يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء السابع

   

   يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء السابع

        

  

 

وانتهت عطلة الأعياد والتي ما وجدنا أنفسنا نرغب بنهايتها بأسرع وقت كما يحصل هذه المرة، في الساعة الثامنة صباحا من يوم الثلاثاء 4/1/2005 انتقلنا إلى مبنى المحكمة الذي لم يكن بعيدا عن سكننا وأجلسنا في إحدى غرف المحكمة، وقالت لنا المترجمة إن المحكمة تستمع الآن لشهادات الجنود الأمريكيين أنفسهم، وعلمنا أنهم لم يتمكنوا من بلورة موقف موحد بشأن القصة التي سيقدمونها أمام المحكمة، ونتيجة استيقاظ ضمير أحد الجنود فقد اعترف بأن الجريمة وقعت حقا وبالتفاصيل التي سبق لنا وأن قدمناها للمحكمة ولأنهم وأثناء الخدمة وتحت القسم فإن من غير الممكن أن يتواطأ جميع من شهد الواقعة على سرد قصة مغايرة لما جرى لمجرد أن أمرهم العسكري يرغب في ذلك، وقد علمنا أن الملازم الأول جاك سافيل قد حاول عرقلة سير المحاكمة بما يؤمن إبعاد المسؤولية الجنائية عنه وعن الدورية التي نفذت جريمة القتل، ورفعت الجلسة إلى الغد.

           

في العاشرة صباحا من يوم الأربعاء 5/1/2005 عقدت المحكمة جلستها الثانية برئاسة قاضي المحكمة (الكولونيل) العقيد تيودور ديسكن، حينما حضرنا إلى قاعة المحكمة حضر صحفيون محليون من ولاية تكساس للصحف المطبوعة والتلفزيون والإذاعة، وقد سبقتنا القضية إلى الصحافة مما ساعد على أن تكون الصورة متاحة أمام مواطني مدينة أوستن وولاية تكساس حتى بفرض أن ذلك لن يضيف لنا شيئا ولن يغير من نتائج المحاكمة فإنه كان يبعث في نفوسنا قليلا من الارتياح لأن المحكمة مراقبة من الشعب الأمريكي الذي كما أشرت كان قد تعاطف معنا، كانت الجلسة منصبة على دور العريف (تيريسي بيركنز) الذي قام بتنفيذ أمر الملازم الأول سافيل بإلقاء زيدون ومروان في بوابة الثرثار، تم استدعاء مروان للشهادة واستغرقت شهادته ساعتين وربع وسرد القصة كاملة كما وقعت ليلة ارتكاب الجريمة وحينما سأله القاضي عن أسباب نجاته ومقتل زيدون أجاب بأنه كمسلم يؤمن بأن إرادة الله هي وحدها التي تتغلب على إرادات خلقه ومع أن القاضي اعتبر ما قاله مروان قضية غيبية لكنه لم يمتلك الجرأة الكافية للسخرية منه لأنه سيضع نفسه في دائرة انتهاك حرية الاعتقاد.
حاولت هيئة المحكمة إيجاد ثغرة تتمكن من توظيفها لغلق القضية ولكنها لم تنجح في هذا المسعى، ليس بسبب قدرتنا على التفوق على رجال مدربين ومتمرسين وإنما لسبب واحد وهو أننا تمسكنا بقول الحق وسرد القصة كما وقعت على نحو حجب نهائيا أية ثغرة في نقل تفاصيل الواقعة،  لقد كان مروان صادقا مع نفسه وفي كل ما كان يدلي به من أقوال عايشها قبل عام بالضبط وتعايشت معه في عقله وقلبه وضميره والشهيد صديقه قبل أن يكون ابن عمه والحادثة هزته من الأعماق وبالتالي عندما ذهب إلى هناك أراد أن ينتصف بالحق للأسرة التي فقدت أحد أعمدة مستقبلها، فالصدق أقوى الأدلة ولن تنفع معه مهارات القضاة والمحامين وخبراء القانون وقالت العرب قديما إما أن تكون صادقا وإما أن تكون قوي الذاكرة، وناقش محاميا المتهمين مروان بشأن ما جاء في إفادته وسألاه عن موقفه مما أسمياه بالوجود الأمريكي في العراق فكان موقفهما مدعاة للتوقف فهل تخليا عن صفتهما كمحامين وتحولا إلى جزء من منظومة المحكمة انطلاقا من كونهما أمريكيين؟ قال لهما مروان إن الاحتلال مرفوض من كل شعوب العالم ولا أظنكما تقبلان أن يحتل بلدكم، ولما سألاه عن موقفه من المقاومة والتي أطلقا عليها اسم الإرهاب قال أنا أؤيد مقاومة الاحتلال من باعتبارها اختيارا دينيا ووطنيا وأخلاقيا، ومن دون إبطاء سألاه هل تؤيدها أم تدعمها؟ كنا قد تناقشنا في احتمال طرح مثل هذا السؤال أو أسئلة قريبة منه، وأكدت على مروان مرارا على أن يعلن عن تأييده للمقاومة ولا يتنصل من موقفه الوطني، ولا يتحدث عن دعم أو إسناد لأن ذلك يعني تقديم أحد أشكال الدعم المالي مما قد ينسحب على القضية التي صممنا على متابعتها حتى النهاية.
 كان المحاميان يبحثان عن ثغرة تساعد على تبرئة القتلة من خلال الزعم بأن مروان وزيدون إرهابيان وأن رد فعل العسكريين الأمريكيين كان وقائيا أو دفاعا عن النفس خاصة بعد أن انهارت كل محاولات نفي وقوع الجريمة، خرج مروان وهو راض عن أدائه أمام المحكمة إذ ربما توقع البعض من هيئة المحكمة المنحازة إلى الجنود الأمريكان باعتبارهم مواطنين يدافعون عن المصالح العليا للولايات المتحدة ويعرضون أنفسهم لأخطار جدية بما فيها الموت، أن يرتبك مروان أو يتلعثم ويقدم ما ينفع المحكمة في بحثها عن فرصة لطي قيد هذه القضية، أو البحث عن مسالك قانونية أو نفسية تخفف عن أولئك الجنود تبعات فعلتهم، فهذا الهدف يتقدم على البحث عن الحقيقة الواضحة أمام الجميع ولكن المحكمة تحاول إلقاء أغطية فوقها لطمس معالمها دفاعا عن (أبناء الوطن) بوجه إرهابيين لم يكتفوا بمقاتلتهم في العراق، بل تواقحوا كثيرا حينما جاءوا إلى الأراضي الأمريكية باحثين عن إيقاع العقوبة بجنود الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن الحرب هي وعاء مشروع للموت، كنا نلاحظ أن القضاة وهيئة المحلفين منقسمون على أنفسهم في معاقبة أمريكي بسبب قتله عراقيا، وبين إرسال رسالة تتناغم مع مزاعم البيت الأبيض والخارجية الأمريكية في الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية المحلقة فوق أجنحة الصواريخ العابرة للقارات ود القضاة صعوبة في تبرئة القتلة.
بعد انتهاء مروان ابن أخي عبد الحكيم من شهادته استدعت هيئة المحكمة أخي مأمون والد الشهيد زيدون للإدلاء بشهادته ولا شك أنه سيستذكر تلك الساعات التي وقعت فيها الكارثة وكيف جاد ابنه بروحه التي صعدت إلى بارئها لتشكو ما وقع عليه وعلى أسرته وبلده من ظلم واستهداف همجي قادته الولايات المتحدة لتركيع العراقيين، مضى مأمون إلى قاعة المحكمة وهو يعيش مشاعر تتصارع داخله وهو يتساءل من أين جاءت الإنسانية لهؤلاء القتلة حتى ينصفوا أبناء بلد ما ذهبوا إليه إلا من أجل أن يذلوه ويسلبوا حقوقه ويدمروا فيه معنى الحياة، ومع ذلك صمم على أن يسلب الأمريكيين آخر فرصة لهم في الزعم بأنهم حملة العدل وحقوق الإنسان وقرر ضبط أعصابه حتى اللحظة الأخيرة من المرافعة والتحكم بمشاعر الأب المكلوم وهو يرى قتلة ابنه أمامه وهم يمثلون دورهم في مسرحية إنسانية بالية.
تمحورت الأسئلة حول قضية اختلقها القضاة ومن قبلهم لجان التحقيق، الهدف منها التشكيك بأن الجثمان الذي تم دفنه يمكن أن يكون لأي شخص أو لا يوجد جثمان تم دفنه أصلا، هل أنت متأكد من أن الذي دفنتموه هو ابنك زيدون؟ كان القضاة يتساءلون ببلاهة بل بوقاحة معهودة عند الأمريكي الذي يعيش عقدة التفوق منذ الأيام الأولى التي حطت فيها أقدام القتلة الأوائل الذين نفتهم بريطانيا إلى مستعمرتها فيما وراء الأطلسي، فخاضوا معاركهم الأولى ضد السكان الأصليين في تلك البلاد، ثم ترسخت في نفوسهم عقدة التفوق أكثر فأكثر عندما بدأت حربهم على عبيدهم من الزنوج التعساء الذين قادهم سوء حظهم للإقامة القهرية في العالم الجديد، كانت تلك الأسئلة التي يوجهها القضاة جارحة لمشاعر أب فقد ابنه البكر لتوه، أي عقلية هذه التي تختفي تحت رؤوس هؤلاء القوم الذين وعلى كثرة ما يتحدثون عن قيمة الإنسان فإن الاستهانة بمشاعر الآخرين تعد دينا جديدا ينمو في العالم الجديد؟ هل يظنون أن كل ما في أمريكا يستأهل أن نختلق قصة ونزعم فيها موت ولدنا لمجرد أن نخوض هذا الجدل السقيم؟ يمكن أن يكونوا على استعداد ليفعلوا ذلك، ولكن هل من حق القاضي أي قاض أن يوجه أسئلة مستلة من تقاليد بيئته ويسقطها على بيئة شاهد جاء من آلاف الكيلومترات باحثا عن العدالة والانتصاف لنفسه، حسنا قال القاضي لكي نتأكد أن زيدون هو الذي تم دفنه فهل تسمحون بفتح القبر وجلب الجثمان إلى الولايات المتحدة لتشريحه في مختبرات لا تتوفر لا في العراق ولا في المستشفيات التي أقامها الجيش الأمريكي في بلدكم وكي نتأكد من أنه مات غرقا وربما نجد علامة تؤكد لنا أنه دفع بالقوة إلى الماء، يا ابن اللئيمة أيها الثعلب الماكر بل أيها الخنزير القذر، ترى أي مشورة خبيثة وصلتك وتعرف أن المسلمين لا يسمحون بفتح قبور موتاهم، قال لهم مأمون نحن لا نستطيع ذلك إلا بعد العودة إلى علماء الدين عندنا وأعدكم بأنني سأبذل جهدي للحصول على فتوى في هذا الشأن، وطلب محامو المتهمين الحديث، سأل أحدهم وبطريقة استفزازية، ماذا تتمنى أن تفعل بمن قتل ولدك لو كان موجودا هنا، أجاب مأمون أولا اخبرني إن كان القاتل موجودا هنا وقل من هو وأنا على استعداد للإجابة، أما إذا كان السؤال مجرد سؤال افتراضي فلست على استعداد للإجابة على الأسئلة الافتراضية، سأل محام آخر وبنبرة أكثر عدوانية، كم مرة شارك ولدك في توجيه ضربات للقوات الأمريكية في العراق؟ يا له من سؤال تحريضي علينا، المهم وبهدوء طلب مأمون من القاضي أن يأمر المحامين بالكف عن مثل هذه الأسئلة التي لا صلة لها بالقضية، فزيدون لم يسقط في اشتباك وإنما قتل بعد إلقاء القبض عليه بتهمة مخالفته لقانون حظر التجول، وعلى الرغم من أن هذه التهمة باطلة إلا أن مخالفة القانون لا تعالج بالقتل وإنما بالتدرج بالعقوبات على وفق نصوص القانون المعمول به، استجاب القاضي لطلب مأمون الذي تعلمناه من مشاهدة الأفلام الأمريكية التي تعرض قضايا التحقيقات والمحاكم، ولكن المحامي لم ييأس من إمكانية استدراج مأمون لموقف منفعل قد ينفع في رسم صورة تساعد على إعطاء تصور عن الموقف السياسي لعائلة زيدون، وكأن المطلوب أن يتجرد العراقي عن عراقيته ليرضي هيئة المحكمة والمحامين والشعب الأمريكي، فأجاب مأمون بشكل قاطع أنه كعراقي لا يمكن أن يقبل باحتلال بلده من أي طرف كان، وبالتالي فهو ضد الاحتلال ويؤيد مقاومته من أي طرف جاءت هذه المقاومة.
وسرعان ما خرج المحاميان اللذان وكلتهما المحكمة عن أسرة الشهيد زيدون وهما على درجة عالية من الارتياح لأنهما على وفق ما ذكرا، نجحا في إقناع هيئة المحكمة بتطابق مسلسل الأحداث يوم ارتكاب الجريمة مع شهادة مروان، سألتهما عما إذا كانا محاميين فنفيا ذلك وقالا أنهما يتدربان على العمل القانوني من أجل الحصول على منحة من الجيش لدراسة القانون في إحدى الجامعات ومن المعروف أن الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة باهظة التكاليف ولا يستطيع كل مواطن الحصول على مقعد دراسي في الجامعة إلا إذا كان أهله على استعداد أن يتخلوا عن الكثير من الاحتياجات الأساسية في حياتهم من أجل أن يكمل ولدهم دراسته الجامعية، كان المترجم القانوني المصري مروان عبد الرحمن حاضرا في المحكمة ولكننا لم نره بعد ذلك فقد طار إلى مقر عمله في نيويورك، في اليوم التالي صدرت الصحف المحلية وهي تحمل صورنا أنا ومأمون ومروان ونحن نخرج من قاعة المحكمة، وكنا في غرفة المحامين التقينا بالمحاميين اللذين عينتهما لنا المحكمة وجرى حديث طويل بشأن تفاصيل الحادث وقدم المحاميان لنا نفسيهما على أنهما يسعيان لإحقاق الحق ومعاقبة الجاني أيا كان، وكانا قد طلبا من مروان مرارا وتكرارا سرد تفاصيل القصة، واستفسرا عن جزئيات صغيرة، لا ندري هل هما على استعداد لإدانة مواطن أمريكي وينتمي إلى المؤسسة العسكرية التي ينتميان إليها، ساورتني شكوك كثيرة ورأيت أنهما يؤديان دورا مرسوما كجزء من المسرحية الكاملة من أجل إسدال الستار على فصلها الأخير، وبدا لي أنهما ومن خلال انتحال صفة المدافع عن قضيتنا يحاولان العثور على ثغرة تمنح من ارتكب الجريمة حكما بالبراءة، وربما يكونان صادقين ولكننا وبسبب مرارة الاحتلال وجرائمه المروعة لم نعد نثق بوجود أمريكي واحد يتعاطف مع القضايا الإنسانية ونتصور كل من يفعل ذلك إنما يؤدي دوره في مسرحية لن تستمر طويلا.
رفعت المحكمة جلستها الثانية بعد أن استمعت لإفادات جميع أطراف الدعوى إلى موعد يحدد لاحقا لإصدار قرار الحكم، حينما سألنا عن تاريخ انعقاد جلسة النطق بالحكم قالوا سنبلغكم في حينه، وسألنا هل سنبقى هنا لحين صدور الحكم؟ لم نحصل على جواب شاف فأمريكا بقدر ما هي بلد مفتوح فهي بلد محكم الانغلاق، وبقينا نلح على عدم البقاء لأننا لم نعد نرى مبررا لبقائنا هنا لزمن أكثر مما تتطلبه جلسات المحكمة، فنحن "ضيوف" غير مرغوب فيهم من جهة وأشبه ما نكون بمعتقلين مشتبه بهم لتهمة غير محددة، ولم نكن نرغب بأن نظل "فرجة" للباحثين عن ظاهرة غريبة، ثم أنني عانيت عشرين عاما عندما تمسك الإيرانيون "بضيوفهم" أسرى الحرب العراقية الإيرانية، في قادة فورت هود لا نستطيع الخروج من بواباتها الرئيسية إلا بموافقات مسبقة، ولا نستطيع الدخول إليها إلا بموافقات أكثر صعوبة، فمن الذي يؤمّن لنا تلك الموافقات؟
بعد ذلك اتصل بنا واتسون وقال حسنا سنغادر قريبا بعد أن نكمل تدابير الحجز على الطائرة، هل مر على أحد حال انتظار مفتوح الزمن؟ وماذا ترانا سنفعل في هذه القاعدة العسكرية المغلقة، هل نمارس رياضة المشي في طرقاتها؟ أم نظل على حالنا في غرفنا لمشاهدة التلفزيون الذي لا هم له إلا ملاحقة تسونامي إندونيسيا؟
من دون سابق إنذار ومن دون أن نعرف تفاصيل ما جرى ومن دون أن ندعى لحضور جلسة النطق بالحكم أصدرت محكمة فورت هود العسكرية حكما على السرجنت ترسي بيركنز حكما بالحبس ستة شهور وحرمانه من حقوقه التي ضمنها له القانون العسكري الأمريكي، مر الحكم من دون أن  نعلم به من أي مصدر، ولكن ظل جرس التلفون يضرب بلا توقف من لندن بعد أن أذاعت الخبر شبكة CNN وبتفصيل عن ملابسات القضية وظروفها، فقد اتصل بي كل من الأصدقاء أسامة الصالحي وماجد السامرائي وهرون محمد وسيف الدوري وكانوا على اتصال مستمر لمتابعة الملف فهم يرونه قضيتهم كما هي قضيتنا لم يألوا جهدا في إيصال المستجدات عبر قنواتهم إلى أي منبر يصلون إليه، كما اتصل بي الصديق صباح البازي من بغداد وهو مراسل وكالة رويترز والذي تابع القضية في مجموعة متصلة من الأخبار بحكم معرفته السابقة بتفاصيل ما وقع وجعل من تلك المعلومات خلفية (باك راوند) للقصة الإخبارية التي قدمها للوكالة التي يعمل لها، وأطلعني الجميع على حيثيات الحكم، دهشنا من هذا التطور والحكم المثير للسخرية والحزن في وقت واحد، وطلبت من الأصدقاء الذين اتصلوا متابعة الموضوع سواء بمعرفة التفاصيل أو الحديث عن هذا القرار الجائر، قتل مواطن بدم بارد يعاقب من ارتكبه بالحبس ستة أشهر، يا لها من عدالة دولة فجرت رؤوسنا من كثرة ضجيجها عن حقوق الإنسان وحكم القانون، تحدثت لقناة ANN، عن هذا الحكم البائس وطالبت بالضغط على الإدارة الأمريكية من أجل أن تؤكد مصداقيتها فيما تطرحه من شعارات، نحن نعرف أن هذا غير ممكن أصلا ولكن كنا نريد أن نفضح أمريكا أمام الرأي العام العالمي ونحاول أن نوجه رسالة إلى الشعب الأمريكي.
في اليوم التالي جاءنا أحد المحامين وكان مرتاحا لقرار الحكم واستغرب أننا كنا غاضبين جدا، حاول التخفيف عنا فقال (هل تعلمون ماذا يعني الحكم بالحبس ومهما كانت مدته على عسكري؟ وهل تعلمون أن القرار حطم حياة بيركنز؟ وهل تعلمون أنه حرم تماما من كل حقوقه المالية وما كان يحصل عليه من ضمان صحي وفرص دراسية على حساب الجيش، وهي الحقوق التي كفلها له القانون العسكري طالما كان في الخدمة وبعد تقاعده منها؟ وهل تعلمون أن هذا العسكري بعد خروجه من السجن سوف يجد صعوبة في الاندماج بالمجتمع؟)، ما أكثر التساؤلات التي طرحها المحامي -وهو كما قلت عسكري انتدبته المحكة للدفاع عن حق ذوي الضحية- عن المستقبل المظلم لكل من يتعرض لحكم قضائي وخاصة من القضاء العسكري، ولكن ذلك ليس هو ما كنا نريد، نعم لم نكن نتوقع حكما بالإعدام على القتلة، ولم نكن نتوقع حكما بالمؤبد ولكننا كنا نتطلع إلى حدث مهما صغر شأنه ليؤكد مصداقية العدالة الأمريكية ولكن الحماقة الأمريكية تأبى إلا أن تعزز من قناعتنا الراسخة بأن أمريكا كيان متجبر وغاشم في عدوانيته وأنه يستحق ما يلقاه من كراهية من شعوب الأرض، لم نقتنع بقرار الحكم ولم نقتنع بمحاولات تسويقه من قبل المحامي، ولهذا أعددت لائحة لاستئناف قرار الحكم ودفعته إلى المترجم والذي رفعه بدوره إلى هيئة المحكمة، مع أننا كنا على يقين بأن قرار الحكم قطعي ولن يتغير وإذا أريد له أن يتغير فربما سيذهب للتخفيف وليس التشديد.
يوم الأحد 9/1/2005 أبلغنا السرجنت واتسون بأننا سنغادر في طريق عودتنا إلى العراق صباح اليوم التالي، وفعلا جاءنا واتسون صباح الاثنين ونقلنا إلى مطار مدينة كلين القريبة من فورت هود، وفي المطار وحيث أننا كنا نصطحب حقائب يزيد وزنها على الوزن المقرر، بذل واتسون جهوده لتمرير الوزن الزائد ولم نعرف عما إذا تم ذلك بدفع الفرق عن الوزن الإضافي أم أنه تمكن من تمريره بطريقة أخرى، على العموم أخذنا طائرة صغيرة كالعادة لتأخذنا من مطار كلين إلى مدينة مطار دالاس عاصمة ولاية تكساس والذي وصلناه بعد طيران استغرق خمسا وثلاثين دقيقة، وتنقلنا في أرجاء المطار بواسطة العربات الخاصة من مبنى إلى آخر وكذلك بالمصاعد الكهربائية، حتى وصلنا الصالة التي تفضي بنا إلى الطائرة التي تقلنا إلى ديترويت، وبعد ثلاث ساعات من الانتظار في المطار أخذنا واحدة من طائرات شركة أمريكان أير لاينز، وتوجهنا إلى ديترويت، ومنها إلى أمستردام العاصمة الاقتصادية لهولندا والتي تعد محطة رئيسية لحركة الطيران المدني بين الشرق الأوسط وأوربا من جهة وصولا إلى الولايات المتحدة وبالعكس ثم العاصمة الأردنية عمان، ومررنا فوق الأطلسي واستغرقت رحلتنا وقتا طويلا ولكن وقت العودة من الولايات المتحدة إلى أوربا كان أقصر من وقت عبور الأطلسي من الشرق إلى الغرب بسبب حركة الرياح، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تصنع أفضل طائرات النقل الجوي في العالم، فقد لاحظت أن الطائرات الصغيرة ذات المراوح هي الأكثر عملا على الخطوط الداخلية لاسيما بين المدن القريبة وذلك بسبب كلف التشغيل المنخفضة لهذا النوع من الطائرات، ولاحظت أن الأسماء اللامعة لأكبر شركات الطيران في العالم مثل بان أمريكان وTWA لم يعد لها وجود بين شركات الطيران، وربما يعكس ذلك جانبا من أزمة النظام الرأسمالي الدولي.
بعد أن أنجز واتسون ختم جوازاتنا في مطار الملكة علياء الدولي بسرعة قياسية، توجهنا إلى صالة الحقائب فوجدنا في انتظارنا سيارة من السفارة الأمريكية وفيها معتمد لإيصالنا إلى الفندق، وبعد أن استكملنا كل الإجراءات وأخذنا حقائبنا، توجهنا برفقة المعتمد إلى السيارة، وبعد نحو ساعة من مغادرتنا للمطار وصلنا إلى بناية عالية لا توحي بأنها فندق، ومن باب خلفي دخلنا إلى البناية وإذا بعدد من الموظفين في الفندق يستقبلوننا وفي إجراءات بوليسية تذكرنا بأفلام الرعب الأمريكية أو  مجموعة أفلام جيمس بوند، حينما سألنا عن أسباب هذه التدابير اللافتة، قال لنا موظف الاستقبال في فندق SAS "ن السفارة أبلغتنا أنها تسعى لتوفير أعلى درجات السرية لوجودنا والحماية لنا، ولهذا أدخلتكم من الباب الخلفي وزودتنا بتعليمات صارمة لحمايتكم باعتباركم من الشخصيات المهمة "VIP، سألته مم يخافون علينا؟ أجاب لا أدري ولكن طالما كانت هذه تعليمات السفارة الأمريكية فنحن ملزمون بالتقيد بتلك التعليمات التي تخص نزلاء في فندقنا فنحن لا نريد أن تسجل على هذا الفندق الكبير حادثة يمكن أن تخل بسمعته أو تلحق أذى بضيوفنا، ولما اقتربنا من الاستقبال كان الموظف قد أحيط علما بمجيئنا ولم يدعنا الجلوس في صالة الانتظار من أجل تسجيل المعلومات المثبتة في جوازات سفرنا، اقتادنا فورا إلى الغرف التي كانت قد حجزت لنا، وعلى مقربة من غرفنا تم حجز غرفة للسرجنت واتسون الذي رافقنا في سفرة الذهاب وغادرنا بمجرد وصولنا إلى قاعدة فورت هود وبإجازة مع أهله في الولايات المتحدة، ثم عاد والتحق بنا في القاعدة في يوم سفرنا صباحا، كان الفندق من فنادق الخمس نجوم وهو فندق مبهر بتفاصيله الداخلية وغرف نومه وحماماته ومطاعمه الكثيرة، أخبرنا موظف الاستقبال بأن بإمكاننا طلب وجبة العشاء في غرفنا وهو يفضل ذلك، هنا شعرت بأننا شبه محجور علينا، قلت بهجة قاطعة كلا نريد تناول العشاء في المطعم، وبعد ذلك خرجنا في جولة في الشوارع القريبة من الفندق، ولكن برودة الجو لم توفر لنا إغراء بالذهاب بعيدا، وبعد أقل من ساعة عدنا أدراجنا ورحنا في سبات عميق بعد يوم سفر طويل ومرهق إلى حدود بعيدة.
ضحى اليوم التالي وحسب اتفاق سابق مع واتسون حزمنا حقائبنا ومضينا إلى مطار ماركة الأردني وبقينا بانتظار طائرة الـ C130 التابعة للقوات الأمريكية والتي كان مقررا وصولها من بغداد حاملة الجنود الأمريكيين المجازين، لتعود بنا وبدفعة من الجنود العائدين إلى ساحة الحرب لقتل أبنائنا، فيا لها من مفارقة  كبيرة أن يستقل القاتل والضحية طائرة واحدة عائدة إلى العراق حيث يتفجر الصراع على أشده بين شعب أبي، وقوة محتلة تريد تركيعه، تأخرت الطائرة أكثر مما ينبغي، هكذا إذن حتى الطائرات التابعة للجيش الأمريكي تتأخر وربما تمثل هذه رسالة عزاء لنا عندما لا نلمس وجع جروحنا من التخلف الذي نعيش، وككل الطائرات المكلفة بواجب، كان لا بد للطائرة أن تصل وينزل ركابها وتستعد مع ركاب جدد للعودة إلى بغداد.
هناك صالة صغيرة ولكنها أنيقة لكبار الضيوف أو المسافرين، كنا ننتظر فيها وعن بعد ومع سقوط قرص الشمس وراء الأفق لمحنا الطائرة وهو تقترب من المدرج ثم استقرت غير بعيد عنا، ولما لم تكن هناك شعبة خاصة بشحن العفش كما يحصل مع الطائرات المدنية كان علينا أن ننهض بهذه المهمة بأنفسنا ونحمل حقائبنا مهما كان وزنها ونسلمها عند باب الطائرة بعد أن تخضع للفحص الالكتروني وتربط في مكان مخصص لها  داخل الطائرة، وعند هبوطها نكرر العملية نفسها مع فرق أساسي هو أننا أثناء وجودنا في مطار ماركا الأردني لا نشعر بوطأة الاحتلال الأمريكي وأوامر جنوده المرتبكة بسبب حالة القلق المسيطرة على أولئك الجنود في منطقة تتعرض لسقوط القذائف والصواريخ وتستهدف الطائرات التي تقلع والتي تهبط.
وبعد أن استكمل جميع الركاب نقل العفش المرافق واستقر الجميع في مقاعدهم وهو ما استغرق أكثر من ساعة أقلعت بنا الطائرة متجهة إلى بغداد، وبعد طيران استغرق نحو ساعة ونصف بدأ قائد الطائرة استعداداته للهبوط اللولبي والذي يتطلب تماسكا منه بأعصابه فالنيران الأرضية المنطقة من الفلوجة له بالمرصاد، وهذا بدوره يجعل زمن الهبوط أطول بعدة أضعاف الوقت المحدد للهبوط الاعتيادي الآمن، وأخيرا بدأت الطائرة تسير على مدرج المطار ومن ثم توجهت نحو القطاع المخصص لخدمات القوات الأمريكية.
كان علينا أن نحصل على واسطة نقل من جانب القوات الأمريكية لكي تنقلنا إلى سيطرة المطار الخارجية والتي تسمى (جيك بوينت 1) وهناك ستنتهي مسؤولية القوات الأمريكية عنا عند هذه النقطة، وعادة لا يستطيع العراقيون أو وسائط النقل التي يمتلكونها من عبور هذه النقطة نحو المطار فمطار "صدام حسين الدولي" صار بعد الاحتلال أكبر قاعدة عسكرية للقوات الأمريكية الغازية ولم يعد ممكنا على أحد من العراقيين الدخول إليه إلا من دخله بموافقة أمريكية لحالة استثنائية كما هو شأننا أو لمن باع نفسه لقوات الاحتلال.
 ولما لم تكن هناك سيارة تتولى نقلنا من القاعة المخصصة للمسافرين من العسكريين الأمريكان المغادرين منهم والعائدين، فقد مضى الوقت علينا هناك طويلا وثقيلا بانتظار من يأخذنا إلى بوابة المطار الخارجية، لم يكن مظهر تلك القاعة يوحي أنها مخصصة لمثل هذه الفعاليات التي تتطلب عادة مقاعد مريحة ومرافق ملحقة بها للشحن والوزن وغيرها مما يحتاجه المسافر من وسائل راحة فهي خاصة بالعسكريين الذين يتحملون ظروف السفر مكرهين على وفق ما ترسمه لهم قياداتهم العليا.
واسطة النقل لم تتوفر لنقلنا على الرغم من أن القوات الأمريكية تحتفظ بعشرات الآلاف من العجلات المختلفة الاختصاصات وفي منشآت المطار تنتشر الآلاف منها، وحاول العريف واتسون أن يؤمّن لنا واسطة النقل ولكنه فشل في ذلك إلا بعد مضي عدة ساعات كنا خلالها نتقلب على جمر الانتظار، تعبيرا عن السخط قلت لمأمون ومروان "لو أن السرجنت سينترون هي التي اتصلت بقسم العجلات الأمريكية وليس العريف الزنجي واتسون ألم يكن طلبها قد لبي فورا؟ هذه هي عنصرية أمريكا التي تختفي في هذه التفاصيل الصغيرة".
 المهم كنت قد اتخذت احتياطاتي واتصلت بزوجتي من عمان وأبلغتها بموعد وصولنا وطلبت منها أن تحضر إلى نقطة السيطرة الأولى قرب المطار كي تأخذنا إلى المنزل، معتقدا أننا سنصل قبل المغيب، ولكن الطائرة العسكرية الأمريكية كررت سنن شركات النقل الجوي في عدم الالتزام بمواعيدها متذرعة بذرائع شتى، وفعلا كانت زوجتي قد جاءت برفقة شقيقتي وابنتها كفرقة حماية لأن تحرك النساء بالسيارات في شوارع بغداد أسهل وأضمن للسلامة من تحرك الرجال، ولكن زوجتي جاءت ثم عادت ثم جاءت وعادت مرة أخرى، ولما تأخر الوقت كثيرا فلم يعد بوسعها أن تأتي إلينا مع مرافقين صغار السن بسيارة تتحرك على طريق الموت في بغداد فالقوات الأمريكية تطلق النار على كل ساكن يتحرك أو متحرك يسكن.
بطارية الموبايل انتهى مفعولها تماما ولم يعد بوسعي أن أبقى على اتصال بالمنزل وإخبار الأهل بعدم وجود واسطة نقل أمريكية تؤمن نقلنا لمسافة لا تزيد على كيلومترين على أكثر تقدير، كنا قد طلبنا من الأمريكيين أن نذهب سيرا على الأقدام ولكنهم رفضوا تلك الفكرة رفضا قاطعا لأسباب تتعلق بأمن القوات الأمريكية ومنشآتها في منطقة المطار، واقترحوا علينا المبيت في المطار فرفضنا بدورنا ذلك المقترح من دون أن نمتلك إمكانية فرض رأينا على أحد، وبعد أن اقتربت الساعة من منتصف الليل، جاءتنا البشارة بأن وسيلة النقل قد حضرت، أهذا أمر يتطلب كل هذا الفرح بعد أن تطلب كل ذلك الانتظار؟ كنت أتساءل مع نفسي ومع مأمون عما إذا كانت زوجتي باقية حتى الآن في هذه المنطقة الخطرة حد الموت؟ ليس أمام الإجابة على هذا التساؤل المرير غير بضع دقائق، وسنعرف كل شيء على الرغم من أننا كنا على يقين أنها لم تبق في المنطقة حتى قبل ساعتين.
حركتنا داخل الجزء المخصص للجيش الأمريكي من مطار بغداد الدولي، محكومة بموافقات عليا وليس بمقدورنا الخروج من المنطقة والذهاب إلى أي جزء آخر من تلقاء أنفسنا، لذلك اضطررنا للبقاء في هذا الجزء لحين توفر سيارة توصلنا إلى البوابة الخارجية للمطار، حاولت الاستنجاد بالعريف واتسون لإجراء اتصال بالمنزل، ولكنه رفض بحجة أن هاتفه يعمل بخط أمريكي ولا يصلح للعمل على شبكة الموبايل العراقية، تظاهرت بتصديق الحجة مع أنني كنت قد تلقيت منه اتصالا سابقا قبل نحو أسبوعين بشأن سفرنا إلى أمريكا، ولكن ضعف الذاكرة أوقع واتسون بهذه الكذبة المفضوحة، بعد طول انتظار وصبر على البقاء في الجزء العسكري الأمريكي من المطار العراقي، جاءنا واتسون وقال تهيأوا لنقلكم إلى السيطرة الأمريكية كان الوقت قد تأخر كثيرا وأيقنا أن نقلنا من قبل القوات الأمريكية إلى حي العدل بات أمرا مستحيلا حتى لو طلبنا ذلك لتعذر الواسطة البديلة، لأن الصيادين العراقيين بانتظار طرائدهم في هذا الوقت الذي يقيم فيه المؤمنون صلاة الليل والجهاد، لم نكن نرغب بمثل هذا الاختيار السيء أصلا لأن الموت حق على كل إنسان، ولكن أن يموت عراقي يكره الأمريكان كما نحمل نحن من مشاعر على المحتلين داخل عرباتهم المستهدفة من رجال حملوا البندقية والقاذفة نيابة عن كل العراقيين ليقهروا جيش الغزاة، فذلك أسوأ ما يمكن أن يصادف عراقي في خندق عدوه وهو في الوقت نفسه ينتمي إلى الخندق المضاد.
بعد أن وصلنا إلى السيطرة الخارجية لمطار بغداد الدولي وجدناها خاوية على عروشها وتضرب الريح بأبنيتها بقوة فتثير صوتا كأنه عواء الذئاب، وعشنا مشكلة عودتنا لبيتنا في في هذه الساعة الموحشة ومن طريق موضوع تحت دائرة الرصد على مدار ساعات اليوم من قبل جميع القوى المؤثرة على الأرض، المقاومة المسلحة تترصد مرور قوات أمريكية عليه لتصطاد منها ما تستطيع، وتصدر أفرادها إلى بلادهم توابيت ملفوفة بالعلم الأمريكي، والقوات الأمريكية التي كان قائدها الأعلى الرئيس الأمريكي جورج بوش قد تناول الديك الرومي في مطعم الضباط والجنود في المطار نفسه تراقب الطريق بكل ما لديها من تقنيات وأسلحة، لأن هذه المنطقة خيبت آماله في كل مرة يعلن فيها أن النصر قد تحقق وأن الاستقرار سيكون متاحا بعد بضعة أيام، وتمر الأيام والأسابيع والأشهر والأمن يبدو كسراب يبتعد كثيرا كلما تقدم المرء نحوه.
 عندما وجد الأمريكيون أن السيطرة خالية من السيارات، دخلوا في مشكلة جديدة فنحن في عهدتهم طالما نحن في منطقة المطار، ومن واجبهم أن يؤمنوا لنا سيارة توصلنا إلى البيت أو على الأقل تخرجنا من منطقة المطار كي تنتهي مسؤوليتهم القانونية، بدأت الحيرة تسيطر على وجوه جنود الدورية الذين جاءوا بنا إلى السيطرة.
بدأت محاولاتهم لتدبير سيارة لنا ولم تكن هناك غير دورية لشرطة النجدة ترابط في المنطقة بموافقة القوات الأمريكية وكأنها خط الصد الأول عن القوات الأمريكية في منطقة ساخنة كثيرا، بدأ الحديث بين آمر الرتل الأمريكي وآمر دورية النجدة إذ أمرهم بتأمين إيصالنا إلى المنزل، لم يكن أمام ضابط دورية النجدة خيارات كثيرة مع الأمريكيين، ولكن الضابط لم يتمكن من اتخاذ القرار بنفسه، كان عليه أن يأخذ موافقة مراجعه عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية، لكن أمر الرتل العسكري الأمريكي فاجئنا وألقى قنبلة خطيرة حينما أبلغنا (بأنكم إذا قررتم الموافقة على الذهاب معهم فأنتم مسؤولون عن سلامتكم، لأننا لا نعرف عما إذا كان هؤلاء من الشرطة حقا أم لا، وأكد أن المسلحين الإرهابيين يمكن أن يكونوا قد نجحوا في اختراق هذا الجهاز وتسللوا إليه وبالتالي يمكن أن تكونوا أنتم المستهدفين، وربما نكون نحن المستهدفين، نحن لا نثق أبدا بكل ما يحيط بنا هنا)، ذهلنا من هذا الحديث الذي يعكس أقصى درجات التأزم والقلق عند أفراد القوات الأمريكية، فهذه شريحة تمثل نموذجا يعكس صورة صادقة لكل القوات الأمريكية العاملة في العراق، وعلى الرغم من كل التحذيرات التي أطلقها أفراد الدورية الأمريكية التي أوصلتنا من الجناح الأمريكي العسكري في مطار بغداد الدولي، إلى نقطة سيطرة الباب الخارجي للمطار، فقد قررنا أن نستعين بسيارات شرطة النجدة لإيصالنا إلى المنزل، لاسيما وأننا لم نجد بديلا آخر، فالمنطقة خالية تماما من السيارات والبشر، باستثناء الجنود الأمريكيين العاملين في السيطرة الخارجية وسيارات النجدة، وبعض الموظفين الذين يدخلون إلى المطار أو يخرجون منه ممن يعملون في مؤسسات الجيش الأمريكي، طبعا كان من المستحيل الاستعانة بأحد منهم مهما كانت الظروف، فنحن نظن أن هؤلاء جزء من المجتمع باع نفسه لشيطان غواية المال السحت وبالتالي فهو أسوأ من جنود القوات الأمريكية، عندما تحدث ضابط صف الدورية الأمريكية بلهجة آمرة مع ضابط دورية النجدة العراقية، ذهب هذا الضابط إلى الاعتقاد بأننا شخصيات في غاية الأهمية من العاملين مع الأمريكيين، ولم نكترث لهذه الصورة البشعة التي كونها أفراد شرطة النجدة، إذ لا ينفع الحديث معهم وتقديم عرض بقضيتنا لهم، من يدري فقد تثير واقعة من هذا القبيل ردود فعل عندهم ولهذا أبلغت مأمون ومروان بعد ذكر شيء عن مهمتنا في أمريكا ولسنا مضطرين لسرد هذه القصة لكل من هب ودب ومن الذين لا يقدمون ولا يؤخرون في جوهر القضية.
الشرطة لم تر في مثل هذا الواجب خروجا على مهماتها الأصلية لأن القوات الأمريكية هي التي أمرت بذلك حتى وإن كانت قد تحفظت على ذلك لأسباب عدم الثقة بدورية النجدة، بدأت أجهزة الاتصال تعمل بكل طاقتها بين سيارة قيادة الدورية والمركز الرئيس لشرطة النجدة، ولما ركبت في السيارة ظل جهاز الاتصال يعمل من اللحظة التي تحرك فيها من المطار وحتى وصولنا إلى المنزل، كان ضابط الدورية يعطي المعلومات تباعا لغرفة القيادة في شرطة النجدة ومع كل مثابة نصلها كان يبلغ المركز باسمها، كان المسير بطيئا ومحفوفا بمخاطر جمة لاسيما أننا كنا نمر في طريق الموت أي طريق مطار بغداد الدولي الذي أرسلت فيه المقاومة الوطنية المسلحة آلاف الجنود الأمريكيين غلى الآخرة، كان أفراد دورية النجدة يشهرون أسلحتهم الأتوماتيكية من خارج نوافذ السيارات تحسبا لكل طارئ، بعد رحلة لم تصادف أزمة مرورية بسبب خلو الشوارع من أية حركة باستثناء بعض الدوريات الأمريكية، وصلنا المنزل ووجدت أن ما قام به أفراد الدورية يستحق المكافأة فدفعت لهم 50 ألف دينار.
استقبلنا الأهل بترحاب عال بعد أن امتص القلق علينا كل رصيدهم من الصبر والجلد، وكنت قد قطعت عهدا على نفسي بعدم السفر مرة أخرى حتى لو استدعتنا القوات الأمريكية لمتابعة محاكمة النقيب الذي أصدر الأمر برمي زيدون ومروان أمام فتحات ناظم الثرثار.

للراغبين الأطلاع على الجزء السادس:

http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/12642-2014-09-19-09-51-54.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1076 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع