أيام زمان - الجزء ٣٨ الخبز والتنور في الموروث الشعبي

 أيام زمان-الجزء ٣٨ الخبز والتنور في الموروث الشعبي

المعتقدات لم تأت من فراغ، فهي ميراث تاريخي منذ القدم وتتوارثه الأجيال، ولذلك لا يخلو تراث أي شعب من مثل هذه الخرافات، سواء كانت ضمنت الأساطير أو ممارسة الشعائر الدينية والسحرية، بطريقة خاطئة لا تمت للواقع بصلة، وللجهل دخل كبير في انتشار هذه الخرافات والتمسك بها والتعايش معها، كما أنها تتغلغل داخلهم، وتتوارث ولا تزول بزوال الجهل، لأنها ذات جذور عميقة ومتشبثة داخلهم.

لكل مجتمع إنساني معتقداته وعاداته، التي تتحكّم بقدر ملحوظ في سلوك أفراده، وقد تكون هذه المعتقدات أصيلة موروثة من الأقدمين، أو منقولة من مجتمعات أخرى ولدينا في العراق الكثير من الاعتقادات ومنها المعتقدات والعادات للتنور والخبز ومنها.
أذا تعجلت أحداهن الحلف (اليمين والقسم)، وندمت على ما بدر منها، فتعمدت الى الاستبراء من يمينها والتخلص من مغبة حلفها، وذلك بأن تقفز على التنور، فاذا فعلت ذلك أسقطت يمينها وتحللت من التزامه.
وإذا تأخرت ولادت الحامل، فأن عدد من قريباتها يبتهلن إلى الله عز وجل، أن يسهل ولادتها، فمنهن من يصعدن إلى السطح العالي، ومنهن من يصرخن في البئر أو في التنور، (يا قريب الفرج يا عالي بليه درج يامن فرجه قريب وسائله لا يخيب كل نفس).
كما لا يجوز كسر التنور، ولا رمي القاذورات أو البصاق به، لأنهم يعتقدون بأنه مقدس ويسمونه (تنور الزهرة) نسبة إلى فاطمة الزهراء.

كما لا يجوز ترك فتحة التنور مفتوحاَ دون غطاء بعد غروب الشمس، لئلا يصاب رب البيت بضرر. ولا يجوز بناء التنور في شهر صفر لأنهم يعتقدون بأنه شهر منحوس.

وهناك استعمالات أخرى للتنور عدا خبز الخبز، حيث تقوم بعض العوائل بشوي اللحم، الدجاج، السمك. وخبز الكليجة في المناسبات قبيل الأعياد، وتسخين الماء، حيث يضعون القدر المملوء بالماء فوق فوهة التنور، ومنهم من يستفيد من نار التنور في طهي بعض الأطعمة التي تتطلب ناراَ هادئة وقتاَ طويلاَ. كما يوضع الماء في أبريق من النحاس داخل التنور للاستفادة من مائه الدافئ، في الوضوء فجراَ لتأدية فريضة صلاة الصبح في الشتاء.


أما الخبز في اللغة والتعابير، فقد نعت العراقيون خبز الحنطة، والذي يسمى ب (خبز المي) بأوصاف ونعوت تصوره تصويراَ حقيقياَ فقالوا:

(خبز مكسب أو محمص)، ومنهم من يقول (مْتَفَحْ) نسبة إلى التفاح وهوة المرغوب لدى معظم العراقيين، ويفضلون أكله حاراَ. وهناك (خبز لين) أي الخبز الذي لم ينضج نضوجاَ كاملاَ. و(خبز محروك) أي الخبز الذي يخبز بنار حامية، حتى تحترق معظم جوانبه. وكذلك (خبز مدخن) وهو الخبز الذي يخبز في التنور، والسبب وجود قطعة من الحطب تستمر بالتدخين في غفلة من أم البيت (الخبازة) فتتشبع أرغفة الخبز برائحة الدخان، لذا وصفوه بالخبز المدخن. أما (الخبز المختمر أو المجشج) وهو الخبز الذي فات موعد خبزه بعد اختمار العجين، ويكون طعمه حامضاَ. ويوجد أيضا (خبز فطير أو لم يختمر) أي خبز غير مختمر وتكون أرغفته كالجلد يصعب مضغها، طعمه غير لذيذ لا يشبع أكله، ومن أكله تكثر الغازات في معدته، وقد ورد ذكره في الأمثال قولهم:

(خبز الفطير من البطن يطير). و(الخبز الملهوك) وهو خبز (شلالي) لم تحسن الخبازة عمله ويكون غير ناضج. و(خبز يهيص) وقد تختلط بعض ذرات التراب مع الطحين قبل عجنه أو مع العجين قبل خبزه ومن يأكل الخبز الناتج عن ذلك العجين (يجده يهيص) تحت أسنانه، (يشعر بأنه يطحن تراب مع الخبز)، فلا يستحب أكله. و(خبز حار) وهو الخبز الذي يؤكل بعد إخراجه من التنور بفترات قصيرة. و(خبز بارد) أي الخبز الذي فاتت مدة على خبزه وإخراجه من التنور. و(خبز بايت) والمقصود الخبز الذي مضى على خبزه يوم كامل. و(وخبز يابس) ويعني الخبز الذي مضى على خبزه عدة أيام. أما (خبز مكطن) أي الخبز الذي يظهر عليه العفن، وهي طبقة خضراء من الفطريات يخشى من أكله، وغالباَ ما يعطى للحيوانات أو يرمي في (تنكة الزبل).

أما خبز الخبز فكل رجل يقوم بعجن الطحين وتهيئة العجين وخبزه يسمى خباز، وكذلك بالنسبة للمرأة تسمى الخبازة، فأم البيت التي تقوم بأعداد الخبز لعائلتها ضمن أعمالها اليومية تعتبر خبازة هاوية، ويكون تنورها من الحجم المتوسط، والخبازة التي تمتهن تهيئة الخبز وبيعه فهي خبازة ممتهنة أو محترفة، ويكون تنورها من النوع الكبير.

سابقا أيام زمان يوجد عدة أساليب لعمل الخبازة المحترفة. منها الاتفاق العوائل مع الخبازة على القيام بعملية الخبز فقط، وترسل العائلة المتفقة معها الطحين والحطب، وتعطي لها أجور العمل فقط. وهناك من يتفق مع الخبازة بخبز العجين الذي يرسل لها، وتقوم بخبزه مع تحميل تكاليف الحطب اللازم لشجر التنور، وتكون أجورها شهرية أكثر من الاتفاق السابق. وهناك الخبازة التي تقوم بتجهيز الخبز كاملاَ وتوزيعه على زبائنها، من بيوت المحلة لقاء أجور شهرية، فترسل الى كل بيت عدد الأرغفة المتفق عليها، مع أحد أبنائها وتقبض ثمنها في نهاية كل شهر.

أما بيع الخبز في الأسواق: هناك من الخبازات من يبعن خبزهن في الأسواق، وتقوم أخت الخبازة أو احدى بناتها ببيع الخبز في السوق، ويتخذن أماكنهن على قارعة الرصيف، أو في بعض جوانب السوق، وتعرف كل خبازة مكانها الذي تخصصه لنفسها، فتضع فيه طبك (سلة) الخبز يومياَ ولا يزاحمها الخبازات وكان يباع في سوق الفضل بالوزن، وكان لكل خبازة عدد من الزبائن، وكان من حق كل زبون أن يختار الخبز على ذوقه ويختار ما يعجبه (مكسب.. أو لين)، متأكد من نظافة ظهر الرغيف من السواد الذي قد يعلق به. هناك بعض الخبازات يتفقن مع بعض أصحاب المطاعم، أو محلات الكباب أو الباجة على تجهيزهم بكميات من الخبز يومياَ، بالجملة وبالأوقات التي يحتاجونها وبأسعار خاصة يتفقون عليها. أذا أرادوا العراقيين وصف الخبز بالجودة والرقة والبياض قالوا: (عبالك كاهي) أي انه يشبه الكاهي. وللتشبيه قالوا: (عبالك خبز باب الأغا حار ومكسب ورخيص) يضرب هذا المثل للشيء يستوفي جميع مقومات الجودة والمنافسة. وهناك (البوثة) وهي العجينة الساقطة في قعر التنور فتنضج على الرماد (وتحمص) مثل الصمون وتأكل حارة.

أما الخبز بالنذور فتجري أغلبها على السنة النساء في جميع أنحاء العراق، وتكون نذورهن عادة معلقة حتى تحقيق ما تصبو النذيرة الى تحققيه، فلا بد لها من الإيفاء بنذرها والا فأن المنذور له يصاب بالأذى ويعتقدون ربما يؤدي بحياته. وهذه النذور كثيرة منها ما يخص الخبز فقط.
نذر المستعجل عبارة عن توزيع (ثلاث كرص وحنية) ثلاثة أرغفة خبز حنطة مع رغيف صغير على الجيران.

وخبز العباس تختلف العوائل البغدادية في مواد هذا النذر، الذي لا يتعدى رغيفان خبز حنطة مع شيء أخر وهي على ثلاثة أنواع، خبز حنطة وفي داخل كل رغيف قليل من الخضروات (كراث، كرفس، رشاد، نعناع)، وخبز حنطة حار أخرج من التنور تواَ، يوضع في داخل كل رغيف قليل من دهن الحر (الدهن الحيواني) والسكر الناعم أو الدبس، ويوزع على الفقراء والجيران بأسرع وقت ليؤكل حاراَ، لأنه أذا برد ذهبت نكهته ولذته، ومن هنا جاء المثل البغدادي قولهم (خبز العباس حار بحار) يضرب لمن يتطلب السرعة. وخبز العروك ويوزع بمعدل رغيف واحد لكل بيت.
كان سابقا يحفظ الخبز تحت الإنجانة، (جوا الإنجانة) ومن هناك جاء المثل (خبزته جوا الإنجانة)، يضرب للمكتفي ولا يحتاج الى شيء. يوضع الخبز بعد أن يبرد قليلاَ ، فوق سلة من الخوص (الطبك )، وتقلب عليه الإنجانة ومن هنا جاء المثل البغدادي، الذي تقدم ذكره وبعضهم كان يحفظ خبزه في احد القدور الفارغة، وعند شيوع استعمال الثلاجات، أخذت بعض العوائل تلف ما عندها من خبز بقطعة قماش من الأقمشة القديمة، وتضعها في الثلاجة الكهربائية وأخيراَ وضعت أرغفة الخبز في أكياس نايلون ويحفظ في المجمدات، لفترة قد تطول لعدة أسابيع ، ومتى ما أرادوا الخبز المحفوظ بالمجمدات أو الثلاجات وضعوا أرغفة الخبز على بخار القدر،أو على نار هادئة أو في فرن الطباخ لفترة قصيرة ليعود الى حالتها الطبيعية.
لقد ذكر العراقيون الخبز في أيمانهم فقالوا:

وحق الخبز والملح، وحق هذا الطلع من الكاع، ويقصدون به الخبز حيث نبتت الحنطة من الأرض، وحق من أخلقه أي من (خلقه) ويشيرون بهذه الحلفة الى الخبز.
وحق هذا نعمة الله الما تأكله الحرة، أي أن المرأة العفيفة قد تخاطر بعفتها وشرفها في سبيل الحصول على لقمة الخبز لسد الرمق. وحق هذا الما تأكله تنطي عرضها، أما التنور بالأيمان وحق هل التنور الحار وملاكية الخضار، وتنور فاطمة أو وحق هذا تنور فاطمة، أذا شاهد أحدهم قطعة خبز في الطريق فأنه لا يدوسها بقدمه بل يلتقطها من الأرض ويقبلها ويضعها في قرب الجدار وإذا شاهد شقوق في جدار يضعه في الشق، حيث يعتقدون بأن الخبز هو نعمة الله، وحرام وطئه بالأقدام، كما يضعون الخبز أمام العروس عند عقد قرانها وهي
بملابسها البيضاء تضرعاَ إلى الله عز وجل أن يكون مقدمها إلى دار الزوجية مقدم خير وسعادة.
واذا حلف شخص على شيء يريد أن القيام به، ثم تغير رأيه فيه فلا بد أن يكسر رغيفاَ من الخبز على رأس صبي صغير كفارة عن الحنث في الأيمان.
كما يعتقدون أنه لا يجوز للمرأة (الحائض) أو المجنبة أن تعجن العجين أو تخبزه حتى لا تطير بركته. ويعتقد العراقيين التي يسيل عجينها بالتنور بأنه مشتم (ريحة بامية أو ريحة طبيخ) وعليها أن تبتعد عن ذلك عند عجن العجين.
في ليلة الانتقال الى دار جديدة (غير الدار التي كانوا يسكنونها) فأم البيت تبيت في البيت الجديد القرآن الكريم مفتوحاَ على سورة (أنا فتحنا لك فتحاَ مبيناَ) مع مرآة ولبن وخضروات ورغيف خبز وقليل من الماء لاعتقادهم بأنها تجلب لهم الخير والسعادة والرزق الوفير.
وأخيراَ استعملت الخبازات أجهزة خاصة لشجر التنانير، توقد بالنفط أو الغاز تعويضاَ عن الحطب الذي أصبح توفيره صعبا، فقد شمل العمران البساتين التي كانت تزود خبازات بغداد بالسعف والكرب والحطب، ثم انتشرت في مناطق مختلفة من بغداد معامل صنع الخبز وهي أفران تستخدم النفط وقوداَ لها وتتسلم الطحين المخصص لها من مديرية الإعاشة العامة بأسعار متهاودة لتوفير الخبز لأبناء الشعب بأسعار مخفضة أيضاَ ويسميها البغداديون إنتاجها من الخبز ب(خبز معمل).
المصدر: عزيز الحجية ـ بغداديات

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://www.algardenia.com/mochtaratt/57836-2023-03-04-08-53-08.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع