طريق إلى الحرية ... هاينز كونزاليك / الجزء السادس

   

      طريق إلى الحرية/الفصل السادس
رواية : هاينز كونزاليك
ترجمة : د. ضرغام الدباغ

         

جلست نورينا وسنتالوس على منضدة طويلة وأخذت تساعده في تشغيل جهاز الأشعة. والصور التي كانت قد التقطت على شريط طويل، سحبت ووضعت على آلة تكبير مضيئة، واللقطة التي تشير إلى إصابة إيجابية، تؤشر بعلامة صليب أحمر، وكانت أغلبية العمال لديهم أمراض في الرئة. وبحسب تقديرات الأطباء فإنهم غير صالحين للعمل، لكنهم كانوا يواصلون نضالهم ضد الجحيم الأخضر ليلاً ونهاراً (في كل وردية ثماني إلى عشر ساعات).
أجساد مرهقة التي لم تعد تعرف سوى: أحصل على المزيد من كروسيروس، وإذا حالفك الحظ ووصلت إلى ريوارغوايا، فإنك رجل ثري، سوف لا تعود بحاجة إلى الكدح لوقت طويل، وسيكون بوسعك شراء قطعة أرض صغيرة وأن تستريح، أو أن تنفق كل ما تحصل عليه في السكر وعلى العاهرات، كل ليلة امرأة جديدة في فراشك، وأن تقف يومياً على البار. فما هي حياتنا يا صديقي ؟ إنها عبارة عن كومة قذارة تتنفس بالصدفة، إذن هيا صوب البار وأسكر طالما بوسعك ذلك، فهذه الحياة يا للعنة قصيرة وعندما سينقضي كل شيئ ماذا سيبقى عندنا ؟ كومة قذارات أيضاً، الحياة قصيرة وأنت تلاحظ ذلك كل يوم ولا تحتاج سوى أن ترمق بعينيك صلبان القبور على جانبي الطريق، ماذا نال هؤلاء الرجال من جميع الخطط، ليس سوى حفرة في أرض الغابة حيث افترست جثثهم أسراب النمل العملاقة. فحوصات داخلية ؟ السل الرئوي ؟ تغوط على كل ذلك صديقي، في المعسكر الرئيسي هناك مئتان وعشرون عاهرة ساخنة في انتظارك نقودك، هذا هو الممكن.
" هذه هجمة مباغتة " قال بيرابورت بفرح عندما دخلوا المستوصف. نظر الدكتور سانتالوس إلى القادمين، وتراجعت نورينا سامازينا إلى الخلف واستندت إلى ظهر الكرسي، وأرخت ذراعيها إلى الخلف، فاتخذت هيئة القطة عندما تستعد لخطف شيئاً، ونفر ثدياها الجميلان إلى الأمام " إننا قادمون من أجل البيرة، جميعنا لا يستطيع النوم وقد نشفت جماجمنا ".
أنحنى الرجل فوق علبة الضوء وجهاز تكبير الصور الشعاعية. وحتى بالنسبة لمن هو غير خبير بوسعه أن يلاحظ بسهولة البقع على شعبتي الرئة، ولكنهم لا يكترثون كثيراً لذلك، فالطريق أهم من بقع السل على الرئة، الطريق ضرورة سياسية واقتصادية للنهوض بالبرازيل هل ندع الحفر التي يحدثها السل على الرئة أن توقف المشروع ؟ .
" عظيم، أليس كذلك ؟" قال د. سنتالوس. رفع بيرابورت كتفيه دلالة عدم الاهتمام.
" لا أعلم دكتور، إنني لم أجرب بعد البيرة عندك " وكانت إجابة تقليدية لبيرابورت تبادل بعدها سانتالوس وبانديرا نظرات سريعاً.
اتجهت نورينا صوب الثلاجة وجلبت أربع علب بيرة ألمانية مثلجة.
" نخبكم " قال بانديرا ورفع علبته " نخبنا جميعاً في الخروج جميعاً بخير من هذه الغابة الخرافية ! ".
" نخب الوطن " قال بيرابورت بلهجة احتفالية " البرازيل هي بلد مستقل، ربما تكون روسيا فخورة بسيبريا، ولكن البرازيل تضم ثروات أكثر من تايغا(*)، لنكن سعداء لأن الفرصة سنحت لنا أن نكون في الطليعة، إن هذا العالم سيدهش أكثر ".
" هذا بالتأكيد " قال سانتالوس فيما كان يشرب ببطء، كانت جمجمته تحترق من الغضب الداخلي " نخب البرازيل حرة أيها الأصدقاء ".
" نخب البرازيل عظيمة " هتف بيرابورت.
كانوا يقرعون علبهم، ويشربون بصمت، وكان مذاق البيرة لذيذا وكذلك برودتها، ولم يسبق لهم أن تذوقوا مثلها في قلب الغابة.
" وهل أستطيع النوم هنا ؟ " سأل بيرابورت عندما فرغ من شرب علبة البيرة " ربما في سرير الآنسة ؟ فإن العزيز كارلوس غير مرتاح في ضميره، كما أنه يشتغل ليلاً وأنا بحاجة للنوم ".
" بوسعك أن تأخذ سريري " قالت نورينا دون أن ترتبك، على الرغم من أن كلامه قد ترك أنطباعاً بأنها تنام مع جبهارت، ولكنها لم تظهر أي خجل، وبذلك فقد أعلنت عن حبها له وعن علاقتها به، وهو أمر كان طبيعياً في هذه الغابات والمستنقعات، هنا حيث الحياة مقتصرة فقط على المصطلحات الأساسية للطبيعة والحب هو جزء من هذه الطبيعة .
" شكراً آنسة نورينا " قال بيرابورت، وأدى انحناءة رزينة كما لو كان في حفلة باليه " وهل تعمل أيضاً دكتور ؟ ".
" غالباً " قالها وأشار سنتالوس إلى الغرفة المقسمة وأضاف " ولكنك ستنام بهدوء في القسم الآخر، وبوسعي أعطاؤك غطاء من الشاش لتضعها على عينيك ".
ولكن أرجو أن لا تكون مبللة بالأثير " قالها بيرابورت وضحك بحدة، وفي هذه اللحظة بالذات بدا جمال وجهه ذو الشاربان الأنيقان " لقد كنت دائماً أستفضع رائحة الأثير ".

فيما بعد جلست نورينا وجبهارت على السرير في الغرفة، وكانت نورينا قد قوضت سرير بيرابورت وقذفت به خارج الغرفة باشمئزاز وكأنه ملئ بالحشرات وجلست القرفصاء وبساقيها العاريين وكأنها تمارس اليوغا، تتطلع إلى جبهارت الذي كان يترتب وضع شبكة الناموسية ضد البعوض حول السرير، ويضع نهاياتها السفلى تحت فرشة السرير، وكأنه بذلك كان يضع عالمه الصغير الخاص، جزيرة حبها المستقلة.
" أحبك " قالت نورينا فجأة وبصوت مباشر.
" لماذا يا إلهي ؟ " جاء إليها وأنحني وقبل ظهرها العاري، فشعر بلهيب شعرها الحريري على بشرتها الصقيلة دغدغت شفتيه " هل الأمر رهيب إلى هذا الحد ؟ ".
" لا مهرب منه كارلوس ".
جلس إلى جانبها ووضع ذراعيه على كتفيها، ثم أخذ يلامس نهديها، فشعر أن رذاذاً يخرج من جسدها، وأن عضلات جسدها تتوتر تحت لراحة يده.
" لم أستطع النوم، فالأمر مقلق ".
" وما هو ؟ ".
" مستقبلنا " .
" إننا سوف نتزوج نورينا ".
" هل تريد البقاء في البرازيل ".
" سنتكلم عن ذلك فيما بعد " رد عليها بنعومة، وقد فهمت معنى ذلك على الفور فجمدت ابتسامة مؤلمة على شفتيها .
" تمدد إلى جانبي " قالت " تعال وتمدد إلى جانبي ".
" هذا لا يحل مشكلتنا نورينا ".
" ولكنه يخدر وأنا لا أريد أن أسمع ولا أرى في هذا السرير سواك، اليوم يمضي سريعاً هنا، ثم تأتي أسماء جديدة فوقنا، سماء معادية، وهنا علينا النضال ضد الجميع، لا يوجد أصدقاء، عدا أنا وأنت، تعال كارلوس ".
وبعد بضعة دقائق، كان يرقد إلى جانبها، عارياً مثلها، يدخنان معاً سيكارة واحدة، تأخذ هي منها نفساً، ثم يأخذ بدوره هو الآخر نفساً.
" أتعتقد أن دورياس بانديرا قاتل ؟ " سألت جبهارت فجأة وهي لم تظهرها كمفاجأة، بل قالتها بهدوء وسرعة.
" قاتل مجرم ؟ وكيف ذلك " أعاد عليها السؤال.
" كتيبة الموت الأسطورية هذه أليس بانديرا هو قائد مجموعة الجلادين هذه ؟  أسأله بنفسك يا كارلوس ".
" كيف تفكرين في الأمر نورينا ؟ ".
" إنني لا أفكر على الإطلاق، إنني فقط أحب وطني البرازيل ".
" وهذا ليس عذراً ".
" يقتل المرء من أجل الحب، إنني أقتل أي أمرء يمس حبيبي " ونظرت إليه نظرة جدية وقالت " وأنت لا ...".
" لا أعلم " قالها كارلوس وفكر في أوضاع ومواقف: أريراس على سبيل المثال إذا أغتصب نورينا، أو بيرابورت إذا غازلها وأستخدم قضايا سياسية سرية لابتزازها، أو أي بشر يعذب نورينا، ماذا سيفعل لكي يحميها، إذا لم يكن هناك أي أمكانية أخرى سوى ........
" نعم، أستطيع ذلك " قالها بحزم.
" من أجل أنثى، وما هي البرازيل مقابل إمرأة ؟ ".
" السياسة هي عمل قذر نورينا، ومن يعمل بها يعتقد، أن كل شيئ مسموح به في هذا المجال. إن كل عمل وطني هو عمل بطولي، والشهيد وطني، ولكن الكل يكذبون في ذلك، وليس بالأمكان تحسين العالم من خلال الإرهاب ".
" وماذا تفعل إزاء بناء متصدع ؟ " سألت نورينا بهدوء .
" أعمل على تقويضه " رد جبهارت بتردد وقد شعر أنه دخل ممراً ضيقاً.
" وجزء منه متقيح ".
" ينبغي قطع ذلك الجزء ".
" وساق محترقة  ... "
" يبترها المرء ولكن ....".
"ولماذا هذه (ال) لكن كارلوس إذا اكتشفت أنك على خطأ في خططك ماذا تفعل ؟ "
أمسحها وأصلحها.. نورينا هذه ليست مقارنات، ولا تشكل أعذاراً والأمر هنا يدور عن بشر ".
" من أجل تحرير من جعلوا كالخدم، فاقدي الحقوق، مستغلين، بشر مخدوعين ليست لهم حتى قيمة الدمامل والصديد والساق المحترقة ".
" بهذه التعليلات فإننا سوف نبرر حالة الفوضى نورينا، هذه هي الرؤية البسيطة للأمر ".
" الحياة هي بسيطة " ثم مسدت بيدها على خاصرته بحب ونعومة، فعض على أسنانه وجمد في استلقاؤه، ولكن الحرارة على الرغم من ذلك إلى رأسه، ولم يعد الدم يقرع في صدغيه " لا تتكلم كثيراً " قالت وكان صوتها قد أصبح أكثر عتمة وأكثر نعومة وأكثر دفئاً، ثم قالت بصوت مخملي " لا تفكر كثيراً كارلوس، نحن نمتلك بعضنا، ولدينا سرير، وهذا يكفي في هذه اللحظة لكي نخلق منها جنة ".
ثم امتلكته ... وعضت بمقدمة أسنانها في كتفه، وأطلقت تنهيدة حارة، على خاصرته العارية.
اللهب المتوهج خبا، ثم غطس كل شيئ حولهما، لقد احترقت كل المشاكل، كل الأسئلة، كل الهموم وكل العالم الفضيع.
" آه كم هو جميل " قالت بصوت متهدج يرتجف " أوه كارلوس إن هذا أشبه بالأعجوبة ".

في الصباح كان هناك مطر شامل، وبدا أن الغابة ستغرق بالمياه الهائلة، ولم تكن هناك حماية من السيل خارج المعسكر والغرف، الأكواخ أو في البراكات والبيوت السيارة (الكارفانات) توقف العمل فقد كان قطع الأشجار وإسقاطها لا معنى له، إذ لم يكن بوسع أحد أن يسحب الجذوع العملاقة من أرضية الغابة التي استحالت إلى مستنقعات وبحر من الأوحال. وقد فاض النهر وطفحت المياه إلى الضفاف، فقد أرتفعت مناسيب المياه التي غدا لونها أخضر / بني ومضت هادرة في دوامات. وأستغل سكان الغابات القدامى هذا الظرف لكي يمارسوا فيها وبأسلوب بدائي صيد الأسماك بشباك صنعوها بأنفسهم، وصالوا وجالوا في المياه الضحلة، وبكراهية وحقد بالغ أبادوا المئات من أسماك البيرنا القاتلة وعلقوها بشكل ظاهر كما كان يفعل ذلك في الماضي صيادوا الرؤوس البشرية.
" إنها قذارة كبيرة " قال بيرابورت الذي أنتقل إلى جبهارت بسبب طغيان المياه، وهو الآن جالس تحت طاولة التخطيط، فيما كانت نورينا تعد القهوة، كربة بيت في كوخ فقير، سنتالوس لم يكن بحاجة إليها، فقد أوقفت الفحوص الداخلية أو التسجيل من إصابات، وكان الكل جالسين خارجاً يفكرون في الخلاص من طوفان المياه.
" سيستمر الحال هكذا لبضعة أيام أخرى وبعدها سوف نجلس على الأرض التي تعوم فيها المياه الآن، ولكن السيارات سوف تنغرز، وهذا أعاد بنا إلى الوراء ".
" كم هو مؤسف أن لا تستطيع أن تأمر الطقس " قالت نورينا " هذه ثغرة في النظام يا ابراهام، على أجهزة الأمن الاهتمام بشؤون السماء أيضاً ".
" أنت تقولين ذلك أيتها السيدة الجميلة " ثم أمسك بيرابورت كوب القهوة بكلتا يديه، وكان وجهه البالغ الأناقة في أقصى الجدية وقد بدا لأول مرة منذ دخوله الغابة أن وجهه يبدو لرجل بتقدم في السن والسماء على وفاق معكم ".
" معي أنا ...؟  أنا أكره المطر ".
" لأنك، دون أن تشعري تنامين بالقرب من مامبا سوداء صغيرة، وهو حيوان صغير، ولكن له لدغة رهيبة ".
وبضربة واحدة من مشرط الدكتور سانتالوس قطعها نصفين، إنه حقاً جراح ماهر له حضور بديهية بتر الأفعى بضربة واحدة. كانت المامبا راقدة خلف مسند رأس نورينا بينها وبين الجدار فسمع فحيحها أبتسم بيرابورت وقال " ماذا لو لم نستبدل أسرتنا ليلة أمس " وأضاف أفعى في السرير تعني حادثة، إنها مسألة ساذجة تصدق لا سيما في الغابات، لقد قلت لبانديرا أيضاً وقد شاهد البامبا بنفسه، وأنا مقتنع بقوة أنه قد فوجئ مثلي، وسأسأل نفسي فقط، عن سبب الإزعاج هنا بعد ؟ ".
" ربما للعمال " أجاب جبهارت بحدة.
" هم أيضاً ؟ ".
" أنا لدي نفور طبيعي من الأجهزة الأمنية والشرطة والمراقبين ".
" مفهوم " قال بيرابورت وواصل شرب قهوته الساخنة على مهل " أنك قد تلقيت بالتأكيد درساً كما يقال، أن تصبح برازيلياً والآنسة نورينا تمتلك في هذا المجال حججاً وبواعث ". وجمدت نظراته على صدر نورينا وخصرها، يا لها من حيوان رائع، فكر في نفسه، وفوق ذلك حيوان خطر، ولكن مصيرها سيكون مصير كل الحيوانات الوحشية الجميلة، وبقد ما تكون جميلة ورائعة تكون هدفاً ثميناً للصياد.
وضع يديه في جيب سرواله، وأخرج قطعة نقود وألقى بها فوق المنضدة " هذه هنا الوجه الأول كارلوس "، ثم قلب قطعة النقد " وها هو الوجه الآخر للبرازيل، إنها بدون قيمة بوجه واحد. وهكذا كل شيئ في الحياة، حتى المشكلات البرازيلية، والأجانب يعرفون المدن الساحلية فقط، ريو دي جانيرو المضيئة وساوباولو الجميلة، ماناوس التي تقع على مصب الأمازون في المحيط الأطلسي، ريكيفا المدينة التي تموت ببطء وسط الغابة، الموانئ، وبرازيليا العاصمة، الأعجوبة المعمارية والمتفردة بنوعها، ولكن أعماق البرازيل شيئ آخر، البرازيل هي من أقدم بلاد العالم، نعم، ولكل أمر قوانينه أتفهم ذلك ؟ ".
" نعم أفهم ذلك، هذا هو معطف أبيض يراد منه تغطية الدماء " أجاب جبهارت بهدوء.
" الألمان كانوا دائماً شاعريين كالفرنسيين تقريباً، هل تعلم كم ضخت دول أجنبية المال إلى البرازيل، في بلد يمكن أن يكون أثرى بلد في العالم، ولكن ذلك لم يحصل، البرازيل تطور اعتزازها الوطني، ليس في المدن الكبرى، بل وأيضاً في الزوايا البعيدة للجحيم الأخضر، يجب أن يكون البشر فخورين بالبرازيل، وأن يربحوا من الثروات التي ينبغي أن يرفعوها بأنفسهم من الأرض وهي هائلة. واليوم يربحوا من الثروات التي ينبغي أن يرفعوها بأنفسهم من الأرض وهي هائلة، واليوم يسيطر العرب بنفطهم على الاقتصاد العالمي، وبعد جيل واحد البرازيل ستكون العامل الحاسم في الأسواق العالمية بفضل أخشابها وأحجارها الكريمة وثرواتها الطبيعية وسوف يكون هناك تنافس اقتصادي عالمي بين سيبيريا والبرازيل، وهذا الطريق هو شريان مهم للأجساد القوية في بلادنا، ذلكم هو الهدف البعيد .... وليس ضرب النظام كما يطالب بذلك بعض الرؤوس المشوشة التفكير، فالمرء لا يستطيع بناء بيوت جديدة قوية انطلاقاً من القذارة، وإنما فقط من الحجارة المشتعلة، إنها حرارة محرقة ولكنها مهمة للضغط والتنظيم..
" ومئة عائلة ثرية تسيطر على البلاد " قالت نورينا بصوت عال " الأرض الجديدة واستصلاحها، التي يباد فيها الهنود ببساطة كالحشرات القذرة يعلقون من أقدامهم ويقطعون كالخنازير ".
دفع بيرابورت الكوب فوق الطاولة " قهوة ثانية رجاء يا آنسة " قال بصوت ودي تقريباً، وكان الأمر يبدو عليه أنه صعب المراس لحمله على الهدوء " لا تواجهيني بأعمال فضيعة التي أستنكرها أنا أيضاً، نحن نعمل ضد المذنبين فقط ".
" وهل حدث ذلك لكم، لديكم أفضل المحامين، بأنكم تقومون بالدفاع الشرعي، لا بل تسمحون لأنفسكم بالتقاط الصور مع ضحاياكم وأنتم تبتسمون بفخر، البشر كأهداف للصيد ".
صبت نورينا المزيد من القهوة وهي تتمنى في نفسها أن يكون سماً للذي عاقبته تواً.
" كتيبة الموت " هز بيرابورت رأسه عدة مرات " وهنا نعود إلى ذات الموضوع لماذا وضع في سريري مامبا سوداء، إنني لم أقتل هندياً قط، إنني لم أفعل أي شيئ مخالف لقوانين ".
" هناك قوانين ينجم عنها تفجير الجماهير " قال جبهارت بحدة " من يستطيع أفضل منا نحن الألمان الحكم على ذلك ؟  وهنا الالتزام والذنب توأمان ".
" إنني أرى، أن جسداً نسائياً هو شأن سياسي أكثر من النقل " نهض بيرابورت وأنهى شرب القهوة، ومضى إلى الباب. وهناك مكث واقفاً وألقى نظرة حوله وقال " للذي دس الأفعى السامة تحت وسادتي أريد أن أقول شيئاً: من بعدي سيأتي آخرون، وإنني على أية حال لست الأسوء، وبالإمكان التنسيق معي ".
" كلب، إنه كلب أجرب " قالت نورينا بصوت منخفض عندما غادر بيرابورت " إنه يعمل فقط لرؤوس الأموال الكبيرة ! ".
نظر إليها جبهارت نظرة مريبة وسألها " هل وضعت الأفعى السامة في سريره ".
دارت نورينا حول نفسها، وكانت عيناها السوداوتان تشتعلان " كلا ! ".
صدق مما قالت على الفور، فهزت رأسها وسألها " بانديرا..؟ ".
" أيضاً لا، وقد قال ذلك بيرابورت بنفسه ".
" من هو إذن ؟ ".
" هذا ما سوف لن تعرفه أبداً ".
" سأتحدث مع العمال، ومع كل الورديات، أريد القول لهم، إن الإرهاب لوحده ضار بهم، أريد...".
" إنك تريد أن تخصي فيهم إرادة الحياة ".
" إنني أريد الهدوء في المعسكر ! " صاح جبهارت " إنني مسؤول عن شق الطريق وليس من أجل معاناة سياسية، وإذا كنتم تريدون الانتفاضة فإذهبوا إلى برازيليا ".
" جيد .. تحدث معهم ".
بدأت نورينا ترتب السرير خلف شبكة البعوض، الليلة الساحرة في الجنة الصغيرة كانت قد أنقضت، ومع النهار الجديد بدأ النضال ضد الغابة، ضد النهر وضد السماء والبشر.
" إنهم سوف يستمعون جميعاً لك، طبعاً، ولكنك بالنسبة لهم الألماني، وهنا تدعى البرازيل ".
صباح هذا اليوم عادت مجموعة من العمال من المعسكر الرئيسي، كانوا سعداء فقد سنحت لهم فرصة قضاء إجازة قصيرة، وأن يعيدوا النقود المرة التي حصلوا عليها إلى جيب السيد بولو، في البار أو في الماخور، أو في المحلات عند ألعاب الحظ، فهناك الكثير من الامكانات التي تجعل من المرء فقيراً وبسرعة، وبالتالي العودة مرة أخرى إلى الغابة القاتلة.
ولكنهم صباح هذا اليوم كانوا ما يزالون سعداء، كانوا ما يزالون يعيشون تجربتهم بأنهم اشتروا كل شيئ بالنقود، ما يحتاجه الرجل هو: تبغ، عرق (كحول) ونساء. وقد استقبلن في المعسكر بحفاوة وتحلق الرجال حولهن.
" أحكوا لنا " هتف رجل " هيا أفتح فمك، ماذا يوجد جديد في المعسكر الرئيسي ؟ عاهرات جدد ؟ ما هي أخبار كيرس وبرازيليا ؟ هل جلبتم معكم البريد ؟ سكائر ؟ مجلات مصورة ؟ صور نساء عاريات ؟ إنني أريد البعض الفاضح منها لأضعها على جدار خيمتي فوق سريري ! هيا أحكوا لنا ..".
لم يكن هناك في الواقع الكثير ليروى، إذ أن النادر من الأشياء قد تغير، فقد أنظم إلى المبغى المتجول (السيار) أربعة فتيات جدد، وهناك أربعة رجال محجوزين في المعسكر بسبب مشاجرة بالسكاكين، وقد عرف أن القوة الشرائية للكروسيروس قد واصلت تراجعها، كما ارتفعت أسعار السلع في محلات السيد بولو، ولكن الأجور ظلت كما هي منخفظة.
" إنه يمتصنا كالخفاش " قال أحدهم " سرعان ما سيأتي بدلاً من أن يدفعوا لنا يبصقون علينا ".
" وماذا تفعل آليا " سأله باولو الجيرا، وكان هذا الرجل العملاق جالساً على مقعد تراكتور ويدخن سيكارة سميكة لفها بنفسه.
" من هي آليا " سأل الرجل .
" الفتاة الهندية في المطعم " صاح أحدهم من الخلف " الدمية الحلوة ذات المؤخرة المهتزة " قالها وضحك بجذل.
ظل وجه باولو دون انطباعات معينة، كانت عيناه فقط تتحركان وقد فقدتا هدوئهما " لا يا صديقي، إذا تطلع المرء إلى بلوزتها، عليه أن يغير سرواله " قالها الرجل ومضى مبتعداً.
" أنا أعلم ماذا تفعل " قال الجيرا.
" إنها العاهرة الصغيرة البنية " هتف الرجل الواقف قرب التراكتور وكان لما يزل ثملاً وضرب على بطن الجيرا وقال " فراش لويس جيزوس أريراس ".
" كيف ؟ ماذا ؟ " سأل الجيرا وكان صوته قد غدا باهتاً ووجهه العريض خالياً من التعابير.
" أخرس " صاح رجل آخر " إنها فقط ثرثرة ".
" ولماذا عليه أن يخرس " قال الجيرا معبساً، ووضع يده على الرجل ورفعه كما يرفع لعبة، وضغط به على التراكتور الكبير، تململ الثمل في البدء، ولكنه ظل معلقاً بين مخالب الجيرا العملاقة " ماذا عن آليا ؟ ".
" لقد تراهن أريراس بألف كيروسيروس، بأنه سيضع اللعبة السمراء في سريره حتى نهاية الشهر " قالها الرجل بحرارة وأضاف " كلنا نعرف أريراس ".
" وبعد ؟ ".
" ماذا بعد ؟ الكل في المعسكر الرئيسي بانتظار نهاية الرهان إنه ستكون مزحة قاتلة، فقد وعد أريراس بأنه سيحمل آليا عارية على أكتافه كدليل على ذلك ".
ترك الجيرا الرجل يهبط، الذي مضى يسير وهو يعرج، ثم سقط على الطين ومضى بسرعة فيما كان الآخرون يضحكون ويلقون بعض النكات عن دأب وطول نفس الهنديات في فعل الحب.
ظل باولو الجيرا صامتاً على التراكتور، تطلع حواليه، ثم إلى الغابة، إلى النهر الذي كان قد تضاعف عرضه، على المخيم، على المستوصف، ثم على غرفة جبهارت، وهز رأسه عدة مرات، ترك التراكتور يدور ومضى ببطء في الأرض الموحلة صوب مرآب السيارات.
" آليا ... فتاتي، فكر في نفسه، كل ما أفعله هو من أجلك، هو لك وحدك، من أجل حبنا، قطعة أرض، كوخ، وبضع أطفال صغار .. سيكون العالم آنذاك سعيداً، ثم يأتي حيوان مثل أريراس يراهن عليك ... آليا، إنك لا تشاهدينني الآن، إنني أبكي .. أبكي من أجلك وأجلنا.
في الصباح كانت سيارة جيب قد اختفت من المخيم، واختفى أيضاً باولو ألجيرا.

لم يفتقد الجيرا على الفور، بل لم يكتشف غيابه إلا بعد أن طال وقوف التراكتور بدون عمل تحت السقيفة التي كانت عبارة عن صفائح عريضة قائمة على أعمدة تمثل مأوى بسيط لتراكتور، وقد فر الجيرا عندما كانوا يسحبون جذوع الأشجار الثقيلة الساقطة على جانبي النهر. وكان أبلغ المراقب عنها، والمسؤول عن ذلك هم العناصر السيئة الذين كانوا يتلقون المكافآت من اريراس عندما يخرجون عدد من العمال أكثر مما تنص عليه تعليمات العمل. ولم يكن أحداً يتحدث عن ذلك رغم علم الجميع بها. ولكن الجيرا كان يبلغ جبهارت عن تلك المخالفات.
" ها هو قد عاد إلى السكر " قال المراقب في الهاتف الميداني الذي يربط مقدمة المستوطنة مع إدارة المشروع " سيد كارلوس، نحن بحاجة إلى كل سيارة، العمل يسير حثيثاً إلى الأمام ".
حثيثاً ..! هذا يعني أن جماعة القطع كدت حتى تساقطوا من التعب والإعياء، إنهم يعملون تحت حرارة محرقة ورطوبة ممزوجة بعفونة الأنفاس النتنة للغابة، الطريق عبر الغابة، إنهم يقطعون أشجار معمرة تبلغ أعمارها مئات من السنوات، عالية كأبراج الكنائس وهي جميلة وفخمة مثلها.
" سأتحقق من الأمر " رد جبهارت، كانت له شكوكه فيما يقوله مراقب العمال، ولاحظت نورينا مخططات العمل ووصفتها " أنها ألمانية الطابع ".
" لا يستطيع الحديث هكذا إلا رجل شبعان أو متخم، الخنازير المسكينة هنا متخمة من الكلمات الطنانة، إنهم يريدون أن يشاهدوا اللحم في الشوربة، ولكن كما تريد إنك تهدئ ضميرك وهذا هو شيئ له قيمته أيضاً ".
لم يكن باولو الجيرا في خيمته، ولكنه كان قد شوهد لآخر مرة في الليل، هكذا أخبر بعض العمال، إذ وقف في ضوء القمر يحملق في الغابة ويدخن من سكائره السميكة التي يلفها بنفسه.
مضى جبهارت صوب المستوصف، لكن الجيرا لم يكن هناك أيضاً، فلربما كان قد سجل عيادة مرضية أو أنه كان جريحاً.   
أشتكى مدير قسم التسفير لدى جبهارت، بأن أحدهم قد سرق سيارة جيب " تلك النساء اللعينات في المعسكر الرئيسي " صرخ غاضباً " فقد وصلت عاهرات جدد إلى الماخور وهناك يتقلب الشباب، إنني أراهن بأن هناك أربعة رجال في طريقهم إلى هناك للتمتع معهن ".
ولكن جبهارت لم يراهن، بل مضى وهو يفكر إلى غرفته، كانت نورينا قد أعدت الفطور، ووضعت الغطاء على الطاولة، وكانت الخرائط موضوعة في إحدى الزوايا، بل أنها جلبت غطاء طاولة أبيض من أجل تجميل الطاولة القبيحة.
" لقد ذهب باولو " قال جبهارت وأضاف " بسيارة جيب وهذا لم يكن يفعله، فهو شخص يمكن الوثوق به، فقد كان رجلي المفضل، وفجأة يعطي ظهره. هل جرى شيئ في غيابي نورينا ؟ هل تعلمين شيئاً ؟ ".
" لقد جرى الكثير من الأحاديث " قالت ذلك وصبت له الشاي " ولكني لم أسمع شيئاً عن الجيرا ".
" سأتصل باريراس " تناول جبهارت جهاز الهاتف، ترى ماذا سيفعل الجيرا، فطريقه لابد أن يمر عبر المعسكر الرئيسي حيث يعرفه الكل، ولابد أن يكون لباولو شأن مع شخص غير معروف، فهو ليس ذلك الرجل الذي يقذف ما يريد ويختفي، فلديه هدف، إنه يريد الزواج من آليا وأن يشتري قطعة أرض وأن ينسى ماضيه، فهذه أشياء لا يضحي بها المرء دون سبب مهم ".
وأدار رقم إدارة المشروع المركزية، ولكن لم يكن أحد ليرفع السماعة هناك، ترك جبهارت الهاتف يرن، تطلع إلى نورينا باضطراب متصاعد حيث كانت تجلس على الكرسي المقابل. كانت تقضم شريحة من الخبز الأبيض بالعسل وكانت تبدو جميلة في سروالها الأزرق والبلوزة الضيقة، وكان جبهارت في الأيام المنصرمة غالباً ما يفكر بقلق، بأنه سيفيق من فورة النشوة، وأنه سيعود كما كان في وحدته.
" لا أحد يرد علي ".
" لابد أنهم خارجاً، ربما أنهم قد تلقوا لتوهم ما يشغلهم ".
" المكتب مشغول دائماً، اريراس لا يدع جهاز الهاتف هادئاً، فهو رجل محب للهاتف، وإذا لم يكن يستطيع أن يهاتف أحداً فذلك من دواعي تعاسته " شرب جبهارت كوب الشاي وقفز واقفاً " سوف أذهب إلي المركز الرئيسي ".
" بسبب الجيرا ؟ لا تكن مضحكاً يا كارلوس ".
" لدي شعور أحمق، فعندما لا يجيب أحد على الهاتف في المركز، فلابد أن شيئاً غير اعتيادي يحدث ".
" ربما أن بانديرا يعلم شيئاً ".
" بانديرا ؟ كيف ".
" لديه وسيلة اتصاله الخاصة عبر اللاسلكي مع الشرطة في المعسكر الرئيسي "
" هذه معلومة جديدة علي ".
" منذ بضعة أيام وأشياء كثيرة تحدث حبيبي " رد عليها جبهارت بنعومة، فوقفت وعانقته وقبلته مع مداعبات حركت فيه لواعج عواطفه، وسرعان ما طار سحرها، وأنفلت من ذراعيها ومضى مندفعاً " أحبك " قاله بحرارة " يا إلهي ماذا أستطيع أن أفعل لك ! يمكن أن تكون حياتنا رائعة إذا كنت تكرهين العنف مثلي ".
" كم سيكون شيئاً جميلاً " قالت بنعومة " إذا كان بوسعك أن تفكر ولو قليلاً برازيلياً وليس على الطريقة الألمانية فقط، ولكن ربما أنك ستتعلم ذلك يوماً ".
" بالتأكيد، ولكني سوف لن أتعلم أبداً أن يكون الإرهاب الوسيلة المقدسة من أجل التحولات الاجتماعية ".
" إذن فإنك سوف تبقى إلى الأبد كعبد ".
" وهذا أيضاً شعار ! إنني لا اشعر بنفسي كعبد، إنني إنسان ينال أجراً مناسباً مقابل عمله ".
" أنت تعلم أن هؤلاء المساكين يعاملون كالكلاب، تعلم كم يحصلون من النقود، إنهم يكدحون ويشتغلون كثيراً في ساقية ماء تدور حول مركز واحد وفوق ذلك ينالون سوء معاملة " وقامت نورينا بحركة من ذراعيها " أتعلم لمن تعود الأرض التي يجري عليها العمل الآن، ليس لهؤلاء الهنود الذين يسكنون هنا منذ قرون، والذين يهربون منا دائماً باتجاه أعماق الغابة، أو يجري قتلهم ببساطة إن هم ظهروا في طريقنا، لهؤلاء الأرض ؟ كلا .. ليس لهم، إنها للسيد الكبير بولو، ولديه عقد مع الحكومة وتدعمه كل الأطراف. إن الغابة ليست ملكاً لأحد، إنها ملك للذي يستصلحها، وكل شجرة تسقط تجعل بولو أكثر ثراء. البرازيل ستحصل على طريق عريض جميل حتى ريوارغوايا، وطريق أرضية مائية إلى الأمازون عبر قارة كاملة، إنه شريان حياة جديدة التي ستفخر بها البرازيل. طريق للتجارة ذلت أهمية عظيمة للاقتصاد الوطني كما يقول السياسيون، ولكن ماذا سيمر عبر هذا الطريق ؟ شاحنات بولو استثمارات واستغلال بولو  ومجموع الشعب سيبقى فقيراً كما كان من قبل ".
" في هذه اللحظة شخص ما يهتف من المعسكر الرئيسي " قال جبهارت بخشونة " هناك مشكلة " حاول الاتصال مجدداً، ولكن الهاتف عند أريراس لم يكن يرد " سأذهب إلى هناك " قال جبهارت وكررها " ليسمونني مجنوناً هناك سيارة جيب مسروقة، وأحد أفضل رجالي غائب، وهذا سبب كاف ".
وأمام المستوصف التقى مع دورياس بانديرا، والدكتور سانتالوس الذي كان قد عاد إلى إجراء فحوصاته الداخلية، وكانت الوردية التي أنهت عملها تقف في طابور طويل أمام خيمة الإسعاف وتنتظر دورها في التقاط الأشعة، اختفت نورينا داخل خيمة الإسعاف وارتدت صدريتها البيضاء وجلست خلف جهاز تصوير الأشعة المتحرك. وعلى الطاولة حيث كان قبل ذلك يعمل في هذا المكان أحد الممرضين ويعمل بملأ قوائم، حياها الدكتور سانتالوس بهزة رأس وكان قد أرتدي صدرية عمل رصاصية، وقد وضع في يديه قفازات قماشية، ويجلب العمال من الصف ومن ثم معرفة فيما إذا كانوا مرضى، وصور الأشعة هنا تؤيد فقط تقديرات الطبيب.
بصوت هادئ أخذ يملي نتائج الفحوص: ضغط الدم، نبض القلب، اضطرابات الرئة، تضخم الطحال.
" إنه سيقضي على جماعتك " قال بانديرا معلقاً عندما حياه جبهارت " وفي كيرس وبرازيليا يتصورون أن سانتالوس هو الرجل الغير مناسب في المكان الغير مناسب، إنني أنتظر خبر نقله إلى ريو مجدداً ".
" هل رأيت باولو الجيرا ؟ " سأل جبهارت، وألقى نظرة سريعة على نورينا سامازينا التي كان شعرها الأسود يلمع كالحرير، وهو لا يستطيع أن يفهم أن إمرأة مثلها تعمل من أجل الثورة، وأن تطبق القتل والدم كأشياء بديهية، ترفع شعارات مثل: خلق برازيل جديدة .
" لقد سمعنا أن سيارة جيب قد سرقت " أجاب بانديرا " والجديد عندي، أن طفلك المدلل الجيرا له ضلع في ذلك ".
" هذا ما لم أقله أنا ".
" ولكنك تفكر بذلك " قالها بانديرا وهو يرمي ببصره صوب النهر، كان المطر الشديد قد توقف ولكن الماء كان أخضر، والسائر على ضفتا النهر وأرض الغابة والمستنقع يخوض فيها مع كل خطوة بالماء، ولكن الجسر المؤقت ما يزال قائماً، وكانت سيارات الحمل والتراكتورات ما تزال تسمع أصواتها، وعلى الضفة الأخرى ما يزال ضجيج سقوط الأشجار وهي ترتطم بالأرض وبالأشجار الأخرى.
 " عزيزنا بيرابورت لا يعرف الهدوء، إنه يعدو هنا وهناك وكأن عفريت في مؤخرته، يبحث عن الأوضاع في صفوف العمال. هل تعلم بالمناسبة أن حادثة قتل أخرى حصلت هذه الليلة ؟ إن رجلاً قد دس رأسه في وحل الأرض، إنها ميتة فضيعة. وقد أثبت الدكتور سانتالوس الذي أجرى التشريح، أن رأسه قد دس في الوحل وهو حي يرزق. والآن يبحث بيرابورت في ذلك، وهو في الواقع يقوم بمهام أجهزة الأمن، وهو يعمل كثيراً لأنه يحصل على إجازات أكثر من الآخرين، يا لها من جمعية أغنياء وأي جهاز أمن هذا ؟ ".    
" كتيبة الموت مرة أخرى ؟ "  سأل جبهارت بحرارة " هل تعلم بانديرا، إنه لأمر ملاحظ إننا لم نكن نعرف حتى وصولك عن اغتيالات كهذه عندنا ؟ ".
" أتجدون ذلك أمراً ملاحظاً ! وأنا أيضاً " قالها بانديرا وضحك عالياً.
" وبوسعك أيضاً أن تقول نفس الشيئ منذ أن حل بيرابورت هنا ".
" إن القتلى هم من جماعته فقط ".
" في الواقع لدينا بعض الأشياء ضد رجل الأمن، والشعب البسيط لديه شعور صحي غريزي لما هو جيد أو لما هو سيئ " هنا أصبح بانديرا جدياً ": لنأت إلى قلب الموضوع سيد كارلوس: متى سرق رجلك سيارة الجيب، ولماذا صار السروال ضيقاً جداً عليه، وأصبح لابد من الذهاب على الفور إلى خطيبته آليا، فعلي إذن أن أعاقبه كأي فرد من الآخرين ".
" طبعاً، بل أني أؤيد ذلك ".
" شكراً " قالها بانديرا وربت على كتف جبهارت وقال " إن شعورك بالعدالة جدير بالإعجاب أرجو أن تحافظ عليه ".
لقد كانت محاولته ذات معنى مزدوج، فهمها جبهارت جيداً.
شيئاً ما كان يتهيأ في المخيم، في مكان ما كانت هناك نار كامنة، كان هناك فتيل، وأين كانت الشحنة المتفجرة ؟ متى سوف تنفجر ؟ ولمن سوف تصيب ؟ ولأي غرض هي ؟ كان ذلك سؤال وهو ما لم يكن يتخيله لا بنديرا ولا نورينا، والإجابة يمكن معرفتها سلفاً، إنها إجابة كل الثوار: الثورة ضرورة.
"ألم تسمع شيئاً من المعسكر الرئيسي ؟" سأل جبهارت" هاتف أريراس لا يجيب ".
" وتلك قذارة معروفة ! فالانفجار البركاني أمس، الخط الهاتفي قد قطع في مكان ما، كما أننا لم نستلم شيئاً يستحق الذكر من خلال جهاز اللاسلكي العائد لي ".
وذهب جبهارت إلى حيث كانت السيارات متوقفة والمحجوزة لإدارة المشروع، وبحث عن سيارة اللاندروفر والتي يستطيع المرء استخدامها في مثل هذه الظروف، وحتى لسحب السيارات المنغرزة في الطين عندما يكون غرقاً بمياه الأمطار، فقد كان صب الإسفلت على الطريق هي المرحلة الختامية في الطريق وهذا لم يكن قد أنجز بعد في طريقنا.
أشار بانديرا لجبهارت وكأنه يريد أن يسبقه، ثم أشار إليه بعلامة بوجهه، وفيها أظهر العطف.
فيما بعد قال لنورينا " رجل مسكين، سيتعين عليه ابتلاع مثالياته ".

ــــــــــــــــــــ
(*) منطقة في سبيريا

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/17915-2015-07-21-06-04-48.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

830 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع