أيام زمان - الجزء ٣٩ البيض في الموروث الشعبي

 أيام زمان-الجزء ٣٩ البيض في الموروث الشعبي

الموروث الشعبي ليس في الحفاظ على العادات والتقاليد، أو التاريخ أو إظهار منجزات الآباء والأجداد فحسب، وإنما لأنه يعزز قيم الولاء والانتماء إلى الوطن، ويمثل حافزاً لبذل المزيد من الجهد في سبيل مواصلة طريق السابقين، ولابد على إبقاء التراث الثقافي حاضراً في عقول وقلوب الأجيال الجديدة، وذلك من أجل تحصينها في مواجهة التيارات الهدامة التي تريد أن تنال من هويتها الثقافية، أو تهدد خصوصيتها الحضارية، ولكي تستطيع أن تتعامل مع المستجدات المختلفة في العالم والتفاعل معها بإيجابية، وتقف على أرضية ثقافية متجذرة في أعماق التاريخ، وللبيض موروث في العادات والتقاليد الشعبية وكذلك في الطب الشعبي.

يتفاءل العراقيون بالبيض، فهم يكسرون بيضة غير مطبوخة، في كل مدخل من مداخل الدار المشيدة حديثا، في ليلة الانتقال إليه، اعتقادا منهم أن هذا ســهم الملائكة الصالحين، وطمعا في استجلاب الخير، ومنهم من يؤدي نفس العملية عند الانتقال الى دار غير الدار التي كان يسكنها، حتى ولو لم تكن جديدة كما انهم يتفاءلون بـ (طك بيضة نيه جوه رجل العروس )، عند دخولها الى دار الزوجية علاوة على نحر خروف، وما الى ذلك من مراسيم طمعا في طلب الخير والرزق للزوج، ولابد لهم من كسر بيضة نيه في كل مدخل من مداخل الحمام قبل دخول النفساء اليه في اليوم السابع من ولادتها.

ومن الواجبات التي يتمسك بها العراقيون في خدمة الجار، مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، عند حدوث وفاة في محلة ما، لابد من قيام أحد جيران عائلة المتوفي، من تقديم الطعام للعائلة المنكوبة، بعد إخراج الجنازة والذي يتألف غالبا من ورد ماوي مخدر (مغلي)،

والشاي والبيض المسلوق والخبز، لاعتقادهم بان البيض (ميسوي شوطة) ومن هنا جاء قولهم (أكل البيض يزيل الغيض).
يتشاءم العراقيون من إدخال البيض الى البيوت بعد صفار الشمس (بعد المغرب) . أما إذا مات لهم ميت في ليلة الأربعاء، فلا بد لهم من وضع بيضة نيه مع مسمار حديد، وسبع خوصات سعف تحت رأسه، إبعادا للنحس واطمئنانا على بقية أفراد العائلة، لأنهم يعتقدون بان الميت سيجر بعض أفراد الأسرة، لاسيما الصغار منهم إن لم يفعلوا ذلك. يفسر العراقيون رؤيا البيض في المنام تفسيرات مختلفة وعديدة، منها من رأى أن دجاجته قد باضت
وكانت زوجته حاملا، فإنها ستلد له ولدا، ومن رأى انه يأكل البيض نيه فانه سيأكل مالا حراما، ومن أكله في منامه سليقا فانه سيرزق مالا حلالا، ومن رأى في منامه انه يملك بيضا كثيرا فانه سيحصل على مال ومتاع كثير. والبيض الكثير لمن كان أعزب معناه انه سيتزوج، وإذا رأه وهو متزوج فمعنى ذلك انه سينجب أولادا ومن رأى البيض الناعم في المنام فانه يدل على البنات، ومن رأى البيض خشن فانهم سيرزقون بالبنين، ومن رأى في حلمه انه قد اعطى بيضة وكان له ولد واحد وانكسرت تلك البيضة، فان تفسير الحلم وفاة ولده الوحيد، أما إذا وجد الحالم نفسه يأكل صفار البيض، فمعناه انه سينال ذهبا كثيرا ومن اكل بياض البيض فانه سينال ربحا اقل، حيت إن تفسير بياض البيض (فضة) والفضة كما هو معلوم أرخص من الذهب.


وقد ذكروا البيض في الأمثال فقالوا: (بيضة متكسر حجارة)، يضرب لصرف الضئيل المستضعف عن مطاولة ذي نفوذ وقوه. و (بيضة من بيضة تفســـد) يضرب للعدوى تقع بسبب المجاورة. و (بيضة اليوم أحسن من دجاجة باجر)، يضرب في ترجيح ما هو واقع في اليد، وان كان قليلا على ما هو مظنون الحصول في وقت أخر. و (الديج الفصيح من البيضة يصيح)، يضرب للذكي النابه من الصبيان. و (ليبوك بيضة يبوك جمل) يضرب في عدم الاستهانة بالجرائم البسيطة فان ذلك يمهد لاقتراف الكبائر فيما بعد.
والبيض في اللغة والتعابير، يقال من صفات الدجاجة بياضة أو بيوضة، ومن ألفاظ البيض (بيض الغنم) وهي خصية الخراف، وبيضة الرجل أو بيضاته ترمز إلى الخصية، وإذا أريد إخصاء ذكر انتزعت بيضتاه أو عصرتا عصرا.

وبيض اللكلك نوع من حلوى الأطفال، وبيض الحمام في نداءات الباعة كنايه عن التمر الزهدي، قولهم (بيض الحمام يا بيد راية). وبيضة العكر لفظ يكنى به عن شيء لا أخ له ولا مثيل، وقولهم (بعده بالبيضة ) أي لازال صبيا صغيرا، و(احجي البيضة ) أي قل لي الحقيقة ولا تكتم عني شيئا، وقولهم (من البيضة فاسد )لمن تأصل الفساد في طبعه وسلوكه ، كما يقال لشخص يتلعثم في كلامه ويتلكأ في إخراج كلمة يريد أن يقولها (دبيضها لهل بيضة )، أي قل ما تريد قوله كما يقال لغير المستقر في مكانه، (اشبيك بس تلوب مثل الدجاجة العاصية بيضة بطيزها )، وفي الكنايات البغدادية ذكروا البيض فقالوا (يكلي البيض بالضراط ) أي مملق لا مال عنده، و(عبالك ديمشي على بيض )، أو (عبالك جوه رجليه بيض )، لمن يمشي وئيدا وبحذر شديد . ولاستحالة الشيء عدم الحصول عليه يقولون (لما يبض الديج). (بيضه ما بيها صفار) تقال لما يستبعد من الأمور.

أما البيض في الطب الشعبي لأنه يدخل في العقاقير والمعالجات الطبية، فهم يخلطون صفار البيض بالكرمندي (مادة مطارية لينه تميل الى السيولة)، يعالجون به الدمامل، وذلك يعمل لبخة تعجل في انفجارها كما يضعون
بيضة مسلوقة توا على عين الأرمد المتورمة الأجفان، كي تعجل في إزالة التورم وشفاء العين. وإذا كان أحدهم حسه مطبك (صوته أبح) وصفوا له شرب بيضة على النص (نصف مسلوقة)، أو خلط بيضة نيه مع كوب حليب مغلي يشربه على الريك (قبل الفطور)، كما يطعمون الطفل الرضيع في شهره الرابع صفار البيض نيه مع قليل من الملح، لتقوية عظامه ومساعدته على النمو. وفي حمام السبعة يجلسون المرأة النفساء على كيس الحمام بعد أن يضعوا فوقه كمون مسحوق مع بيضة نيه مكسورة، كما يدلكون جسم النفساء في حمام السبعة أيضا بمزيج من مواد عطاريه، يتألف من بطنج ولب نوى المشمش مطحون مع بيضة نيه، تسمى هذه الوصفة ب (الدلوج) اعتقادا منهم بان هذا الدلوج مع المساج الذي تقوم به الجدة (القابلة)، عادة يعيد عضلات الجسم الى حالتها الطبيعية، ويضمن للنفساء نشاطها، كما يعتقدون أن اكل البيض يقوي الباه ويؤدي الى غزارة المني. واستعملوا صفار بيضة نيه مع ملعقة دهن زيت مخفوقة خفقا في دهن منابت شعر الرأس لأجل تقويته.
وأضيف البيض الى شامبو الحمام، ويقال إنها تقوي الشعر وتمنعه من السقوط، وتزيل أثار القشرة من الرأس ، وعند فطام الطفل عن الرضاعة يبيتون تحت رأسه بيضتين، واحدة مسلوقة قشرها مصبوغ باللون الأحمر، وهو اللون الذي يلفت انتباه الأطفال اكثر من بقية الألوان، والبيضة الأخرى نيه غير مصبوغة، وفي صباح اليوم التالي يؤخذ الطفل المفطوم الى الشط، ويطلب منه رمي البيضة النيه في الماء، وبعد تنفيذ الطلب ورمي البيضة سيبكي الطفل حتما أسفا على فقدها، فتقدم عندئذ البيضة الحمراء المسلوقة التي سيرفضها بدوره، على الر غم من لونها الأحمر الجذاب، وبعدئذ تزيل الأم القشرة المصبوغة عن البيضة فتظهر عندئذ مشابهة للبيضة المفقودة.
وإذا عسرت امرأة حامل عند الولادة، فيأخذ أحد أفراد أسرتها بيضة مسلوقة الى أحد الأتقياء المعروفين بتعبدهم ونسكهم، فيكتب على قشرتها بلعابه (أية الكرسي)، ثم تقشر البيضة وتقدم الى الحامل (المعسرة) لتأكلها، وبعدئذ تسهل عليها ولادتها كما يزعمون، وهناك من العلماء من يكتب على قشرة البيضة المسلوقة بعض الآيات القرآنية الكريمة بمنقوع الزعفران، فان أكلها ممن كان يشكو ألم في ظهره أو أطرافه فانه يشفى كما يزعمون.
وللبيض استعمالات عديدة في معالجة بعض أمراض الخيل منها: الصجاع (إصابة الحصان بالنزلة الصدرية نتيجة تعرضه للبرد) حيث يسقى الحصان عدة بيضات نيه مخفوقة خفقا جيدا عند الصباح قبل إعطائه العليق.


أما طريقة فحص البيض لمعرفة الفاسد (غير الصالح للأكل)، منه فتجري بمسك البيضة في داخل كف اليد محاطة بالأصابع الأربعة، من جهة والإبهام من جهة أخرى، ثم تقرب البيضة نحو احدى العينين وإغماض الأخرى غير المستعملة في الفحص باتجاه الشمس فاذا ظهر في داخل البيضة خيط احمر، كانت البيضة فاسدة غير صالحة
للأكل. وهناك طريقة أخرى لفحص البيض كثيرا ما تستعمل في البيوت، وذلك بوضعه في إناء مملوء بماء نقي فكل بيضة تطفو على سطح الماء فاسدة، وما استقر في قعر الإناء فهو صالح للاستعمال، وأخيرا ابتكروا جهازا بسيطا لفحص البيض هو مكعب من الخشب، في أعلاه ثقب تستقر عليه البيضة المراد فحصها، مثبت تحتها مصاح كهربائي بعد إنارة المصباح، فتظهر البيضة الفاسدة واضحة.
أما البيض في التسلية واللهو فقد ذكروا البيض في الألغاز فقالوا (بيضة بضبضة تلمع لميع الفضة لا صاغها صايغ ولا لبستها حرة)، والمراد بها القمر إذا أراد أحدهم مداعبة طفلة بقصد إلهائه وتسليته، يقول له (تريد بيضة)، فينفخ القائل عندئذ خديه، ثم يضرب بكفيه على خديه، (كل كف على خد)، محدثا صوتا ثم يقول لصغيره (خذ بيضة) مشيرا الى السقف. ولأجل اختبار نباهة أحد الصبيان، يسألون الصبي (إذا باض الديك على التيغة) التي تفصل بين الجيران منو يأخذها؟ وفي المرهنات أيضا التمييز بين البيضة المسلوقة والنيه، فالشاطر الذي يدور البيضتين واحدة تلو الأخرى بواسطة يده، فالبيضة المسلوقة يكون دورانها منتظما وسريعا، عكس البيضة النيه وفي ألعاب الصبيان ذكرت البيضة في لبعة اسمها (تسعة والبيضة) وقد ذكرت البيضة أيضا عند ترقيص الأمهات أطفالهن
وهناك استعمالات أخرى للبيض حيث يستعمل من قبل (الخياط فرفوري) بياض البيض مخلوطا مع النورة الناعمة في سد شقوق الأواني المكسورة بعد تثبيتها مع بعضها بواسطة السلك الرفيع، وتستعمل قشور البيض مسحونه مع السبداج، كما تستعمل القشور كاملة وهي فارغة في تزين بعض أشجار الصبير، يستعمل البيض كثيرا في السحر ويفضل بيض الدجاجة السوداء على غيرها لثبات السحر الذي يجري بواسطتها.

كانت تجارة البيض في العراق مقتصرة على اليهود، حتى أسقاط الجنسية العراقية عنهم، متخذين لهم سوقا خاصا في بغداد (سوق الدجاج)، كان اليهود يقصدون القرى والأرياف لشراء البيض بأثمان بخسة، ثم يحفظونه في سلال مليئة بالتبن، ليرسلوها الى مقرات عملهم على ظهور الحيوانات، ثم استعملوا الصناديق الخشب لحفظ البيض ونقلوها بواسطة السيارات وبعد ذلك يقومون (بعزل) تفريق البيض حيث يبيعون الخشن (الحجم الكبير) منه بسعر أعلى من سعر الناعم. كما أن بعض العربيات (الريفيات) يتجولن في أزقة بغداد تحمل كل منهن سلة مليئة بالبيض المحفوظ بالتبن وتنادي (بيض تازة وخشن).
المصدر: بغداديات عزيز الحجية

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://www.algardenia.com/mochtaratt/58204-2023-03-31-10-40-53.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

476 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع