يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء الأول

  

          

هذه قصة استشهاد ابن أخي زيدون مأمون الذي اغتالته القوات الأمريكية رميا في مقدم سد الثرثار في سامراء في الثالث من كانون الثاني 2004، أضعها في متناول القارئ الكريم ليطلع على حقيقة الغزاة الأمريكيين وما ارتكبوه من جرائم تذكّر بجرائم المغول والتتار، ومن أجل التسهيل على القارئ سأنشرها تباعا بإذن الله

                       

                            د. نزار السامرائي

  
يوميات مسافر على طريق أحمر

قبل البداية
في 9 نيسان/ أبريل 2003 استكملت قوات الغزو الأمريكي البريطاني مع قوات من دول أخرى مثل اسبانيا وايطاليا واستراليا وكوريا الجنوبية وبولندا وغيرها، استكملت احتلال مدينة بغداد عاصمة الدولة العراقية ورمزها السياسي، وباشرت الولايات المتحدة بشكل خاص ومن دون خبرة حقيقية بطبيعة الشعب العراقي مع كثير من العنجهية والتصورات الخاطئة عن إمكانيتها لفرض نموذجها الخاص على البلدان التي تحتلها ورفض المقترحات الأخرى التي قدمت لها من دول شاركتها الغزو كبريطانيا التي تعتبر نفسها صاحبة الخبرة الأكثر عمقا وأكثر معرفة بالعراق لترتيب أوضاعه ، لكن الولايات المتحدة أغمضت عينيها وسدت أذنيها عن كل مشورة ومضت في تجاربها الخاصة، على وفق المخطط الذي تظن أنه يخدم إستراتيجيتها الإقليمية والدولية، فأطلقت القوات الأمريكية يد اللصوص والغوغاء والدهماء وقطاع الطرق المحليين والإقليميين والدوليين لتدمير ما بقي من مؤسسات بناها العراقيون بجهدهم وعرقهم وتضحياتهم عبر مسيرة امتدت لعشرات السنين، وفي الوقت ذاته أعطت لجنودها الحصانة لممارسة القتل من دون قتال ووضعت لنفسها قواعد اشتباك أجازت فيها استهداف الشيوخ والأطفال والنساء، فقتلت على الظنة والشبهة وقتلت في عمليات انتقام ميدانية انتقمت من العزل نتيجة عجزها عن مواجهة المقاومة الباسلة التي كانت قد انطلقت بعيد أقل من أربع وعشرين ساعة على احتلال مدينة بغداد، العراقيون لم يقاتلوا أمريكا وحدها بل قاتلوها ومعها جيوش نحو من عشرين بلدا، وحتى لو أنهم واجهوها منفردة فسيسجل لهم التاريخ فخرا أنهم قاتلوا أعتى قوة عسكرية عرفها تاريخ البشرية منذ أن عرفت الدول منظومات الجيوش والقوة المسلحة والخطط الحربية، ومنذ أن دارت على الأرض أولى حروبها، قاتلوا الولايات المتحدة التي كانت تمثل مركز الاستقطاب الوحيد في العالم ولم يتسولوا من أحد العون على الرغم من أن تقديم العون لشعب يقاتل من أجل تحرير بلده يعد أمرا مشروعا بل واجبا على الشعوب الحرة كلها، وعلى الرغم من أن العراقيين لم يبخلوا به يوما على أحد حينما كانوا يناصرون بلا منة كل المنافحين عن حقوقهم وحرية بلدانهم في كل بقعة في الأرض تعرضت للاحتلال والقهر والظلم والحيف، وألحق العراقيون بالمعتدين أكبر الخسائر في الأرواح والمعدات في وقت قياسي من زمن المنازلة ، نعم العراقيون لم يواجهوا إسرائيل ولم يواجهوا فرنسا، واجهوا العالم كله وهم مطوقون وممنوعون من الحصول على الدعم من أي طرف خارجي سواء كان عربيا أم غير عربي، ومع ذلك هزموا المشروع الكوني الأمريكي، وربما كانوا قد قاتلوا نيابة عن الإنسانية جمعاء ولو أن غزو العراق كان قد مر من دون ثمن باهظ دفعته أمريكا لكانت القوات الأمريكية تستقر الآن في الكثير من عواصم المنطقة ولكان العلم الأمريكي يرتفع فوق أبنية في كثير من عواصم العالم هي ليست سفارات أمريكية على أية حال، ولكانت واشنطن تستنسخ فيها تجربة الإدارة السياسية التي أقامتها في العراق على يد بول بريمر، وربما كان بول بريمر بما يملكه من حظوة عند الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، قد أصبح حاكما عاما للعراق وإيران ومنطقة الخليج العربي وبلاد الشام، ولكن العراقيين الذين تصدوا للمشروع الأمريكي بعزم ورجولة وشجاعة نادرة أوقفوا خطط الولايات عند بوابات العراق ولعق الأمريكيون جراحهم النازفة،

  

واعترفوا بحوالي خمسة آلاف قتيل فقط، وهو رقم يفوق خسائر إسرائيل في كل حروبها على البلدان العربية، على الرغم من أن الأرقام الحقيقية للخسائر الأمريكية تقرأ أكثر من ثلاثين ألف قتيل وأكثر من 226 ألف جريح، منهم آلاف المعاقين ومن الذين يعانون من لوثة عقلية أو هم بحاجة إلى رعاية دائمة، هؤلاء لم يأتوا بنزهة للعراق وإنما صور الأمر لهم على ذلك الأساس، بل قيل لهم بأن من طبع العراقيين أن ينحروا الذبائح لضيوفهم، وأن الزهور والحلوى ستنثر فوق رؤوس جنود الغزو وتحت سرف الدبابات الأمريكية المتقدمة نحو بغداد، وإذا بالذبائح تنحر ولكنها كانت من الجنود الأمريكان أنفسهم، وإذا بالدبابات تتطاير أشلاؤها نتيجة القذائف التي تطلقها زنود الرجال الثابتة أيديهم على سلاحهم، وإذا بغيوم فيتنام تتراكم فوق واشنطن، وإذا بالمقاومة العراقية تنجح في نقل المعركة من شوارع المدن العراقية إلى شوارع المدن الأمريكية مع كل نعش لقتيل أمريكي ملفوف بالعلم الأمريكي،ليترك له أصداء غاضبة على النزعة العدوانية الأمريكية، كان العراقيون يتحدثون عن خسائرهم بمرارة وهم شهداء عند ربهم ولكنهم يلحقون ذلك بذكر أرقام الخسائر الأمريكية كناية عن النصر وتخفيفا من غضبهم، أمريكا هذه ارتكبت جرائم تفنن في ابتداعها الضباط والجنود المرعوبين، ولكن هذه القصة التي بين يديك أيها القارئ الكريم جريمة من نوع خاص وهي تعكس الطبيعة السادية الهمجية لكل من ارتدى البزة العسكرية الأمريكية والتي تزعم قيادة الجيش الأمريكي أنها رمز للفروسية، فأين هي الفروسية في إلقاء شباب عزل في بوابة سد على نهر دجلة رمز الحياة العراقية المتجددة؟ فأراد الأمريكيون تحويله إلى قبر ترقد فيها كل النوايا الخيرة.
الخطوة الأولى
في الطريق بين بغداد وسامراء
 العابر عند مفترق أي طريق في بغداد هو مغامرة لا يمكن التكهن بنتائجها، حيث تنتشر القوات الأمريكية بدورياتها المتحركة والثابتة وحيث يكون كل شيء يتحرك هدفا مشروعا للقتل من دون إنذار على وفق قواعد الاشتباك الأمريكية التي وضعها الجيش الأمريكي لنفسه وجعل منها كرة مطاطية يمكن تكييفها على وفق الحالة التي تخدم الجندي الأمريكي حينما يكون على حق في أحوال نادرة جدا أو معدومة أو يكون على باطل في كل الأوقات، نعم المرور عند المنعطفات قد يثير في النفس مشاعر إنسانية متباينة، فهو من جهة يصك الأبواب أمام العقل للتحرك أو التفكير السليم ويغلق العين رؤية ما يمر أمامها ويسد الأذن عن سماع ما هو قريب منها، بل يغلق أي إدراك عقلي ويطلق بالمقابل العاطفة الحبيسة من مكامنها، أمام الموت الحقيقة المطلقة الوحيدة في الكون، والتي على الرغم من أنها لا مناص من الوصول إليها، إلا أن الخوف منها يرتقي إلى مديات يستحيل التحكم بها مهما بلغت شجاعة الرجال، وهو من جهة أخرى طريق لا بد من سلوكه للوصول إلى الغاية التي يقصدها من يسلكه ولا خيار له إلا المجازفة أو البقاء في المنزل.
فانتظار الموت وترقب وصوله، يطغى على الخوف من الموت نفسه، لأن توقع حصوله يشل المشاعر ويعطل المدارك والتفكير السليم، وحين ينشر ملك الموت جناحيه فوق أرض يحاول كل من هناك أن يغلق بابه دونه، أو أن يفلت منه بجلده وينقذ نفسه بأية وسيلة، قليلون هم الذين يفكرون بغيرهم في تلك اللحظات، وفد يجنّد البعض قدراتهم من أجل تقديم العون للآخرين، ولكن اقتراب لحظة الوداع هي الامتحان الصعب الذي لا يجتازه إلا القلة النادرة برباطة جأش، وقد تصدر عن المرء حركات تنم عن الرغبة في المشاركة في المصير المشترك، ولكن إذا وقع الاختبار النهائي فقد يكون من المسلم به بالنسبة للكثيرين أن يفكر الإنسان بنفسه أولا مهما كانت درجة الصلة مع الغير في مشهد الرعب الأخير، في شوارع بغداد ومفترقات طرقها وكذلك الحال بالنسبة للمدن العراقية التي روّعها الاحتلال الأمريكي، كان على العراقي أن يحسب خطوته بدقة حينما ينقل قدمه في شوارعها، لأن الخطأ الأول سيكون هو الأخير.
عندما كان زيدون صامتا وسارحا ينظر إلى البعيد من الطريق الرابط بين بغداد وسامراء ويفكر بقادم الأيام التي سيضمه مع خطيبته بيت واحد حيث يعود لعالم الطفولة البريئة ولكن مع أولاده الذي كان مصمما على أن يجعل منهم فصيلا كاملا، كانت هذه الأفكار تداعب مخيلته وتستنهض فيه كل عوامل التحدي والتطلع لحياة جديدة بكل مفرداتها وتفاصيلها على الرغم من أنه ما زال في مقتبل العمر إلا أنه نجح في وضع أبيه وأمه أمام الأمر الواقع بقبول فكرة الزواج المبكر، أما ابن عمه مروان فكان وهو جالس وراء مقوّد الشاحنة الصغيرة، يراقب الطريق نفسه بحذر شديد وإشفاق من أن يبرز أمامه رتل أمريكي فيملأ الأرض رعبا وهلعا ويحتل الطريق عن آخره ويصادر حق أهله من مجرد المسير ويفسر كل توقف على أنه دليل على عملية (إرهابية) فيفتح النار عشوائيا ولا يكترث لمن يقتل فذلك هو ما يرمي إليه، كان مروان يحمل من القلق الشيء الكثير لأن الأمريكان يقتلون ثم يبحثون عن مبرر معلن لسلوكهم مدعومين بإدارة منحتهم كل ثقتها ولذا كان يراقب في الطريق وعلى جوانبه كل حالة تطرأ فجأة وقد تغير وجهة الرحلة، كانت الشاحنة جديدة ولم يتوقع أحد منهما أن تصاب بعطل مفاجئ يلزمهما التوقف أكثر من مرة لمعالجته، ومع ذلك فقد رفضت المضي في طريق العودة، إذ تعرضت لعطل بعد مسافة غير بعيدة عن بوابة بغداد، حتى اضطرا في نهاية المطاف الاستعانة بميكانيكي لإصلاح الخلل وأخذ هذا التأخر من وقتهما أكثر من ضعف الوقت اللازم للوصول إلى سامراء قبل بدء سريان حظر التجوال، وبعد طول سفر وصلا بشاحنتهما التي أتعبتها الرحلة وأتعبتهما أكثر منها، إلى مشارف سامراء في وقت يقل بنصف ساعة من الوقت الذي أعطت القوات الأمريكية لنفسها الحق في فتح النار على كل كائن متحرك على الطريق بسبب حظر التجول الذي سيستخدم مسارا لإطلاقة جاهزة في بندقية جندي أرهقه رعب الانتظار لمجهول يفوق الموت في إثارة كوامن النفس، ويرى في كل متحرك عدوا مؤكدا وهدفا مشروعا للقتل، لأن من لا يقتل أولا سيكون هو الضحية.
 أقام (الحرس الوطني) الذي شكلته القوات الأمريكية من بعض ضعاف النفوس الذين لم يثبتوا أمام إغراء العملة الخضراء، أقاموا نقطتي تفتيش على جانبي سد سامراء لمراقبة الطريق الوحيد الذي يربط سامراء مع طريق بغداد الدولي مع الموصل، كان الجنود المتعبون والذين تحولت حجرتهم في بداية العام الميلادي، إلى مدخنة مغلقة بسبب موقد النار الذي حاولوا فيه امتصاص غضب الطبيعة بدرجات تدنت إلى مستوى الصفر المئوي، يتمنون ألا يضطروا لمبارحتها على الرغم من الدخان الكثيف الذي غطى جدرانها الداكنة، ومع ذلك فإنهم كانوا يراقبون المشهد عن بعد، ليس حرصا على تنفيذ واجب ينظر إليه أبناء مدينتهم على أنه عار لن تمحوه السنون وقفاز عراقي لحماية أيدي لاعبين غرباء يحتلون البلد، وإنما خشية من دورية أمريكية لا تمنحهم الثقة ولا تنفك تجوب المنطقة جيئة وذهابا، فتمزق جدران الصمت الشتوي القارس بحركة سرفات دباباتها وعجلاتها المجنزرة وتحيل الطريق إلى أرض محروثة بالأخاديد وكأنهم يسعون إلى تقويض أسس سد الثرثار على دجلة في سامراء، ولهذا كان أفراد الحراسة في المناوبة الليلية يتناوبون على مراقبة قدوم الدوريات الأمريكية، أكثر من الحرص على مراقبة  العابرين من سامراء وإليها، خاصة وأن بدء سريان منع التجول، لم يتبق لموعده إلا أقل من ساعة واحدة، وبعدها تنتهي مرحلة القلق وهاجس الخوف من غضب الشارع العراقي واحتقار القوات الأمريكية لكل المتعاونين.
عندما كانت الشاحنة الصغيرة تقترب من نقطة الحراسة، بدأ مروان باستخدام الإنارة والإشارات الرباعية، من أجل تنبيه جنود السيطرة الثابتة لسيارة كانت تسير ببطء شديد فتلك أوامر قوات الاحتلال وتطبقها قوات الحرس الوطني بحذافيرها ومن يخالفها يعرض نفسه لإطلاق نار مؤكد، خرج الجنود من حجرتهم المؤصدة  فلفحتهم نسمة باردة مرت قبل قليل فوق بحيرة مقدم سد الثرثار فحملت قليلا من الرطوبة التي لطّفت قليلا من برودتها فتيبست لها وجوههم الداكنة، تصنع الجنود الحزم في محاولة إخفاء التثاقل الكسول في هذه الليلة الباردة، هو ما أظهره الجنود مع القادمين.
ماذا جاء بكما في هذا الوقت؟ ظل الصمت بضع ثوان مع نظرات حائرة بين مروان وزيدون، ... تعطلت السيارة في الطريق فأخرتنا، قال مروان وكان يريد الانتقال إلى السؤال التالي.
بعد برهة عرف بعض جنود نقطة التفتيش القادمين في هذه الشاحنة الصغيرة فرحبا بهما وحاولا أن يقدما لهما شيئا ساخنا يدفع عنهما البرد والقلق، لكن الأمريكيين إذا عرفوا بذلك فقد يخسر أفراد الحرس الوطني وظائفهم ومصدر رزقهم، كان المشرف على نقطة السيطرة ضابطا من غير أهل المدينة، لضمان عدم حصول تواطؤ بين أفراد نقطة السيطرة وأهل المدينة قد يسبب خرقا لأمن الجنود الأمريكان، فأمرهم ببدء التفتيش الدقيق لحمولة الشاحنة، وكذلك محركها وقمرة القيادة، وبعد ذلك تفتيش سائقها ومن يرافقه، كان الوقت يمضي بطيئا جدا ويشد معه الأعصاب، وبعد أن انتهت حفلة التفتيش، همس جندي من العاملين في السيطرة وهو من أهل سامراء بأذن مروان :

  

لا تعبر السد فلم يعد هناك متسع من الوقت وهؤلاء الكلاب يترصدون العابرين بحثا لهم عن ضحية ولن يفلت منهم أحد، لقد تكبدوا اليوم خسارة كبيرة في جنودهم عندما انفجرت عبوة ناسفة بدورية آلية لهم عند مفترق طريق المرور السريع المؤدي إلى بغداد جنوبا والموصل شمالا ودمرت لهم عربة همر وقتلت من فيها، إنهم اليوم كذئب جريح يحاول التنفيس عن احتقان يغلي في الصدور ويبحث عن ضحية يتلهى بها، سيفكرون بالانتقام لمجرد أنهم وجدوا فرصة لذلك كي يتظاهروا بالوفاء لمن قتل منهم، حتى لو كان الضحية لا صلة له بمن قتل من جنودهم، المهم أنهم يبحثون عن ذريعة لممارسة لعبتهم المفضلة أو هوايتهم المقدسة، السباحة في دماء الأبرياء، لقد اعتادوا منظر الدم ولا يطيقون عدم رؤيته لزمن طويل.
تشاور مروان وزيدون في هذه النصيحة الثمينة والمجانية، وتداعت التحليلات متزاحمة ومتناقضة، وتوجها بالسؤال إلى الجندي الحائر، ماذا لو جاء الأمريكيون ووجدونا في هذه المنطقة العسكرية المحظورة علينا وماذا لو وجدونا على قارعة الطريق؟ أنتم وحظكم! قال جندي من سيطرة الحرس الوطني لم تمر علينا حالة كهذه ولا ندري ماذا ننصحكم، وإذن فالخطر واحد وبدرجة متساوية، إذن لماذا المكوث هنا، ولدينا بعض الوقت كي نصل إلى المنزل فنحن لا نحتاج أكثر من عشر دقائق على أكثر تقدير حتى بفرض المسير البطيء، ركبوا السيارة ولوح لهم بعض الجنود بأيديهم بإشفاق وألم، حتى توارت الشاحنة في ظلام الليل البارد، في طريق السد الملتوي والرابط بين سد الثرثار ومدينة سامراء في جوف الليل المظلم.
كانت الضرورة تقتضي السياقة الحذرة مع انتشار السيطرات الأمريكية المتحركة على طول السدة الترابية القوسية الموصلة مما يلي منطقة القلعة على يمين الطريق العام ويربط بين بوابات ناظم سد سامراء الذي كان يستخدم جسرا بين شمال سامراء وجنوبها، الأمريكيون يقيمون سيطرات آنية لفترات قصيرة لتنتقل إلى مكان آخر، ولهذا فقد كان حتميا التعامل مع هذا الظرف بمنتهى الحيطة والحذر، فلا مجال هنا للاعتذار عن خطأ ولا وقت لتصحيحه إن وقع، فبندقية الجندي الأمريكي تتصيد المخطئ للتخلص منه حينما يكون القتل مرادفا لمعنى حماية النفس والمهمة العسكرية المكلف بها، ليس هناك وقت للبحث عن الخطأ من أجل تصحيحه.
 حينما عبرا السدة الترابية ودخلت الشاحنة على الطريق العام في مدينة سامراء من جهة دار الاستراحة وأصبحوا على اليابسة، شعر مروان وزيدون بارتياح شديد لأنها العقبة الكبرى في الطريق بكامله، إذن دخلا مدينتهما التي كانت في هذا الوقت تغط في سبات عميق إلا القلة من شبانها الذين حملوا فوق أكتافهم قاذفات RBG7 والقنابل اليدوية وحملوا أرواحهم على أكفهم في مواجهة الاحتلال بالإيمان وبالأسلحة الخفيفة، قبل الاحتلال كانت سامراء تفيض حيوية ونشاطات تجارية لتسويق محاصيلها الزراعية على مدار العام، ولا يغلق آخر مقهى في المدينة أبوابه ألا قبل الفجر بقليل استعدادا للصلاة، هذه المدينة التي ظلت حاضرة الإمبراطورية العربية الإسلامية لعدة عقود من أيام ازدهارها وأصبح مئذنتها الملوية مقصدا للسياح للتمتع برؤية أجمل مئذنة في العالم.
 ظلت سامراء مدينة محافظة على وشائج نادرة من الألفة والمحبة والتعاضد والتضامن بين أهلها ونموذجا لإكرام الضيف، ها هي اليوم وتحت الاحتلال وبسبب الحزن على من فقدتهم من أبنائها، وبسبب من عسف وعنت تعرضت لهما على أيدي جنود القوات الأمريكية، باتت اليوم طرقا مهجورة وبيوتا تترقب في كل ساعة صدمة جديدة من دهم أو وصول جثمان عزيز قضى وهو في بداية الطريق، ولكن العزاء في كل ذلك أن عدد جنود الاحتلال الذين قتلوا فيها يصل عدة أضعاف لأبنائها الذين استشهدوا دفاعا عن العراق الوطن والأرض والعرض والشرف والحضارة، ولذا كان حقد الجنود الأمريكان عليها بحجم ما فقدوه في طرقاتها من أرواح ومعدات وكرامة.
 لم يبق ألا ثلاث دقائق ونكون في المنزل قال مروان لزيدون، اليوم اقض ليلتك عندنا واتصل بعمي وأخبره بأنك ستبيت عندنا، تمتم زيدون بكلمات مبهمة لم تصل إلى أذني مروان بسبب صوت محرك السيارة وانشغال البال بالظرف الراهن والمثير لكل أسباب القلق، ولكن وعلى مقربة من معمل الأدوية الذي احتفظ بكل مكوناته على الرغم من كل عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها الممتلكات العامة في كل أنحاء العراق بعد الاحتلال، وبتحريض منه ومن مترجمين وأدلاّء كويتيين في توجه انتقامي من العراق لم يكن متاحا لهم التعبير عنه فجاء الاحتلال ليمنحهم هذه الفرصة، استمر معمل الأدوية في سامراء بالعمل ولم تمتد إليه يد آثمة ليواصل عطاءه في مواجهة كل أسباب الموت.
 وفجأة ومن دون مقدمات قفز من المجهول عدة أشباح وانتصبت أمامهم مروان وزيدون، ترجل عدد من الجنود الأمريكيين من آلياتهم الثلاث والتي كانت من نوع برادلي ويحملون أسلحتهم الأوتوماتيكية والمشرعة باتجاه الآخر أيا كان عمرة أو جنسه، من أين خرج هؤلاء؟ هل انشقت الأرض عنهم على حين غرة، استوقفوا شاحنة مروان وزيدون وأنزلوهما منها، بدأت الرحلة الثانية من العذاب والتفتيش وترافقت مع سيل من الأسئلة الغامضة والتي تشي بكثير من نوايا السوء التي يستبطنها جنود الولايات المتحدة حيثما حطت مراكبهم، إذ لا مترجم عندهم ولا أحد منهم من يجيد العربية ولو بصورة مكسرة من هؤلاء الجنود، ولا هما يجيدان الانكليزية ولو بحدودها الدنيا، هذه سلطة من يظن نفسه قويا أو أن القوة ستبقى بيده إلى الأبد، ولهذا كان سلوك الجنود مزيجا من الخوف من المجهول والوحشية والقسوة وتعمد إذلال العراقيين واهانتهم، بعد أن انتهت عملية تفتيش دقيقة جدا للشاحنة من الداخل والخارج والمحرك، أبلغ الجنود مروان وزيدون بالذهاب في حال سبيلهما، حمدا لله انطلقت العبارة من تلقاء نفسها منهما معا وفي وقت واحد، فمن يمر عند نقطة كهذه فهو مدان إلى أن تثبت براءته، ولم يكملا عباراتهما إلا وكانت المدرعة تلحق بهما وتوقفهما مرة أخرى، نزل منها عدد من الجنود، ثلاثة .... ثلاثمائة، قد يمر بخاطر من في مثل هذه الحال أن الأمور هي هكذا، كان الجنود يشهرون بنادقهم نحو مروان وزيدون الأعزلين، بنادق آلية سريعة الطلقات، ويعتمرون عدة القتال الكاملة، خوذهم الفولاذية تترنح فوق رؤوسهم، والسترات الواقية من الرصاص ملتصقة على صدورهم، وفوق المدرعة بقي جندي يوجه رشاشته المتوسطة نحو كل شيء يتحرك، الحذر حينما يصبح فوق حده يتحول إلى خوف، يشل قدرا كبيرا من التفكير، والخوف حينما يتجاوز حده يتحول إلى لباس جبن لا يرتديه الرجال، (انزلوا فورا، أو هكذا التقت الإشارة مع الكلمات المتدفقة من فم الرقيب الأسود الوجه والقلب)، ترجلا من الشاحنة وسرت نوبة جديدة من قلق أكبر، إنه قلق مشروع في زمن رخصت فيه قيمة الإنسان العراقي وحياته فكل شيء يؤكد ذلك في سامراء وغيرها من مدن العراق، أغلق الجندي الشاحنة وألقى بمفاتيحها لمروان وقال له ستبقى الشاحنة هنا، وأمر الجنود راكبيها بالوقوف جانبا، وأخرج جندي حبالا وقطع قماش، وتم ربط أيديهما وعصب عيونهما بشكل محكم، وتم دفعهما بقوة إلى داخل عربة عسكرية أخرى كانت متوقفة على مقربة من مسرح الحادث، ومضت في طريق مجهول.
هل هناك متسع من الوقت للوم النفس أو الغير حتى إذا كان من دون صوت أو بأثر رجعي؟ وهل أخطأنا حينما رفضنا عرض جندي الحرس الوطني في سيطرة السد بالمبيت الليلة عند نقطة السيطرة؟ وماذا سينفع الندم بعد الآن؟ هل يعيد ندم الدنيا كله عجلة الزمن ربع ساعة فقط إلى الوراء؟ وأهم من هذه الهواجس والأسئلة كلها، إلى أين يذهب بنا هؤلاء القتلة وماذا تراهم فاعلون بنا؟ كانت الأسئلة تتسابق تتساقط تباعا حتى من دون الرغبة في الحصول على جواب صامت من الداخل أو صاخب من الخارج، فلا فرق بعد الآن فنحن بيد عدونا الذي احتل بلدنا وجرائمه ملأت بلادنا خرابا ودما وجثثا، ولسنا استثناء عن أبناء بلدنا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

756 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع