعة 800، أمر باغلاق الباب الرئيسي للمديرية، ولما اعتاد الرائد الركن (ع. التكريتي) احد مدراء الشعب التأخر احيانا عن الدوام توجه الى ابقاء شباك مكتبه المؤدي الى الممر الخارجي مفتوحاً، ليتسلل منه الى المكتب في الاوقات التي يتأخر عن الدوام. انه وضع مخل تسبب في اصابة الإدارة ذاتها بقدر من الإعياء الوظيفي حال دون توجهها إلى المحاسبة، والإصلاح، وعمم سلوك الفوضى الإدارية بأكثر من مجال، ولفترة استمرت اكثر من خمس سنوات بعد التغيير، عدت فيها الادارة بشكل عام غير منتجة بالمستوى الذي يتناسب ومهامها، في اعادة بناء مؤسسة جديدة يحتاج بناؤها الى مضاعفة الانتاج.
5. الانضباط التوفيقي.
بدأت مؤشرات الخلل في مستويات الضبط العسكري عند منتسبي المؤسسة السابقة، مع ارتداء صدام البدلة العسكرية، برتبة مهيب استغلها للتدخل المباشر في شؤون العسكر والامن، وإدخلهم في ظلها أتون الحروب والإنذارات شبه المستمرة، وزادت المستويات سوءً إبان فترة الحصار حتى تمثلت في حرب عام 2003 بعدم تنفيذ الأوامر، لمستوى يمكن اعتباره خللاً أو اضطراباً في الضبط ، انتقلت بعض جوانبه الى منتسبي المؤسسة الجديدة، من خلال العسكريين الذين عادوا الى الخدمة فيها، حاملين معهم قدراً متدنياً من الضبط وضعفاً في معايير الالتزام، وعندما كلفوا او كلف قسم منهم بمهام التهيئة والتدريب "خاصة بالرتب الصغيرة" فشلوا في ارساء اسس صحيحة للضبط مع بداية انتقال الى الديمقراطية بسبب فهمهم المخطوء لمعطياتها الصحيحة، وتأثر قسم منهم بالعسكر الاجنبي الذي يؤسس انضباطه بعيداً عن العلاقات الشخصية، وعلى وفق فلسفتة لتنفيذ الأوامر لا علاقة لها بالسياسة والموقف من الحكومة، والعشيرة والطائفة والقومية.
بسبب قصر فترة التدريب، ونوعيته التي لا تتضمن مفردات تتعلق بتقوية الضبط، وكذلك حالة الطوارئ التي يعيشها المنتسبون، والتي لا تسمح عملياً بمواصلة التدريب، ولا العيش في الثكنات العسكرية كأحد أسس تعزيز الضبط، وبسبب تسليم مسؤولية قيادة بعض الوحدات، والمؤسسات العسكرية إلى عسكر برتب صغيرة حصلوا على ترقيات سريعة لم يدركوا أهميته، تكّونَ نوع من الضبط اقترب فيه الأدنى من الأعلى بمسافة اخلت بالالتزام وبدافعية التنفيذ الطوعي للاوامر، ادى الى:
آ. حصول حالات متكررة من عدم تنفيذ الأوامر أو تنفيذها انتقائياً أو حتى التجادل في موضوع تنفيذها.
ب. عدم التقيد بالضوابط، والتوجيهات العسكرية التي تطلبها المؤسسة، والحكومة في بعض الأحيان.
ج. قيام الأدنى بترك العمل أو الواجب المكلف به، إذا لم يتفق ورغباته الخاصة دون أية قيود، ومتابعات قانونية.
د. تكوين نظرة داخلية سلبية للعسكر الى ذواتهم.
هـ. ضياع هيبة العسكر في نظر الآخرين من أبناء المجتمع العراقي.
نتائج سلبية للضبط، أفقد الجيش والقوات المسلحة عوامل التأثير، والتقدير، وكذلك التعاون الطوعي لأفراد المجتمع على الرغم من الجهد الذي بذلاه لحماية الوطن من حمى الارهاب. اذ تسجل عديد من حالات انحياز واضحة لأهالي من المنطقة التي يقاتلون فيها الى الارهابي الاجنبي الذي يقاتل في ساحتهم. وسكن أغراب وارهابيين بين الاهالي، ولم يبادر احد منهم لاخبار السلطات العسكرية بوجودهم غير الشرعي. وتسجل أيضاً أن شيوخ عشائر، حموا ارهابين اجانب، وافراد من ابناء المنطقة عملوا ناقلي اسلحة واعتدة ومعلومات من والى الارهابيين.
ان مشكلة العسكر لا تقتصر على الخلل الذي اصاب الضبط، فجعله توفيقياً ضعيفاً، بل وكذلك بالعادات والصفات المخلة التي اضرت بجوانبه القيمية، خاصة تلك التي اكتسبت او انتقلت من الزمن السابق، والتي لا تنسجم وأعراف المؤسسة العسكرية وتاريخها العريق، وكذلك التي لا تعكس طبيعة عيش منتسبيها وأسلوبهم في التعبير والعلاقات العامة، مثل الاستعراضية الفردية والجماعية في حضرة الأعلى "الحاكم" رقصاً أو تمثيلاً أو ادعاءً، اختلطت في مواقفه أو تفاعلت قضايا التراث والعادات والتقاليد، وجنون العظمة للحاكم الفرد ورغباته الجامحة في العلو والتأليه، وإثبات الوجود.... تفاعل انتج في الزمن السابق حالات هستيرية، وجد المعنيون أنهم في حضرة الحاكم أو من يمثله منساقين في تأدية الرقص أو الهوسات، بطريقة توحي وكأن الواحد منهم غير قادر على ضبط مخارج سلوكه قيمياً. وإن كان شيخاً لعشيرة يدعي أنه من علية القوم أو ضابط يفترض انه يشعر بالهيبة المهنية في أي موقف يكون، لأنه وعندما يرفع غطاء رأسه والقيام بتأدية الدبكة أو الهوسة رقصاً في حضرة الحاكم، فانه يؤدي سلوكاً مخالفاً للقيم العسكرية، جاء في الأصل لضعف انضباطي، ورغبة في استثمار الموقف لصالح رغباته في استجداء رضا الحاكم، ومكارمه، ولتفادي عدم رضاه. وأنتج أيضا أنواعاً من السلوك يستعرض فيها الفرد قدرته على الإقناع، وتقديم فروض الطاعة والولاء، يتدافع فيها مع الآخرين بقصيدة شعر رخيصة، أو أهزوجة يتيمة، أو بطولة في معركة خاسرة. دوافعها النفسية لا تتعدى الرغبة في ان يستغل ذلك الشاعر أو الوزير، أو الضابط وهم الحاكم في إنه الأكبر، والأعظم فيحصل على مكارمه بمستوى قدرته على الإيهام، ويتفادى عقابه في أحسن الأحوال، وهو ضعف في داخل النفس، وخلل في الانضباط القيمي. والدليل على هذا هو ان بعض الضباط أدوه طوعاً، وبعضهم غالى بتأديته، وبعضهم الآخر، أبى ان يتقدم خطوة باتجاهه، وحافظ على، مهنيته. إنه انتاج "سلوك" محصلته خسارة للقيمة الاعتبارية لمن يؤديه، وللجهة التي ينتمي اليها، يُبعد مؤديه عن الواقعية، ويسحبه بالتدريج إلى التسويف واللا ابالية وعدم الالتزام، ومع ذلك فإنها خسارة اجتماعية في مسيرة الشعوب غير المتحضرة، لم ترق آثارها السلبية إلى مستوى الخسارة التي تتكبدها العسكرية، عندما يرقص منتسبيها من المراتب والضباط والقادة، في استعراض لبطولاتهم الوهمية أمام الحاكم الأعلى، لأن الراقص من الضباط يفقد هيبته في السيطرة، وإصدار الأوامر بعد أن أسهم هو شخصياً في تغيير النظرة إليه من قائد في ساحة الحرب، والتدريب إلى راقص على مسرح السياسة غير المضمون.
ان الراقص منهم أسهم أيضا في التقليل من قدرته على إيقاف رقص منتسبيه، عندما لا يحتاج إيقاعاته في ساحة القتال. ولأن الراقص من ضباط الصف والجنود، يتوجه برقصه إلى كسب ود الأعلى على حساب رضا الآمر المباشر بطريقة تخل بالعلاقة الضبطية بين الطرفين. ولأن حركاته في الرقص تـأتي على الأغلب لأغراض الكسب، والتغطية على معالم النقص في القدرة والأداء، ومحاولة لإبعاد القائد الأعلى عن التدقيق بها، والاستفسار عن معطياتها، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن أول حالة رقص إيقاعي للعسكر العراقي كانت مع بدايات الحرب مع إيران يوم تصدع الضبط القيمي، وهبطت المعنويات، وتردى مستوى الأداء. وان أول حالة رقص جماعي للضباط القادة، كانت قبيل الحرب الأخيرة "الخليج الثالثة" التي لم يمتلك فيها العسكر أية مستلزمات قتال، سلوك خارج السياقات، لأن العسكر يمكنهم التعبير عن حالهم بالاستعراضات العسكرية، والتدريب وتقديم الإيجازات، التي تسهم جميعها في إعدادهم مهنياً ونفسياً لأن يكونوا مقاتلين أشداء في ساحة الدفاع عن وطنهم، كما هو حال الجيوش التي تحضى بالتقدير والاحترام، وليس بالهوسات، والدبكات، والرقص الجماعي، التي عاود ممارستها عسكرنا الجديد بطريقة ذكرتنا بأيام كان فيها العسكر فرقاً تؤدي مهام إنعاش المعنويات المضطربة للحاكم، أكثر من توجهها للدفاع عن البلاد، فأسهمت من حيث لا تدري بالحال الذي وصلت إليه البلاد.
إنه عود غير محمود، طرب لبعضه السياسيون الجدد في زياراتهم لوحدات مقاتلة، وغفل عن ممارسته بعض القادة العسكريون، عندما لم يتدخلوا لمنع حدوثه سلوكاً مخلاً بالضبط، سيسهم بقاءه في تأخير خطوات اعادة الهيبة الى القوات المسلحة، التي بدونها لا يمكن ان تكتسب صفة مهنية تبقيها في أعلى سلم التصنيفات الوطنية.
6. التخطيط العشوائي
ذهب العسكر بعد السقوط إلى بيوتهم، وَمُسحتْ من الذاكرة الجمعية خبرة التخطيط والتطوير والإدارة المتراكمة، وقامت على عجل شركات أجنبية، ولجان يرأسها خبراء أجانب وآخرين من أصول عراقية باختيار بعض الضباط، ليعودوا إلى الخدمة من بين المتقاعدين والمستمرين بالخدمة في الجيش السابق، والمفصولين منه لاسباب سياسية، ومدنيين لم يسبق لبعضهم الخدمة في مؤسساته. ونسب قسم منهم إلى العمل برتبهم السابقة أو بتعديل لمستوياتها حسب الاجتهاد، والقسم الآخر أعطوا درجات مدنية بتفاوت محكوم أحياناً بالاجتهاد أو المعرفة بأعضاء اللجان أو حتى التزلف الانتهازي للمعنيين والاحزاب وسلطة الاحتلال. وفوق هذا وذاك، لا احد يعترف بالخطأ والتقصير، اذ لو اتيحت الفرصة، لمناقشة احد الضباط او واحد من المنتسبين في السنوات الاولى للتشكيل عن خطأ يرتكبه، سيجد المناقش اجابة سريعة وبسيطة على طرف لسان الضابط او المنتسب" وماذا حصل، هذه امور بسيطة" وقد يضيف البعض باللهجة العراقية " اشراح يصير هي خربانة". ..... اجابات ومعها ردود فعل سلوكية مشابه، تجعل العمل مملاً، وغير مجدياً.
ان الجميع قد واجهوا ظروفا صعبة، لم تتمكن فيها الإدارة من توفير أجواء عمل صحية، تسببت جميعها في ان يغيب التخطيط أو على الاقل بعض خطواته العلمية في ادارة عملية اعادة التشكيل، بعد ان استبدلت باسلوب المحاولة والخطأ، فتضاعفت الكلف وزادت اتجاهات التجاوز والتقصير، والميل الى الشروع بالعمل كل مرة من البداية، أي من الصفر. خاصية تميزت بها الادارة العراقية المدنية والعسكرية، لأسباب نفسية، اذ يعتقد كثير من البادئين الجدد مع انفسهم، انهم الافهم والاقدر على تحقيق الغاية، وانهم مختلفون عن سابقيهم، فيضطر الواحد منهم وتحت ضغط هذه الاوهام، وضعف التخطيط وقياس المردود الى ان تكون بدايته من الصفر، فاصبح بالتكرار وكأنه داء اجتماعي نفسي اصيبت به المؤسسة الادارية والعسكرية منذ زمن بعيد، كان له التأثير الكبير في زيادة نسب الفشل وتقليل النجاح، وضياع جدوى التخطيط.
ان مؤشرات العشوائية في جوانب التخطيط أو غيابه بشكل كبير في السنوات الاولى على وجه التحديد، تأشرت من خلال العمل في بعض الأحيان بأسلوب الفزعة في غياب شبة تام للضوابط، والسياقات العسكرية والإدارية، حتى يطلب الاعلى من معيته مثلاً ان ينجزوا عملاً، وكأنه يستثير في داخلهم الهمة أو حتى يتوسلهم، لأنه عارف بانهم يمكن أن يتركونه في منتصف الطريق، ويعيد طلب عونهم ليس بصيغة الامر، وانما باسلوب الفزعة التي يضمن فيها اداءً وانجازاً يفوق الكم الذي يمكن ان يأتي عن طريق اصدار الاوامر بالطريقة الاعتيادية، فغلب بسببها وعوامل اخرى الاجتهاد الآني والذاتي في العمل على حساب التخطيط المستقبلي المدروس.
ان العشوائية فيما يتعلق بالتخطيط شملت عديد من الجوانب بينها الاعادة الى الخدمة العسكرية، التي كانت في زمن بريمر غير مشروطة بالانتماء السياسي، ولا بمقدار الضرر من النظام السابق، وتتم بطريقة تقترب من الصدفة التي تأتي عن طريق معرفة عراقي يعمل مع قوات الاحتلال مثلاً، أو سياسي عراقي كبير المستوى قريب من سلطة الاحتلال، أو دعوات خاصة من هيئات موجودة في تلك السلطة تقوم بالاختيار، أو تزلف للنظام الجديد، ورغبة في تغطية الآثام القديمة، أو سعي للاستفادة من واقع جديد. حتى بات من المألوف في تلك الايام مشاهدة اصطفاف ضباط قادة امام مكاتب الاحتلال طلباً للعمل، بينهم ضابط برتبة فريق ركن، سعى لان يعمل مترجماً لدى الامريكان وهو في الزمن السابق، مديرا لجهاز أمني مهم.
ومن المالوف ان ترى نفس الضابط او آخر بنفس خط خدمته، يتنقل على مقرات الاحزاب، والحركات السياسية القادمة من الخارج الداعمة للتغيير، يعرض نفسه لخدمتهم والنظام الجديد، باسلوب رخيص.
ومن المألوف كذلك، مشاهدة عشرات الضباط في القنوات الفضائية، بينهم من تعدى عمر السبعين عاماً يدعو الاستفادة من خبراته في الجيش الجديد. فتكونت توليفة اتجاهات أضرت بجهود الدولة لما يتعلق باعادة التشكيل، وقدمت الى بعض المناصب والمفاصل القيادية البعض من غير المنسجمين وخطوات التغيير، فأسهموا عن عمد أو بدونه في اعاقة خطوات التخطيط لتشكيل أفضل.
هذا ولو تتبعنا عقبات التخطيط للعودة الي الخدمة نجد أنه وفي مرحلة مجلس الحكم أعطي لكل عضو أو حزب مشارك في المجلس عدداً من وكلاء الوزارة، والسفراء والمدراء العاميين يقومون بترشيحهم، ويصدر الحاكم أمر تعيينهم، ومن بعد ذلك خول الوزراء حتى منتصف عام 2005 بالتعيين إلى مستوى مدير عام، مما اعطى وزيري الدفاع والداخلية في حينه صلاحية واسعة في الاعادة الى الخدمة في الجيش والشرطة الجديدين، ومنح الرتب والدرجات الوظيفية بأسلوب حتمته الحاجة، يقترب لما يتعلق بالإعادة الى الخدمة من عملية الحشر الجماعي.
كما صدرت من الحكومة خلال تلك السنة تعليمات بإعادة المفصولين، والمتضررين سياسياً على وفق ضوابط، تدقق بها لجنة يرأسها قانوني، وعضوية ممثلين عن الادارة، والمفتشية العامة، لكنها لجان وإن أدت مهام جسيمة في النظر بآلاف الطلبات المقدمة، فقد ابقت عامل الضرر السياسي غير واضح المعالم أو غير محسوم بشكل دقيق، كما يقتضيه القانون ومصلحة البلاد من عودة السياسي المتضرر، بغياب السجلات، وكثر التزوير، وسعة الطلبات، وبسبب عدم الوضوح، وارتكاب أخطاء، اعادت وزارة الدفاع مثلاً تشكيل اللجنة أكثر من مرة، وأعيد النظر بالقرارات الصادرة منها كذلك اكثر من مرة، حتى استقرت لجنة يرأسها ضابط برتبة فريق، وعضوية ممثلين عن الدائرة القانونية والاستخبارات العسكرية، تتبع دائرة المفتش العام، تحيل قراراتها بالإعادة الى لجنة للتحقق، شكلت في الامانة العامة لمجلس الوزراء من قضاة مخولين للتحقق من دقة قرارات الشمول بقانون المفصولين السياسيين، ومن ثم اصدار امر ديواني به ليكون نافذاً وملزماً تطبيقه قانونياً. ومع هذا التدقيق فان المعنيين في العمل داخل صفوف هذه اللجان قد اشتكوا من كثر التجاوز والتزوير والادعاء بالضرر غير الصحصح، فأعيد الآلاف من العسكريين على وفق هذا القانون، بعضهم لا يصلح، وحشر مع غيره من حشر جماعياً. وبصدده على سبيل المثال، ذكر المستشار القانوني لوزارة الدفاع في اجتماع مجلس الدفاع الاعلى عام 2005، أنه وكرئيس لجنة الوزارة للنظر بطلبات الشمول بقانون عودة المتضررين السياسيين، وجد طلباً قدمه عقيد في الجيش العراقي السابق يدعي فيه أنه محكوم من محكمة عسكرية في الزمن السابق لأسباب سياسية، وقد تذكره المستشار جيداً، لأنه كان الحاكم الذي حكمه في ذلك الحين، وتذكر أسباب الحكم التي كانت تتعلق بالتجاوز على المال العام. ويوم واجهه وذكرّه بأوليات الحكم، سحب طلبه وغادر الوزارة. انها حادثة تؤشر وجود أكثر من أخرى لم تصدف أن يكون أحد أعضاء اللجنة، يعرف صاحب الطلب وأوليات الضرر الحاصل عليه، الأمر الذي يمكن فيه القول أن شرط السياسة، لم يضمن وحده عودة ضباط وموظفين نزيهين أكفاء يمكن ان يرفدون عملية اعادة التشكيل بطاقات، وكفاءات تعين على تحقيق الغاية الوطنية، ويمكن القول أن تخبطاً قد حدث بعيداً عن التخطيط، إذ فرض الجانب الامريكي في بداية التشكيل صيغ لدوائر ومقرات في المؤسستين العسكرية والامنية، على وفق خبرته في الادارة والقتال، دون النظر الى طبيعة المهام الموكلة للجيش الامريكي مثلاً، والتي تشمل الساحة الدولية برمتها وتلك الموكلة الى المؤسسة العسكرية العراقية، التي لا تتعدى الدفاع عن الحدود، وتهدئة الوضع الداخلي، فجاءت تسميات لا تمت الى العسكرية العراقية بصلة. وتعيين في المناصب بعيدة عن الاختصاص. ومهام يصعب تنفيذها أو التعامل معها. كما نسب مدراء لمديريات كان بعضهم في بداية التشكيل يديرها من مُضِيفْه بالعشيرة... واقع حال لم يقتصر على وزارة الدفاع (2004- 2005)، بل وشمل كذلك وزارة الداخلية التي انشأت دوائر ومديريات تفوق مهامها حاجة العراق في هذه الفترة الزمنية، واجتهد فيها قادة معنيين بإعادة التشكيل بما يفوق التوقعات، اذ اسهم امين السر للوزارة في نفس العام 2005 مثلا في اعادة مجموعة من الضباط الطيارين "لكونه في الاصل ضابط طيار" وشكل لهم تنظيماً ربطه بمكتب الوزير، واستمروا يحضرون إلى الدوام الرسمي ويخرجون منه دون طائرات ولا طيران، حتى تبدل الوزير في الحكومة المنتخبة مؤقتاً، فألغى ذلك التنظيم ووزع من أراد الاستمرار بالخدمة من الضباط على دوائر الوزارة الاخرى، فاصبح مدير شرطة محافظة طياراً، ومدير مديرية ملاحاً، وهكذا.
انه عمل وشكل تنظيم على اساس الخبرة الاجنبية، والتجربة والخطأ أخر المسيرة احياناً، اضطرت الوزارتين في مراحل لاحقة الى تعديل هيكليته، ليكون عام 2012 أقرب لشكل التنظيم القديم منه الى الوضعية الاولى التي اعقبت التغيير، فكان بالإضافة الى فعل التأخير، تبذيراً بالجهد والمال لا مبرر له، حدث بسبب غياب أو التخبط أو عشوائية التخطيط.
7. المسخ المهني
لقد مر العسكر العراقي وجيشه بأزمات ومصاعب، من سبعينات القرن الماضي، وحتى الوقت الراهن 2012، تَرْقى بعضها الى حد الشعور بالمهانة والاذلال، عندما اختار ضابط في بداية الثمانينات مراسله الخاص ابن مقاول مشهور، ليستغله مادياً، وعندما سارع قائد فرقة، لسحب ابن عمه من الحافات الامامية لجبهة القتال، ووضعه في مكتب سرية مقر الفرقة، حماية له من موت محتمل، وسخر قائد فيلق كل الجهد الهندسي لفيلقه من أجل تسوية وتعديل مزرعته، وتوجه عميد في أحد الصنوف المقاتلة، الى العمل كسائق تكسي بسيارته التي استلمها مكرمة من القائد، يُعِينَ بواردها مصروفاته والعائلة، وسارع آخر أن يكون مساعداً لدلال عقارات كان يوماً جندياً في وحدته، وقصد ثالث محلاً تجارياً، قَبِلَ أن يكون فيه بائعاً لأدوات صحية يملكها أحد جنود حمايته. وهكذا كان الرابع والخامس حتى وصل الرقم الحقيقي، آلاف ابتعدوا حد الانحراف عن الضوابط والقيم العسكرية، يصعب عدهم في ظل غياب الاحصاء الدقيق في دولة لا تؤمن بالإحصاء، فتسجلت في واقع الأمر أول حالات مسخ للمهنية العسكرية العراقية، لم يكن يألفها الجيش العراقي من قبل، ولا يقبل بوقائعها في قوانينه السارية.
لكن هذا لم يتوقف على النظام السابق إذ أن الشعور بالمهانة التي كانت واضحة معالم حدوثها في العهد السابق، لوحظ بعض منها بعد السقوط، عندما ازيلت الاقنعة وقيود الامن العسكري، وعاود البعض التصرف على وفق عادات سابقة اكتُسبت من ذاك الزمن، اذ وبعد أن خسرت الدولة عملياً معركتها مع الحلفاء، وبعد ان دفع العراق ثمن الخسارة، وتوجه الضباط والمنتسبين الى بيوتهم عاطلين عن العمل، ساعين الى العيش بعيداً عن مهنيتهم، وخارج ضوابط رتبهم. بدأت عندها مشاعر المهانة، ودوافع الاستهانة عملياً، وكأن عادات المسخ قد ظهرت حاكمة للسلوك الجديد في الزمن الجديد، عندما هرول ضابط برتبة عالية مسرعاً قبل ان يسبقه الغير ليكون مترجماً عند العريف الاجنبي، فكانت هرولته مسخاً للرتبة العسكرية وسط النهار.
وعندما توجه ضابط برتبة لواء لان يكون دليلاً أو مرشداً للقوات الاجنبية.
وعمل آخر برتبة فريق داعية لتجميع الضباط المتضررين في جمعية خيرية.
وقبل عقيد أن يعمل في الحرس الوطني برتبتين أقل عن رتبته، وهو المصنف معلم مشاة من الطراز الاول.
فكان عملهم وتنقلهم مسخاً لا ينسجم والمناصب العليا التي شغلوها في الزمن السابق. مسخ للشخصية العسكرية وللرتبة العسكرية، في سوق لا يرحم القائمين عليه حملة الرتب العسكرية، وان كانوا ممن قاتلوا صدام حسين. وعندما طالب بعض القائمين على اعادة تنظيم الجيش الجديد ان يجعلوا وصول طائرتي استطلاع استرالية وتحليقها لأغراض المراقبة، وجمع المعلومات منتصف أيلول 2004 عيداً لتأسيس القوة الجوية، وتوجه ضابط في هندسة الميدان الى ان يكون خبيراً في مجموعة ارهابية معادية للدولة العراقية، يزرع معها الالغام على طريق يسلكه الزملاء في مؤسسته العسكرية، وآخر من الهندسة الآلية الكهربائية، ان يكون عاملاً في مجموعة تفخيخ وتفجير السيارات، وسط جموع الساعين الى التطوع في قوى الامن الداخلي والجيش الجديد. ولف مجموعة ضباط على موظفي بريمر من الدرجة الثالثة، وعلى قادة المناطق من جيش الاحتلال يعرضون خدماتهم وافكارهم المطابقة لنهج الاحتلال، واستعدادهم للتعاون حتى نهاية الطريق، أملاً في العودة آخر النهار برتبة أعلى من الاستحقاق، وبدرجة وظيفية أعلى من المثبت في الملاك. وعندما ابتدع ضباط كبار مواقف وهمية مناوئة للنظام السابق، واستعرضوا أعمال بطولية في سجون صدام لم يدخلوها أصلاً أو دخلوها صدفة لعدم التبليغ عن صديق تجاوز في الكلام * أو لقضايا فساد وأكل الحرام.
ان انكار سبع عقود من عمر القوة الجوية، بمجرد تحليق طائرتين اجنبيتين، مسخ صريح لكل التاريخ العسكري، وانتهاك واضح المعالم لوطنيتها والجيش في آن معا. والعمل عند الارهابيين فنيا بيع رخيص لخبرات تعلمها العسكريون، ومسخ لمعاني الخبرة العسكرية، وادعاء الكبار غير الصحيح تاريخياً، وعرض الخدمات نفعياً مسخ.
وجميعها انواع مسخ مهني ذاتي، وهناك انواعاً اخرى من المسخ، تتعلق بالادارة ونهج التفكير العام، عندما يمنح ضابط صف رتبة عميد بتوصية من الحزب المعهود، ويحصل ملازم مجند على رتبة عميد ويتبوأ منصباً رفيعاً خارج الضوابط والقوانين، بإيهام الحكومة عن قيامه ببطولات في عالم الأوهام، وينال عقيد رتبة فريق بدفع من رجل دين، ويحصل ضابط كان مستمراً في الخدمة متمتع بكل المكرمات والترقيات التي منحها صدام، على رتبة أعلى في الزمن اللاحق، ويجلس في المكان الأعلى بدفع من رئيس كتلة، فيتندر عليه الاقران بقول بغدادي شائع باللهجة العامية (مدومن على الراسين).
ومثله موظف بالدرجة الثالثة يصبح مدير عام لأغراض التسوية الطائفية. وآخر يؤتى به من البيت عقيداً، ويخرج من المكتب فريقاً، يطلب احالته على التقاعد بسبب عدم رغبته في الخدمة بالجيش الجديد، لأنه من العائلة الفلانية.
وعندما يستفرد القادة الكبار بالمناصب المغرية في الملحقيات العسكرية، ويحجزونها حكراً لاولادهم، وبالايفادات الخارجية لانفسهم يكررونها في كل شهر أكثر من مرة بسبب جوع نفسي. جميعها مسخ فكري، استمرت عملياته بالتتابع حد قيام جمع من ضباط الركن عام 2005 بمحاولة تشكيل فرقة مدرعة بعيداً عن توجهات الجيش الرسمي للدولة، وبمحاولاتهم هذه، دعوا ضباطاً آخرين وضباط صف ومراتب من العاطلين، دون موافقة الاجهزة المختصة، لان يتجمعوا في شارع الربيعي ببغداد، ليبدأوا التسجيل واعدين انها ستكون فرقة رائدة، تقبلها الحكومة، وتقبل ان يكونوا هم قادتها، فتدافع المحتاجون والممسوخون كعادتهم على الارصفة المكتظة، حتى فَرَقتّهم سيارة مفخخة، فكانت فكرتهم ومساعيهم لاستغلال الدولة، وغفلة الدولة عنهم بيع صريح لجهدهم العسكري ومسخ اكيد لمهنيتهم.
هذا من جهة ومن جهة اخرى، فقد عاش بعد التغيير منتسبو الجيش الجديد، وقوات الامن قتالاً فعلياً، وحرباً نفسية مع عدو تغلغل بين الناس، في وضع لم تدرك إدارتهم العسكرية، والسياسية حجم التأثير السلبي لذلك التغلغل، ولم تسع للتعامل معه نفسياً ومعنوياً، الأمر الذي أثار في داخل الكثير منهم قلقاً، كان له حصة في اضطراب حالتهم النفسية والمعنوية العامة دفعت ببعضهم الى سلوك مخالف للاعراف والتقاليد العسكرية، بحدود يوصف بعضها بالمسخ السلوكي.
المسخ من الناحية النفسية
ان المسخ بكل اشكاله، حالة نفسية، افرزتها الادارة وظروف الحرب والحصار، واساليب التعامل واتجاهات الاهمال، وضعف البناء النفسي الذاتي، أسهمت في هبوط ملموس في النشاط العام للجميع بينهم العسكريين، وادت الى اضطراب العلاقة التفاعلية بين المستويات القيادية الاعلى والادنى وكذلك بين المافوق والمادون، وقللت من هيبة العسكرية العراقية، ومن اعتزاز العسكري بذاته العسكرية الى حدود التجاوز على المألوف وكسر القواعد والمعايير السائدة. فالضابط المتخرج حديثاً من الكلية العسكرية في ستينات وسبعينات القرن الماضي على سبيل المثال، يحاول في تنقله العام ان يركب سيارة تكسي دون وسائط النقل العامة، قليل ما كان يتجول ماشياً، في تجواله يتجنب ارتياد الاماكن الرخيصة. لا يعمل أية اعمال حرة خارج اوقات الدوام الرسمي. يعتز بهندامه وبقيافته العسكرية، لاعتداد في نفسه، واحترام لرتبته العسكرية. لكنه حال استمر بالتردي كلما ابتعدنا عن سني السبعينات، واقتربنا من 2003، ومع هذا بقيت سلطة الضابط على منتسبيه قوية نسبياً، حتى يحس من عاصر الزمنين ان سلطته على معيته من العسكريين والمدنيين لم تكن هي نفس السلطة التي كانت موجودة قبل عشرين عاماً، كذلك لا يرى الجندي وضابط الصف ان تبعيته المهنية للضابط كما كانت من قبل، فهو الان يحسب التحاقه بالخدمة من أجل العيش، وليس بدوافع اخرى وان كانت في اطار تحقيق الذات احياناً. فتجمعت اخطاء وتجاوزات وانحرافات عبرت عن أوسع عملية مسخ للمهنية العسكرية.
8. الوطنية المجزأة.
تم التخلص من ديكتاتورية النظام السابق عن طريق الأجنبي الذي وصف رسمياً بالمحتل، فأدخل العراقيون في حالة صراع بين الرفض لوجوده ومشاريعه بدافع الوطنية التقليدية، والقبول به وبما ينجم عن وجوده تحت ضغط الحاجة، ولزوم التغيير بقوة ما كانت ممكنة الا من خلاله. وأعلنت سلطة الائتلاف المؤقتة فور سقوط النظام، ان أهدافها تتمثل في إعادة بناء أركان الدولة التي تهدمت، بينها الركنين العسكري والامني اللذان اطلقت على رأسهما رصاصة الرحمة، بعد أيام من السقوط، وهما الركنان المهمان لأمن الدولة واستمرارها. واقامت او فرضت الديمقراطية بطريقة أخطأت فيها بالتعامل مع المؤسسة العسكرية والامنية، ليس فقط بانهاء وجودهما أحد رموز الوطنية العراقية، بل وبطريقة تشكيلهما بتقييدات على الحجم والتسليح والتجهيز ونوع المهام، فتسببت في تقييد إمكانية تأثيرهما الايجابي على الجمهور وطنياً، واضعفتهما قوة ضابطة يحتاجها الجمهور المنفعل لضبط سلوكه وطنيا. اذ لم تدخل مدفعية الميدان بعياراتها الثقيلة الخدمة العسكرية على سبيل المثال الا قريبا من عام الانسحاب 2010، وجهز الجيش بالدبابات الحديثة نوع ابرامز في نفس العام، وسيستلم اولى طائرات اف 16 بعد عدة اعوام، حسب التعاقد المبرم بين القوة الجوية العراقية والجهات الامريكية، ومازال حتى عام 2012 بحاجة الى كثير من الاسلحة والمعدات، ليكتمل تشكيلة بالشكل الذي يكون قادرا على الحضور في ساحة التوازن الاقليمي. وأدخل في القاموس السياسي العراقي مصطلحات جديدة مثل المحاصصة التي أصبحت نهجاً لمن يدير البلاد في التعامل السياسي، والإداري وبمستويات أسهمت في انحسار معنى العراق وطنا آمنا لصالح الكيانات القومية، ولصالح الطائفة، وكذلك للعشيرة والمنطقة.
غياب الجهد الخاص بترميم الخروقات الوطنية
لم يفسح المجال للحكومات المتعاقبة بعد التحرير أن تخصص جهداً لترميم الخروقات التي طالت الوطنية العراقية، ولم يكن لأي منها مجالاً مكتوباً في برامجها الانتخابية بشكل واضح لترميم التصدع الوطني. الأمر الذي تسبب في ان يكون الاتجاه قوياً لدى الكثيرين لوضع مصلحته الخاصة قبل مصلحة العراق العامة، كأساس للاستمرار واسلوب لادارة عملية البناء لجميع اركان الدولة بينها الركنين العسكري والامني اللذان لاتنفع مع عملية بنائهما التوجهات ذات المنحى الخاص، حزبياً، ولا تنجح في طريق بنائهما تطبيقات المحاصصة والتوافق والتراضي طائفياً وقومياً التي سادت عموم الدولة العراقية الجديدة. وتسبب أيضاً ان يسود السكوت عن الخطأ تحت بند "انا لا علاقة لي" أو كما يقال كثيراً "شعليّةَ" تلاه البند المتمم له حيث الاستسلام الى عدم الرغبة في الإصلاح، لان الاصلاح جهد مبذول، والجهد او طاقته قليلة او غير موجودة.
والاصلاح مبادرة، ومن يعيش تحت ضغط التهديد المستمر لا يمكن ان يبادر.
والاصلاح تحديث فيه تحد للقديم والتحدي في ظروف العراق التي اعقبت التغيير مجازفة لا تحمد عقباها، فحل بدل التوجه الى الاصلاح، تحرك ذاتي في دائرة أساسها تقوية الوضع الخاص. وبهذا الصدد، ولاغراض الايضاح، لو جرى التفتيش بشكل دقيق ومنصف في سلوك بعض الضباط القادة والمدراء العاميين ورؤساء الاقسام، الذين تولوا مهام اعادة تشكيل المؤسستين في السنين الاربع الاولى التي اعقبت التغيير، لتم الوصول الى قناعة ان قسماً منهم بات مقيماً عند بيوت ومقرات حزبيين من رجال الدولة الكبار، ومسؤولين مهمين في قياداتها العليا، يترددون عليهم في كل المناسبات، وكأن الواحد منهم يعرض نفسه تابعاً أو مؤيداً لهم، يستفاد من ترشيحاتهم ويحتمي بهم، فاصبح بالتدريج محسوباً عليهم. عليه بات يسمع ضمن اروقة المؤسستين في تلك السنين ان الضابط الفلاني محسوب على الجهة الفلانية، والجهة الفلانية تدعم القائد علان. لغط لم يخجل المعنيين منه، بل ومنهم من يجد متعة بالاشارة اليه حد ادعاء بعضه وان لم يكن موجوداً بالقدر الذي يدعيه.
ان الذاتيين بطبيعتهم لا يتوقفون عند حدود أنفسهم والطوق الذي يفرضونه حولهم، اذ وللتقليل من اثر القلق الناجم عن الذاتية، يسعون لتعميم حالة الشك، وتوسيع دائرة التجريح، والميل إلى العزل، والاتهام، والتسقيط، فاسهم هذا النوع من السلوك بتعزيز موقع جماعة الانتماء على حساب العراق وطن للجميع، واصبحت المشاعر الوطنية مجزأة بين أكثر من اتجاه.
9. الامن المخترق
أنشأ مع بدايات اعادة تشكيل الجيش، جهداً امنياً استخبارياً في وزارة الدفاع، بمهام رئيسية تتعلق بعمليات جمع المعلومات، وفرض الامن والاستقرار، وتحقيق قدراً من الردع النفسي يحول دون حصول خرق أمني. وبدأ هذا الجهد بمسمياته المذكورة في الباب الاول مهامه بأشخاص بعضهم غير القليل لا يمتلك خبرة عمل مهنية، وشباب خريجي كليات أوفد البعض منهم إلى الخارج"أمريكا" بدورات قصيرة الأمد، على أمل أن يؤسسوا قاعدة عمل مستقبلي تنسجم طبيعته، وفلسفة المؤسسة العسكرية وحجمها المتواضع، لكن الجهات المعنية بهذا الجهد، وتبعاً لتطورات الموقف الأمني سلبياً، وضرورات الحرب ضد الارهاب، وجدت انها مثل باقي افرع القوات المسلحة، بمواجهة مهام الأمن الداخلي البحت، فسارعت إلى التعامل معه بداية، على وفق امكانياتها المتاحة بطريقة الفعل ورد الفعل، وكذلك بأسلوب الاجتهاد الذي تقع مسؤولياته في الغالب على المفصل القيادي الأعلى في الدائرة المعنية، وسارت في مجاله إلى الأمام دون التفرغ إلى مهمة اكمال جاهزيتها، وهي في طريق العمل والبناء وجدت انها في بيئة صعبة، تتميز بجوانب تزيد من مصاعب العمل، وتحد من التحرك بالاتجاه الصحيح، مثل:
آ. خرق أمني شمل عموم المجتمع العراقي والدولة، واضعاً في أعلى اهتماماته المؤسسات العسكرية والامنية ذات الصلة بالتعامل مع حصوله، بجهد يفوق الجهد المتيسر للاجهزة المعنية بالامن والاستخبارات، التي مازالت في طور التشكيل.
ب. سهولة تنفيذ الجهات الخارجية والداخلية عمليات تجنيد بعض الضباط وضباط الصف والجنود الذين انتسبوا الى دوائر ووحدات المؤسستين الجديدتين، المنتمين بعضهم الى تنظيمات حزب البعث السابق، وبعضهم الى قوى سياسية تتعارض مواقفها مع الحكم الجديد استراتيجياً، وأخرى تصطدم به الى مستوى رفع السلاح مرحلياً. وبعضهم الآخر يائس، في داخله استعداد لمد يده الى الاجنبي الذي يحاول أن يجد له موطئ قدم في العراق.
ج. استهداف ضباط المؤسستين، وكبار موظفيها اغتيالاً، واتساع قاعدة الاستهداف، جعل كل ضابط، هدف محتمل، وكل هدف مطلوب حمايته من جهاز أمني استخباري حديث، لا يمكنه عملياً من تقديمها، وان امتلك أضعاف الامكانيات التي كانت موجودة، لانها في الواقع خارج القدرة الفعلية للحماية وايقاف الخروق.
د. سقوط مفهوم الأمن العسكري الذاتي، بين المنتسبين، وسهولة تسرب المعلومات، الخاصة بالضباط العائدين الى الخدمة وتحركاتهم داخل المؤسستين وخارجهما، اذ اغتيل ضباط من كافة الرتب العسكرية، ومن كافة الدوائر والمديريات في بغداد ومدن أخرى بشكل عشوائي، وأغتيل ضباط طيارين واختصاصيين، وضباط شرطة بشكل مقصود، وبطرق تؤشر وجود تسريب لمعلومات عنهم من داخل دوائرهم، واغتيل من منتسبي الاستخبارات العسكرية وحدها ولغاية عام 2008 بحدود ستين منتسب غالبيتهم من مديرية استخبارت بغداد (11).
هـ. ضعف سلطة القانون، بالمستوى الذي لم يكن كافياً لتأمين الردع النفسي للمنتسبين أو حمايتهم من الوقوع في خطأ المخالفة، لخلل في الرأس المعني بالردع، اذ وفي وزارة الدفاع مثلا، اتهم المشاور القانوني الاول نفسه باعمال تجاوز وفساد، وحكم على المشاور القانوني الذي جاء من بعده، بالسجن بعد تأكيد اشتراكه بفعل مخالف للقانون "فساد" رسمياً.
و. شيوع ثقافة عدم الحياء المهني، اذ تجاوز البعض من المنتسبين، ولو القليل الخجل من فعلته المشينة، وبات يتفاخر بها، دون حياء فيكرر مثلاً " المهم ضربت ضربتي". وبعضهم يضع في حسابه ضعف ارتباط العراق بالمنظومة القانونية الدولية "الانتربول" فلا يتحسب لفعل التجاوز والخطأ، خاصة اذا ما كان العائد المالي منه كبير، لانه يفكر بضرب ضربته والسفر الى الخارج، وبعض هؤلاء المتجاوزين عند وصولهه البلد الجديد، والاقتناع باختفاء اثر خروقاته للنظام، يتمادى في عدم الحياء، بالتوجه الى العمل بالضد من الدولة وأمنها، ليخفي عن الغير صورة المخالفة والتجاوز الاصلي على الامن والنظام، وليقنع نفسه أنه قد فعل هذا الخرق والتجاوز لمعاقبة الدولة التي يعارضها.
ان هذه بيئة غير مواتية، عمل وسطها الجهد الامني الاستخباري، فكان عملاً صعباً، هز الثقة التي يفترض ان تكون موجودة بقدرته على حماية المنتسبين، واضعف معالم التعاون بينها وعموم دوائر المؤسسة، وبالتالي دفع البعض من المنتسبين الى عدم اعارة الاهتمام الى الاجراءات الامنية الرادعة، اي انهم تجاوزوا حاجز التحسب لاحتمالات الكشف والمحاسبة، بمستوى يفوق قدرة الجهد الاستخباري المتاح على الردع، فاصبحوا طرفاً في حصول الخروق الامنية، بدلا من ان يكونوا عوناً للحد منها.
دخول الامن دائرة السياسة
ان الامن والخرقات الحاصلة في مجاله مادياً ونفسياً، دخلت أو ادخلت في دائرة السياسة، فانعكس دخولها سلباً على المؤسسة الأمنية والعسكرية، وعلى عملية اعادة البناء المؤسسي لهما وللجهد الامني الاستخباري المهم، اذ وبعد ان أصبح الأمن هاجس جميع العراقيين إثر وصول آثاره السلبية في القتل والاغتيال، والسلب، والتهجير عتبات البيوت، ومكاتب السياسيين، ومواكب المسؤولين، وشخوص العسكريين، وبعد ان اضحى الخطر قريب، هرول قسم من السياسيين إلى الأمام، يجتهد بعضهم حلاً للأمن المخترق على طريقته الخاصة. ويضع بعضهم حزمة حلول تبعاً لمنفعته الخاصة. ويقدم بعضهم الآخر مقترحات أقرب إلى الواقع تبعاً إلى خبرته الخاصة. وهكذا الحال أو المنطق في كل أزمة خرق أمني، يستثار فيها الجميع معنيون وغير معنيين، ويثيرون باستثارتهم آخرين ليقدموا ما بجعبتهم من آراء ومقترحات لتجاوز آثارها الضاغطة، وليتخلصوا من تهديداتها المباشرة على أمنهم الشخصي المخترق نفسياً. فيضعوا في آخر المطاف العصي في عجلة الجهد الامني، ويزيدون من معالم الاعاقة في اعادة التشكيل والبناء.
انها هرولة سياسية أقرب مثال عنها تقديم البعض من السياسيين وأعضاء برلمان عام 2011 مع احد ازمات الخروق الامنية، مقترح تشكيل هيئة أمنية من ممثلي الكتل السياسية لإدارة العملية الامنية المعقدة، معتقدين أن هيئة من هذا النوع قادرة على وضع الحلول السحرية، دون أن يلتفتوا إلى واقع مؤسستهم التشريعية التي لم يستطيعوا أن يجدوا حلاً لتناقضاتها التي تسهم في حصول الخروقات الأمنية، ودون أن يتحسبوا إلى أن هذه الهيئة ستشكل مثل غيرها، عن طريق المحاصصة من جهات قسم منها غير منسجم والخطة الأمنية القائمة، وعدم انسجامهم هذا سَيشلُ بطبيعة الحال منظومة القرار ويزيد من الارتباك.
أمثلة كثيرة لهذه الهرولة بينها تفسير البعض من البرلمانيين لأي تحرك عسكري في منطقته بشكل خطأ ومشكوك فيه، والتفسير الخطأ يعني أعاقة خطوات العسكر في التنفيذ أو تسريب المعلومات عنهم إلى جهات مشبوهة تؤدي بالنتيجة إلى تردي الوضع الأمني.
واستغلال البعض تعقيدات الأزمة لأغراض الصعود السريع، والسعي في الصعود السريع أيام المحنة حرق لكثير من الفنيين والمختصين على الطريق، ومجازفة غير محسوبة قد تودي بحياة الكثير على ذات الطريق الخاص بالخروق الامنية.
وعدم ادراك البعض الآخر، ان الأمن مسألة فنية تخصصية، لا تستوعب كثر الاجتهاد والتشتت، ولا تتحمل وسع التدخل الفني للسياسيين الذي يثير حفيظة منتسبي الجهاز الامني، ويخل في جوانب القيادة والسيطرة المطلوبة بما يزيد من هامش الاضطراب الامني.
من هذا يمكن التأشير الى ان مهام السياسيين والمشرعين فيما يتعلق بالأمن وخطة الحكومة في تحقيقه، لابد وان تتركز على التفويض بالعمل، ومن ثم حشد الجهد الميسور لدعم الدوائر الامنية في سعيها لتأمين الحماية الامنية من خلال التقليل من التحريض في الكلمات والحوارات، التي تضيف عوامل جديدة للتأزم والتعقيد الامني كذلك:
- الدعم المعنوي للمنتسب في ساحة العمل.
- توعية الأهالي، بخطورة عدم التعاون مع العسكر في الميدان، وتشجيعهم على تفسير مواقف الحكومة تفسيراً وطنياً وليس طائفياً، والوقوف معها.
- الاستفادة من العلاقات الخارجية، للضغط إقليمياً ودولياً من اجل تجفيف منابع دعم المسلحين والإرهابيين.
...الخ من أعمال ينبغي أن يقوم بها البرلمانيون والسياسيون أوقات الأزمات، بدلاً من الوقوع في مستنقع المقترحات، والتخبط في تقديمها، لأن تحقيق الأمن الفعلي والاستقرار لا يعتمد على كثر المقترحات، التي تغيّبْ أو تستثني الجهد الفني ميدانياً، ولا يتوقف على البندقية رغم أهميتها بيد السياسي، ولا يتحقق في حال السعي للتدخل في شؤون الاجهزة الامنية فنياً. تدخلاً يمكن تصنيفه عملياً، خرق للأمن من جوانب السياسة، تعيق خطى البناء المؤسسي امنياً.
10. الأعباء المنقولة.
كانت الصورة ضبابية مشوشة من يوم 20/3/2003 موعد الهجوم البري على الجيش العراقي المعبأ دفاعياً بمواضع تتطلب أضعاف أعداده الميسورة للدفاع بشكل صحيح، واضعاف قدراته الفنية والاستخبارية والادارية للقتال بشكل كفء. على إثرها ومن ذلك اليوم الاول للهجوم شرع المنتسبون بالانسحاب الفوضوي من ساحة معركة قدروا خسارتها مسبقاً، وكانت كذلك صادمة عند الاستماع الى قرار حل مؤسستهم. صدمة كونت حيرة وارتباك وترقب مشوب برأي مضاد للقرار، ويوم طُلب من البعض العودة إلى الخدمة من جديد، عاد قسم منهم مشوشاً، حاملاً معه تلك الشكوك والتساؤلات والآراء عن الحرب والخسارة والاحتلال واعادة التشكيل، نشرها بين المنتسبين الجدد فزاد من الحيرة والشكوك.
وعاد قسم منهم محكوماً بالرغبة في ديمومة الاستمرار بالعيش، في ظل ظروف تبدو مؤشراتها الاولية صعبة.
وعاد قسم آخر مأثوراً بالتقرب من السلطة الجديدة، لما يحمله من كره للسلطة القديمة، وقسماً آخراً مدفوعاً باستغلال الفرص، لما في داخله من خصائص للمداهنة والتلون وشره الكسب والتحصيل.
وعاد القسم المتبقي من بين الضباط القادة والآمرين مقتنعاً بضرورة إعادة بناء مؤسسته مهنياً، لكنهم في العراق الجديد وفي تلك الظروف الصعبة كانوا جماعة تحسب قليلة، وتحسب انها تسبح عكس التيار، أو تعيش وَهْم الوطنية. حتى اذا ما حاول أحد الضباط المحسوبة عودتهم وطنياً على سبيل المثال، البوح بقناعاته العسكرية ومشاعره الوطنية أمام الآخرين من الزملاء، يجد أحيانا كثيراً من الاستهزاء والضحك على أفكار، لم يبق منها في الذاكرة الأمنية والعسكرية العراقية سوى الأوهام، وبعض المفاهيم غير القادرة على استثارة الدافعية من جديد.
من هذا تصنف بعض نواحي العودة للمؤسسة العسكرية والأمنية، عبء مسايرة وإرتزاق، أو إن بعض جوانبها عبء اندفاع، لا يخلوا من نوايا الكسب والارتزاق، عودةٌ غابت فيها الإلتزامات المهنية التي يمكن أن تعيد لها الهيبة التي فقدت ومشاعر الأحترام التي قلت. وتصدعت فيها المشاعر المعنوية التي تؤهلها للتعامل مع الوضع الجديد بدافعية عالية. وتلاشت فيها الدوافع الوطنية التي تُرَصن وحدها الصفوف، وتقدم وحدها المؤسسة الجديدة إلى المجتمع العراقي أداة ضبط مقبولة. ومن ثم قلت فيها معالم الضبط وتوجهات الالتزام، اللازمان لتكوين جاهزيتها. فكانت على وجه الاجمال عودة عبء فردية لمنتسبين دون أسلحتهم ومعداتهم، غير كافية نفسيا لتأمين مستلزمات تشكيل جيش وقوات مسلحة جديدة، قادرة على المجابهة والوقوف بالضد من إرهاب دولي شرس في ظروف إحتقان وإصطفاف طائفي يحتاج التعامل معها إلى أعلى درجات الضبط والمهنية.
هموم الالتحاق الى الخدمة
انها عودة زادت تعقيداتها أعباء الهموم المتأتية من الالتحاق إلى الخدمة، عندما وجد الملتحقون أن كافة الدوائر والمقرات العسكرية قد دمرت، وما تبقى منها، أستولى عليه المتجاوزون الحواسم، حتى لم يبق إلى وحداتهم الجديدة، أماكن ملائمة فنياً وأمنياً لفتحها مقرات قيادة وتدريب، إلا القليل جداً وبأمر من الامريكان.
اذ تصادف في السنوات الخمس الأولى على مستوى المقر العام مثلًا، وجود خمسة ضباط قادة، أو أكثر يعملون في غرفة واحدة.
وتصادف تشكيل مديرية كاملة في قاعة واحدة، تنقطع فيها الكهرباء ويجلب المنتسبون الورق والقرطاسية من عندهم لتمشية حالها.
وتصادف مراراً أن يسير ضابط برتبة لواء عدة كيلو مترات حتى يصل مقر الوزارة، لعدم تخصيص سيارات للنقل كما كان معمول به من قبل. لقد أسهم هذا الواقع بداية التشكيل، في تشويه الصورة، وتكوين هموم كثيرة أثرت على الحالة النفسية، وعلى الثقة بالنفس والنظام الجديد، وعلى مستويات الالتزام والتعاطف معه نفسياً، مما أبقى بعض الوحدات للسنوات الأولى في حالة توصف بالضعيفة، ويوصف أداء منتسبيها بالبسيط، أو غير الملائم، وتوصف جاهزيتها بغير المكتملة. حالة وإن تحسنت في جوانب الجاهزية والأداء نسبياً في السنوات الأخيرة، بالمقارنة مع السنين الخمسة التي سبقتها، فإنها بقيت غير مؤهلة فنياً ومعنوياً لتأمين الحسم المطلوب تأمينه في ساحة القتال مع المجاميع المسلحة وقوى الارهاب، حتى إنه حدثت خروقات أمنية متكررة طيلة الأعوام التي أعقبت التحسن استمرت إلى نهاية عام 2012 يؤكد حدوثها ضعفاً في الأداء تعود بعض اسبابه الى نفوس مثقلة بالأعباء. مثل الهجوم على البناية الرئيسية للبنك المركزي المحمي بالدعامات الكونكريتية في حزيران 2010، الذي لم تتمكن فيه قوى الحماية من أفشال الهجوم، والبنك في منطقة يحسب الدخول إليها والخروج منها مسيطر عليه بطريق واحد. ومن ثم الهجوم على بناية وزارة الدفاع القديمة "قيادة عمليات الرصافة" في ايلول نفس العام الذي يفترض أن تكون منطقتها عسكرية شبه معزولة، ومدافع عنها بشكل حصين. والهجوم على بنايتي وزارة المالية على طريق محمد القاسم والخارجية في الصالحية بنفس الوقت. والهجوم على المقر الرئيسي لمديرية مكافحة الارهاب التابعة لوزارة الداخلية يوم 31 تموز 2012 في شارع 52 الذي تقطعه نقاط السيطرة من جهتين. وغيرها هجمات، لم يستطع المدافعون عنها، احباط تنفيذها، كما لم يستطيع زملائهم من الحيلولة دون تنفيذ اعمال تخريب واغتيال وصلت خسائرها في شهر تموز عام 2010 وحده بحدود 535 بينهم 396 مدنياً.
هذا من جانب ومن جانب آخر، فان المؤسستين العسكرية والامنية، قبل السقوط وكما ورد لم تكن سليمة من الآفات، والأمراض الاجتماعية، أعباء أنهكتها وقوضت بشكل كبير بناها التحتية، تشبعت بها عقول الكثيرين حتى اللحظات الأخيرة من عمرهما مؤسستين ذات خبرة قتالية وامنية متراكمة، ومهنية مقبولة لفترة طويلة تصدعت في السنوات الاخيرة من وجودهما السابق فأصبحت عبئاً على أكتاف العسكريين ورجال الامن في الزمن الجديد.
انتقال أعباء الهدم
ان سلطة الائتلاف المؤقت، ومن بعدها مجلس الحكم، والحكومات المؤقتة المتعاقبة لم تتخذ إجراءات كفيلة لتصريف ما ترتب على حل المؤسستين معنوياً ومادياً، واكتفت بدلاً من ذلك بتقديم المنح المالية المؤقتة، جرع منعشة للتعامل مع الموقف المعقد آنياً، ولم توضع خطط مقننة للاستفادة من الضباط القادة، والآمرين المناسبين لرفد التشكيلين الجديدين وتقوية أسسهما، بل وعلى العكس من ذلك أبقيَّ الموضوع تبعاً الى الأهواء الشخصية، والى العلاقات القرابية والحزبية والمنافع المادية. مما تسبب في انتقال الكثير من الأمراض، والسلبيات السابقة كأعباء هدم واعاقة إلى التشكيل الجديد. حتى ان مديرية شؤون المحاربين التي شكلت مع الايام الاولى لتشكيل الجيش، وحُددت واجباتها الرئيسية بتصريف شؤون منتسبيه القدامى والاجهزة الامنية السابقة، وعملت بجد لانهاء غالبية المشاكل التي يعد بعضها مستعصياً، مثل خط خدمة نواب الضباط وضباط الصف، وروجت معاملات لاحالة آلاف الضباط من الجيش السابق على التقاعد، فانها لم تحض بالدعم الكافي لحسم كل المشاكل "الاعباء"، التي بقي منها الكثير دون حل الى عام 2012.
لقد تسـلل البعض مـن الضباط غـير الكفوءين، وأقل منهم من المنـاوئين للحكم الجديد الى جسم المؤسسة العسكرية وكذلك الامنية الجديدتين، وباتوا يشكلون عبئاً، وإعاقة لتطوير العمل نحو الأحسن. وسرى الاستسلام شبه الكامل للأمر الواقع، والقبول بالضوابط والمعايير الخطأ بين المنتسبين ضباطاً ومراتباً ومدنيين، لمستوى وسم الإدارة بقلة الخبرة، ووسم المرحلة بالطارئة. وفوق هذا وذاك جرى نوع من الهروب إلى الأمام في التعامل مع حالة الفوضى الإدارية، والاعباء الموجودة، من خلال إسناد بعض المناصب إلى غير المناسبين.
- تخصيص درجات وظيفية لا تتناسب والشهادة أو الخبرة لغير المحترفين.
- ترقية إلى رتب أعلى لغير المستحقين.
فكانت اعباء اضطرابات اجتماعية، اسهمت عوامل الهروب الى الامام المذكورة بانتقالها من الزمن السابق الى العهد الجديد مشكلة عبئاً ثقيلاً لا يستهان بتأثيراته السلبية على عملية اعادة التشكيل. بصددها تجدر الاشارة الى انه وفي بداية مشوار اعادة التشكيل، تسجل وجود قصور في مسائل إعداد الضباط لشغل المناصب القيادية. وتسجلت اخطاء في موضوع الترقيات بسبب إيكال صلاحيتها ومنح الرتبة إلى الوزير المدني، هذه الصلاحية التي كانت منوطة بالملك في العهد الملكي"إرادة ملكية" ولرئيس الجمهورية في العهود الجمهورية المتعاقبة "مرسوم جمهوري"، وعدم اخذ هذا الحال بالاعتبار، وتركها للوزير دفع طوال السنوات الاربع الاولى من التغيير، إلى ارتكاب أخطاء وتجاوزات تسببت في المحصلة بإقلال قيمة الرتبة العسكرية. واساءة استخدامها من قبل الكثيرين، وضعف الهيبة العسكرية.
مساعي التقويم.
انها مجموع اضطرابات هي في الاساس نوعاً من الهدم، حاولت الادارة العليا في الوزارة والقيادة العامة للقوات المسلحة تقويمها بعض الشيء بعد انتهاء تلك السنين، اذ لو استثنينا منح الرتب العسكرية عن طريق قانون الدمج بغير استحقاق، وبعض الترقيات التي تجري خارج الضوابط، يمكن القول انه وبعد عام 2007 بدأت اولى الخطوات الخاصة باعادة العمل بجدول الترقية للضباط ينتظم صدوره بالنسبة الى المؤسسة العسكرية في 6 كانون الثاني و14 تموز من العام، وبالنسبة الى الشرطة في 9 كانون الثاني و14 تموز من العام. وبدأت لجان الترقية بالعمل والتصويت، ولو ان الجداول الاولى قد شابها التحايل على الضوابط من بعض الضباط الذين أعدوا قوائم الأسماء اذ أدخلوا فيها ضباطاً لم يَستَوّفوا المدة الأصغرية للترقية.
وحذفوا اسماء ضباط يستحقونها بجدارة.
وادرجوا رتباً للترقية الى رتبة اعلى والضوابط لا تسمح بترقيتهم أكثر منها.
وحشروا معهم آخرين يراد ترقيتهم إلى رتب دون وجود ملاك، ودون الالتفات الى ان الرتبة مثل الشهادة تمنح بقانون بعد فترة زمنية، وبعد تأدية امتحانات كفاءة، ودورات اختصاص، تُؤهل المعني الى المستوى الأعلى. خبرة تعين الضابط على قيادة المنصب، وبما يتلاءم والرتبة الجديدة، تلتزم بمعطياتها القيادات العسكرية والامنية، وتعزز الدولة هذا الالتزام. واقع تكرر مثله في جدول 6 كانون عام 2012 بالنسبة الى المؤسسة العسكرية، اذ تداول الضباط ان اثنا عشر ضابطا برتبة لواء حشرت اسمائهم، حشراً بعد اعداد الجدول، قد اثارت ترقيتهم الكثير من اللغط بين عموم الضباط.
11. التحلل الذمي.
لم يختلف الجيش كمؤسسة عسكرية، ولا الشرطة كمؤسسة أمنية في الوقت الحاضر "2012"عن غيرهما من المؤسسات والوزارات المدنية والخدمية والعلمية العراقية الأخرى فيما يتعلق بموضوع او مسألة التحلل الذمي الإداري، والمالي "فساد" الذي أنتقلت حالته المريضة إلى جسمهما "المؤسستين العسكرية والامنية" من زمن سابق وأرسيت قواعده في عموم الدولة العراقية، وزاد أمره سوءاً عوامل عدة بينها:
آ. عدم وجود معايير للعقاب.
ب. غياب الردع النفسي بعد تعطل سلطات الضبط الأمني والاجتماعي.
ج. دخول البعض من النفعيين، والانتهازيين الوصوليين إلى مفاصل الإدارة، وتأثرهم سلباً ببعض مفاهيم وعروض الشركات، والمؤسسات الأجنبية"العمولات" التي فُتحتْ لها الأبواب دون ضوابط، وأسس معلومة.
د. الثقة المفرطة للأعلى بالأدنى الذي ينتسب إلى ذات العشيرة والعائلة والحزب، أو الميل إلى تقديم بعض المنافع له تحت بند المساعدة.
هذه مع غيرها في مجال الخلل بتقدير المصلحة العامة، وانحسار بعض القيم الاجتماعية للتقويم الذاتي فَتَحت شهية البعض من القيادات العسكرية في السني الاولى على وجه التحديد وأدت إلى:
ابرام العقود، بعيداً عن الضوابط، والمراجعات القانونية. والتعيين لملء الشواغر، ومنح الدرجات الوظيفية على أساس المعرفة خارج السلم الوظيفي، وتجاوزاً على الدرجات المثبتة في الملاك. وأدت أيضا الى:
فقدان مبالغ مالية، لم يتم التمكن من متابعة تحركها غير الشرعي. وأدت أيضا الى تعميم سلوك النهش أي الرغبة في استثمار الفرص للحصول على منافع خاصة بأسرع وقت ممكن.
وضع العراقيل
ان العوامل المذكورة جميعها، مع أخرى غيرها تم التطرق اليها ضمناً في أكثر من عنوان بهذا الكتاب، أسهمت في وضع عراقيل أمام الاشخاص الساعين جدياً لاكمال مراحل اعادة التشكيل، وتسببت في تأخير اصدار القرارات والقوانين والضوابط. اذ تعوّدَ فاسدون في المؤسستين مثلاً، الى مطالبة المتعهد بدفع ثمن تسليمه الصك المصروف لقاء تأديته مقاولة او عملاً أو بيعه مادة ما، ويكون مبلغ المطالبة باهضاً احياناً. هذه مسالك وغيرها اخرى دفعت المتعهدين الجيدين الى الابتعاد، وتسببت في حصول تأخير، وفتحت شهية متعهدين للتوغل هدماً في بنية المؤسستين الوطنيتين معا(12). وأمتد التحلل في طول المؤسسة العسكرية وعرضها فطال:
- الارزاق التي تصل أعلى من ثمنها وأحياناً مغشوشة.
- الاسلحة التي وصل بعضها بأعلى من سعر البيع التقليدي، وبعضها الآخر قديم لا يلائم المرحلة الزمنية الحالية.
- الجانب الفكري، الذي تغير نهجه بتغيير الزمن وأصبح باهتا، حتى بات القلة يفكرون بمستقبل جيشهم وبلدهم، وكأن عشرات السنين من العلاقة بين العسكر وجيشهم قد محيت من الذاكرة. وغيرها أخرى تتعلق بالاخلاق والضوابط والمعاير والالتزام، توزعَ تفصيل مادتها على فصول هذا الكتاب وفقراته، التي يندر أن تخلوا واحدة منها من اشارة الى هذا التحلل، بتسميات متعددة اسهمت جميعها في تهديم ما تبقى من قيم والتزامات في نفوس العسكر، وعرقلت خطواتهم في اعادة البناء، بعد ان تيسرت فرص مناسبة لتحقيقه، لم تستغل كما يجب حتى عام 2012.
12. التفكك الوظيفي.
عند الحديث عن التفكك الوظيفي في البيئة العسكرية، لا بد والحالة هذه أن يكون تأشيره على سبيل الاستدلال من خلال المرور على نقيضه، أي التماسك، تلك الظاهرة التي تؤدي إلى تقوية أواصر الجماعة العسكرية. كذلك تمكينها من البقاء صامدة في مواقف الضغط، والاستمرار بالصمود، وتحقيق أهدافها بالشكل المطلوب.
ان التماسك قيمة، تأتي أو تُنتج من تفاعل تلك القوى المؤثرة في أعضائها باتجاه دفعهم لأن يستمروا في عضويتها (13)، هذا وإذا ما أردنا تأشير درجة التفكك التي حصلت في وضع البنية العسكرية العراقية، لابد والحالة هذه مناقشة بعض الآثار التي باتت واضحة على سلوك المنتسبين بشكل عام منها على سبيل المثال:
آ. فقدان روح الجماعة. ساد شعور فردي داخل المؤسسة والدائرة والوحدة العسكرية بعيداً عن الآخرين أو الجماعة "المنتسبين" أو ما يسمى فقدان روح الجماعة، على اساسه صعب على سبيل المثال، خلال تبادل الحديث في هذه المرحلة الزمنية أن تُسمع كلمة نحن التي تكاد أن تكون شبه مختفية، بعد أن حلت محلها كلمة أنا الأكثر تداولاً. كما غابت في مجالها معالم التنسيق المطلوبة بين المنتسبين، لما يتعلق بتحقيق الأهداف العامة بعد أن سعى كل واحد لتحقيقها بطريقته الخاصة، وبما يضمن تحقيق أهدافه الشخصية ضمنياً. انها امور مع أخرى حصلت في هذا المجال الحيوي للتماسك، اضعفت الاعتزاز، والفخر بالانتماء إلى الجماعة " الوحدة" وأدت إلى حصول قدراً من التفكك غير القليل في البنية العسكرية.
ب. فقدان التضامن. ان التضامن والتكافل بين المنتسبين كمؤشر على التماسك عامل يكاد أن يكون هو الآخر غير موجود في السلوك المهني، ليؤشر مقداراً من التفكك، إذ أن الحالة الامنية والمعاشية والاجتماعية، والتسابق المحموم للاستحواذ، لم تسمح في أن يسند عسكري زميله الآخر في موقف قتالي خطر كما هو مفروض. والحالة النفسية القلقة، ومشاعر الاكتئاب العام لم تسمح بأن يحل عسكري محل زميله في نوبة حراسة بموقع خطر. وشِكل التهديد الموجود للحاضر والمستقبل، لم يسمح بأن يشارك جندي زميله الآخر بتحمل مسؤولية البقاء في الواجب أكثر من الوقت المحدد، وان تطلب الموقف التعبوي ذلك.
ج. فقدان الشعور بالرضا. الرضا عن الذات، وعن الآخرين مؤسسةً وأفراداً، من بين أهم عوامل التماسك، وإحدى مؤشرات التفكك يمكن في مجالها الجزم أنها بمستويات غير مستقرة بدأت متدنية من بعد الشهر الاول للتغيير، اثر صدمة الهدم الحاصل في بنية الجيش، وظهور بوادر معارضة مسلحة واعمال ارهاب منظم، وما زالت كذلك بعد أن واجه العسكري احباطاً في مستقبله الذي بات مهدداً بتدخلات الآمر المباشر من غير طائفته، وباجتهاداته الفردية للعزل والترقية والحضور والانصراف، وضمان استمرار بقاءه، والتهديدات التي تصله، وكثر المشاكل، وعدم الاستقرار، وتعدد مصادر التهديد. فبقي لفترة غير قصيرة مذهولاً، أو كما يقال في المجتمع العراقي لا يحرك ساكناً، ولا يسكن متحركاً. وبقيت الكثير من مشاكله دون حل. والكثير من أهدافه دونما تحقيق. فأدت إلى انحرافه باتجاه التفكك أكثر من تقربه نحو التماسك.
د. تحول الارتباط المهني. ان من أكثر العوامل دفعاً باتجاه حصول التفكك تلك التي تتعلق بتحول الارتباط المهني من الوحدة إلى خارجها، الى جهات أخرى متعددة مثل الذات المطلوب تقويتها. والطائفة التي يتوجه البعض إلى توسيع تأثيرها. والمليشيا التي يرغب البعض بتقوية تأثيرها على حساب الوحدة التي لم يعد أحداً يلتزم بضوابطها أو يدين بالولاء إلى واقعها، إلا القليل من المهنيين الذين تساقطوا تدرجياً. هذا وان التحول، ووجود فرص للتعزيز والكسب خارج الوحدة، أوجدت تناقضاً في اتجاهات المنتسبين، وتوجهاتهم، وتشتتاً في أفكارهم إلى المستوى الذي يريد الواحد منهم تحقيقها بعيداً عن محيطه المهني، وعن الزميل القريب منه، فتسببت في زيادة شرخ التفكك الموجود.
هـ. فقدان التأثير النفسي للوحدة العسكرية. ان الوحدة العسكرية بوصفها جماعة اجتماعية وهنت، وفقدت بريق تأثيرها إلى المستوى الذي لم تعد فيه قادرة على اجتذاب منتسبيها "تماسك" لأن يبقوا أعضاء فاعلين فيها، يحسوا بالانتماء إليها بعد أن أصبح وجودهم فيها خلال التسع سنوات يتأسس على جانبه المادي، لأنها الفرصة الوحيدة لتأمين العيش بحدود مقبولة. علما ان حالة الضعف العام، وتردي الأمن الذي انعكس سلباً على قدرة الوحدة أو المؤسسة في تقديم ما يعين منتسبيها، ويقلل من شدة الضغوط عليهم، جعلها شبه عاجزة بدرجة تقربها من التفكك أكثر من محافظتها على التماسك ولو بقدر بسيط. اذ وبعد ان كانت المؤسسة العسكرية على سبيل المثال، تقدم بعض التسهيلات في السكن وتخصيص الاراضي عن طريق جمعية بناء المساكن التعاونية، وتسهل الحصول على القروض من المصارف الحكومية، وتسهيلات اخرى بمراجعة الدوائر لإنجاز معاملاتهم الرسمية، وغيرها تسهيلات، توقفت جميعها بعد التغيير مباشرة بسبب القطع الذي حصل في طريق الإدارة والذي أوقف خبرة الماضي في هذا المجال، وبسبب ظروف الانتقال التي مرت فيها بحدود السنة في ممرات أجنبية رأسمالية تختلف خبرتها وضوابطها في هذا المجال، والأهم من هذا وذاك إن القائمين الجدد على الإدارة العامة للدولة، والمجتمع خاصة المفصولين منها والبعيدين عنها لفترة زمنية طويلة لم يكونوا متحمسين لضرورة تأمين عوامل الدعم وتقديم التسهيلات للعسكر، بل وابدلوها دعماً الى الغير في مؤسسات الدولة، فوزعت أراض وهبات الى الموظفين والمسؤولين الجدد دون العسكر، وفوق هذا فقدت جميع القواعد والثكنات العسكرية البيوت التي كانت مخصصة لمنتسبيها من الضباط، عن طريق التجاوز والاستحواذ الذي عجزت الحكومات المتعاقبة من حل مشكلته، وبطريقة أوحت بضعف السلطة، وعجز المؤسسة في أن تقدم ما يحول دون حصول التفكك بين جدرانها ونفوس منتسبيها.
فقدان القدرة على تجاوز الاعاقة
ان العجز الواضح هنا، وأوجه القصور المذكورة التي تدفع باتجاه التفكك، لا يتعلق فقط بعدم القدرة على العطاء، بل وكذلك بفقدان القدرة على تجاوز الإعاقة، والتخلص من المسيئين، والفاسدين، وكذلك على تكوين الاتصال، والتواصل اللازمة للحيلولة دون حصول التفكك كما هو مطلوب. وخير مثال عملي لهذا التفكك ماجرى في عملية صولة الفرسان في البصرة أواخر آذار عام 2008 من ترك متعمد للبعض لموقعهم القتالي، وانحياز البعض الى الطرف المقابل للدولة، والتقصير المتعمد لقسم من الوحدات العسكرية والأمنية أو بعض منتسبيها في مواجهة الخروج على القانون. اعمال وان أعترف اعلى المسؤولين في الحكومة والأحزاب المشاركة في حدوثها، وتقديم تفسيرات لأسباب الحدوث، يتعلق بضعف التدريب مرة ونقص التجهيز مرة أخرى، لكنها تفسيرات لم يكن بعضها منطقيا، لأنه يبتعد عن الحقيقة التي تتمثل في أن المؤسسة العسكرية والأمنية مخترقة من قوى نقلت صراعاتها البينية إلى محيط تشكيلاتها "الوحدات" فجعلتها قابلة للتفكك مع أول مواجهة مع إحداها في ميدان الاقتتال بعد ان زحفت اليها:
آ. دوافع الاستحواذ السياسي على العمل العسكري عمداً، نقل إليها أهداف سياسية متعددة الاتجاهات، وغيب في داخلها وحدة الهدف وسموه لحماية أمن واستقرار العراق.
ب. مساعي التدين المسيس، جعلت المتسللين اليها ان يفتحوا أبواب ثكناتها لمن يريد أن يدخل ويلتقي وينظر ويجتهد، حتى أضحت مجالاً لمد النفوذ، ومسرحاً للاجتهاد الفقهي المختلف لزيادة النفوذ، فأضعفت قدرتها النفسية في التوحد بمواجهة مواقف الحد من التجاوز والنفوذ.
ج. أمراض السياسة في المراوغة والرغبة في الاستحواذ التي اصابت جسمها الواهن فتسببت أن توكل المسؤولية القتالية والتدريبية والإدارية في عديد من مفاصلها المهمة إلى ضباط غير مؤهلين عسكرياً وفنياً للمناصب التي حصلوا عليها من خلال الكتلة السياسية، فقصرّوا في إعادة تنظيمها بسبب نقص معرفتهم بالتنظيم، وفي تهيئتها للدفاع موحدة عن الوطن، بسبب شحة معلوماتهم الاستراتيجية في الدفاع، وفي تجهيزها لعدم متابعتهم التطورات الحاصلة في مجال التجهيز، وكذلك في قيادة رجالها في الميدان لقلة خبرتهم في القيادة وأعمال القتال.
د. آفة المحسوبية، القرابية التي أصابتها في الخاصرة الرخوة مثل غيرها من الأجهزة والمؤسسات، فنخرتْ في وحدتها ولا أحد يدرك أن النخر في الهيكل ضعف، وأخلتْ في معنوياتها، ولا أحد يعي أن الإخلال بالمعنويات وهن. وحرفتْ ولاؤها، ولا أحد يعرف أن حرف الولاء عن الوطن خيانة، بل وسكتوا جميعاً عن كل ما يحصل، وعجزوا عن المحاسبة خشية المس بالكتلة والفئة والطائفة والقومية التي يعتقد البعض أنها ضامنهم للبقاء على حساب تماسك الوحدة الضامن لبقاء الوطن آمناً موحداً.
ه. داء الانتهازية الذي أصاب عقل بعض مفاصلها المصاب بالتفكك والحيرة، فسمحوا واحيانا سهلوا لمنتسبي المليشيات التسلل، واسهموا في تفكيكها وحرفها عن طريق بنائها المهني.
وغيرها العديد من الأسباب التي جعلت أولئك المتسللين يقفون وراء ترك بعض المقاتلين لوحدتهم بالوقت الذي يشاؤون. والتحاق البعض إلى جانب خصم دولتهم في الميدان. وشيوع سلوك التملص من واجب القتال بمستويات أخلت بشكل ملموس في مستويات التماسك، وأثرت سلباً على قدرة الوحدة العسكرية على الحسم في الميدان.
13. الايهام العمدي.
كأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، خلافاً لمنطق الفلاسفة وعلماء التاريخ أو أن أحداثه تتكرر ثانية رغم الاختلاف بالزمان والمكان، وكأن سمات الشخصية حصراً في الجيش العراقي، تورث وتتوارث على الرغم من عدم وجود سند يدعم توارثها في أدبيات علم النفس والاجتماع، وكأن العسكر ورجال الامن حماة الديار لم يَتّعظ بعضهم وبعض قادتهم السياسيين من دروس الماضي المريب، على الرغم من ان عديد أخطائهم ورفاقهم قد كلفت العراق كثيراً من التضحيات، وكان الأمس "الماضي القريب "هو عام 1967، درسه العسكري الأول حالة إيهام بطلها الملازم قاسم الذي لم يمض على تخرجه من الكلية العسكرية غير السنة، وموضعها زيارة آمر اللواء الخامس عشر العقيد الركن طالب محمد كاظم، لموقع تمرين على رمي الهاونات يقوم به فصيل الهاون في الفوج الذي آمره الملازم المذكور، وحال وصوله اي آمر اللواء سأل آمر الفصيل هل جربتم الرمي من قبل وماهي النتائج؟. رد الملازم دون تأخير، كان رمينا بالأمس دقيقاً جداً وقنابرنا الآن جميعها بالهدف، وبعد ذهاب آمر اللواء منتشيا بكفاءة ضباطه الأحداث وحماسهم، تم فحص المنطقة المضروبة من قبله شخصياً فلم تكن هناك ولا قنبرة قد أصابت مرماها. وعند سؤاله ودياً عن دوافع الادعاء دون تفحص رمي الأمس، وعدم التأكد من رمي اليوم ؟. أجاب بنفس السرعة، "انه تشتت سببه فني، وسيتم تجاوزه في الحال حسب توجيهاتكم سيدي". ولعدم امكانية الاستمرار بالتأكد، غادر آمر اللواء على أمل ان يتحسن الرمي، وبمغادرته تنفس الملازم الصعداء قائلا "الحمد لله خلصنا، والمهم طلع آمر اللواء راض". بعد عشرين سنة من ذلك الرضا المبني على الإيهام، أصبح المذكور مديراً للمشاة في الجيش العراقي لكثرة ما صنعه من أوهام أبتلعها القادة الكبار.
الدرس الثاني عام 1973، ساحته راوندوز في كردستان، مادته أمرٌ من رئيس الجمهورية آنذاك، يقضي بأن لا يذكر القادة والآمرين تفاصيل الخسائر بالأرواح، لأنه أدرك، ورئاسة الأركان أن الأرقام التي وصلتهم عن خسائر المقاتلين الأكراد لمدة سنة، تزيد عن تعداد سكان الإقليم بأكثر من مرة. بعد أيام من هذا الأمر أرسل آمر الفوج موقف الخسائر لمعركة قاتلت فيها ربيئة محصنة لمدة ساعة، مفاده "أن وحدته اشتبكت مع العدو بمعركة شرسة، صدت هجومه بكفاءة عالية، وكبدته خسائر، لا تعد ولا تحصى حتى اصطبغت الصخور باللون الأحمر من كثرتها"، وبعد انسحاب المهاجمين الأكراد، لم يتبين أثر لقتيل أو جريح، وما موجود في موقع الهجوم بحدود مائة ظرف فارغ لبنادق برنو. بعد عدة سنوات من هذه الواقعة، أصبح ذلك الآمر قائد فرقة تقديراً لعديد من المواقف القتالية التي أوهمت القيادة بعظمتها.
اتساع رقعة الاوهام
كانت دروس الايهام قبل الحرب العراقية الإيرانية أقل بكثر مما كانت بعده، خلالها تعددت الدروس وتضاعفت، بعد أن أصبح الإيهام خاصية لعديد من القادة والمسؤولين، فآمر السرية يذكر أٍرقاماً لخسائر عدوه تزيد عن الواقع بكثير، وعند تعبير الموقف يزيد عليها آمر الفوج أضعافاً لما مذكور، وهكذا يعمل آمر اللواء وقائد الفرقة، ومن ثم يأتي دور قائد الفيلق الذي لا يقتنع بعضهم بما مذكور لقلته، فيضاعفه حتى يخرج العدد في البيان العسكري من ثلاثة قتلى في الواقع إلى ثلاثة آلاف في الخيال.
لقد حصل في معركة شرق البصرة، ابان الحرب العراقية الايرانية، ان هجوماً مقابلاً بالدبابات العراقية قد ازاح الايرانيين خارج المواضع التي أحتلوها حديثاً، وبعد نجاح الهجوم وتعقبهم خارج الساتر الترابي المعد لأغراض الدفاع، وبعد انسحاب اللواء المدرع القائم بالهجوم المقابل الى داخل الموضع الدفاعي العراقي، اصيبت احد دباباته لمسافة 500 متر من الساتر، وتركت في مكانها، فقام الفوج المدافع على اليمين بضربها وارسل موقفاً يؤكد اصابته دبابة ايرانية، وكرر الفوج الذي يدافع على اليسار بتكرار ضربها، وارسل موقفا مشابها بإصابته دبابة ايرانية، بالإضافة الى اللواء المدرع الذي اعلن في موقفه انه واثناء الانسحاب من معركته الناجحة اصاب دبابة ايرانية، فكانت النتيجة ثلاثة دبابات ايرانية على اصل دبابة عراقية.
وحصل ايضاً تصوير عن بعد لشهداء عراقيين بمعارك شديدة الخسارة، والاشارة اليهم في المواقف المرسلة الى الجهات الاعلى على انهم آلاف الايرانيين.
وزاد الطين بلة قيام القيادة العليا بتكريم القادة الميدانيين على مثل تلك المواقف التي يذكرونها عن خسائر عدوهم، حتى صفروا بذكرها الجيش الإيراني، عدةً وعدداً أكثر من مرة، وتسببوا في كوارث قتال بنيت على ذكرها تقديرات مواقف خطأ. وهكذا فعل آخرون منهم في حرب الخليج الثانية، والثالثة، فأوهموا أنفسهم وقياداتهم العليا، وسجلوا بسببها نكسات عسكرية لا تغتفر.
إن الإيهام توجه خطأ يقبله الأعلى بطريقة الخطأ، لنقص في المعلومات أو اضطراب في التكوين النفسي(14)، عززته القيادة السابقة للمؤسسة العسكرية، سلوكاً منحرفاً لدى العديد من القادة والآمرين. أنتقل لسعة تفشيه من العهد السابق إلى الزمن الجديد، فتسبب في إيهام القيادة السياسية لما يتعلق بالآتي:
آ. التدريب الذي تبين ضعفه.
ب. الحالة النفسية التي ثبتت وهنها.
ج. الدافعية القتالية التي ثبت ضعفها عمليا في معارك حصلت في الفلوجة والنجف وأخطرها في البصرة.
1. لابد من التسجيل هنا ان غالبية ضباط الجيش السابق من رتبة ملازم الى لواء، الذين التحقوا الى الخدمة في الجيش الجديد، كانوا منتمين الى حزب البعث بدرجات متفاوتة من نصير الى عضو قيادة فرقة، لان الحزب في فترة حكمه الطويلة لم يسمح بالقبول في الكلية العسكرية الا للمنتمين اليه، ولم يقبل الاستمرار بالخدمة وتسنم مناصب والحصول على دورات وترقيات الا للمنتمين اليه. فصار بالتالي الانتماء روتينياً، وتحصيل حاصل لا يعنى الولاء العقائدي للحزب. لكنه انتماء بات يثير قلق الضباط القادة، مع المغالاة باجراءات المتابعة التي تقوم بها هيئة المساءلة والعدالة، ومع محاولات التذكير بها من قبل البعض للبعض الآخر، لأغراض الاذلال والتحكم.
2.الضبط مسألة تتعلق بالعلاقة الخاصة بين الاعلى والادنى، بين الضباط والمراتب، وبين بعضهم البعض، قوامها احترام الاعلى "تحيته" في التراتب العسكري، وتنفيذ أوامره، والمؤسسة او القيادة التي تُعبر عن طريقه. والضبط التزام مهني أخلاقي حساس جدا للظروف المحيطة بوقائعه، فيتأثر سلبا وايجابا حتى بالظروف السياسية التي يفترض ان تكون خارج محيطه، ففي عام 1970 على سبيل المثال زار وزير الدفاع لواء المشاة الخامس عشر، وعرج على فوجه الثالث المنفتح في منطقة كوت الزين القريبة من قضاء ابو الخصيب بالبصرة. وعندما وقف الوزير لتحية منتسبي الفوج المتجمهرين حولة، والتكلم عن امور السياسة والمستقبل، سأل عن معنى الاشتراكية، فرد العريف جاسم من منتسبي الفوج، هي ان يعيش الضابط والجندي سوية. اجابةٌ وان كانت بعيدة عن المعنى المطلوب، تؤشر تأثر العريف وربما العديد من المنتسبين بأجواء السياسة التي طرحت الاشتراكية بمعنى العدالة والمساواة في التوزيع. فهم ضابط الصف هذا، المساواة اقتراب المسافة بين الضابط كسلطة للضبط، وبين الجندي المنفذ لتوجهات الضبط، فتأسست على هذا الفهم وعلى توجهات السياسة في تقريب المسافة تبعات سلبية تراكمت على بنية المؤسسة العسكرية، اضعفت مستويات الضبط كثيرا، لان المنتسبين وبعد أن تشبعوا بمفاهيم السياسة وشعارات العدالة والمساواة، توجهوا الى نقلها او تحويلها الى سلوك اصبحت المسافة على اساسه بين الضباط والمراتب قريبة بمستوى مخل لثلاث عقود ونصف من حكم الحزب للعراق. وهذا قدر من التعود انتقل الى الجيش الجديد بقوة، بسبب تكرار تجارب تسلل السياسة الى جسم المؤسسة العسكرية من ابواب الحزبية الداعمة والراعية للتغيير(10).
3-اقرب مثال حقيقي لبدع المسخ، ما عرضه المرشح لمنصب وزير الدفاع اثناء جلسة التصويت على استيزاره عام 2006 تحت قبة البرلمان عن موضوع سجنه من قبل النظام السابق، معطيا سبب لهذا السجن يتأسس على مواقفه المعارضة من غزو الكويت، على العكس من الحقيقة التي يعرفها جل الضباط الاقران، والتي تتأسس على انه قد سجن لعدم اخباره السلطات الحكومية عن كلام دار بوجوده، فيه تندر على السلطة اثناء جلسة سمر خاصة، وانه بعد الحكم عليه بالسجن، قدم استرحاما للعفو عنه الى صدام، عن طريق عائلة عدنان خير الله التي تربطه بها علاقات جيدة عندما عمل سكرتيرا شخصيا له ابان وجوده وزيرا للدفاع. واطلق سراحه من السجن بضوء حصول الموافقة على الاسترحام.
961 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع