بقلم: إبراهيم فاضل الناصري
متلازمة النبوءة والسياسة:حين تتجسد النصوص القديمة في الصراعات الحديثة
النبوءة ليست خطابًا دينيًا جامدًا يتطلع إلى المستقبل ببساطة تنبؤية، بل هي وعاء ثقافي وفلسفي يتغلغل في جوهر الكينونة الإنسانية، متجاوزة الأديان والعقائد لتصبح آلية معرفية يعمل من خلالها العقل السياسي على استنطاق الغيب، وإعادة تشكيل الواقع عبر سرديات تتفاعل مع زمن الصراعات والسلطة والهوية. إنها خطاب مرن، متلون بألوان كل عصر، يتسلل إلى مراكز القرار ليس كمجرد حكاية عن الغيب، بل كمرآة تعكس الهموم، والمصائر، والخيارات السياسية، محاكمة بين القدر والإرادة.
الزمن السياسي ليس مجرد مرور للأحداث، بل هو تركيب معنوي يُعاد تصنيعه عبر السرديات التي تفسر الواقع وتوجه القرار. النبوءة هنا ليست تنبؤًا بالمستقبل فقط، بل هي فعل تأويلي يعيد صياغة الماضي والحاضر لخلق رؤى قابلة للتحقيق. بهذا المعنى، النبوءة أداة وجودية وفلسفية ترتبط برغبة الإنسان في السيطرة على المجهول، وتحويل القلق إلى فعل سياسي.
كما قال هيراقليطس: "الحرب أصل كل شيء"، وهذا يؤكد أن الصراعات التاريخية تشكل نسيج وجود الأمم، والنبوءة ليست سوى انعكاس رمزي لهذا الصراع الدائم. والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يشير إلى أن الخطابات — ومن ضمنها الخطاب النبوي — هي أدوات للسلطة، تُستخدم لصياغة الواقع السياسي والتحكم في تصورات الناس.
(الغرب والنبوءة: ترسيخ الصراع التاريخي وإعادة إنتاجه في السياق المعاصر):
لا يمكن فهم تعامل الغرب مع النبوءات، خصوصًا تلك التي تتعلق بالصراعات الإقليمية، بمعزل عن الوعي التاريخي العميق الذي يصوغ هويته السياسية والثقافية. فالنبوءة ليست ظاهرة غيبية محضة، بل هي نتاج تاريخي متجذر في صراعات القوى والهويات التي امتدت عبر آلاف السنين.
الصراع بين الغرب وإيران اليوم ليس وليد لحظة عابرة، بل استمرار لصراع قديم تعمق في مواجهات الفرس والعيلاميين مع الإمبراطورية الرومانية. كانت هذه المواجهات، التي استمرت لعقود، صراعًا حضاريًا وسياسيًا، صنع أيديولوجيات وسرديات رمزية تحولت عبر الزمن إلى موروثات تستنطق في النبوءات لاحقًا. هذه الصراعات لم تكن مجرد معارك عسكرية، بل كانت صراعات حضارية ثقافية شكلت هوية الطرفين، وتركت بصماتها في النصوص الدينية والنبوءات.
النبوءة التي تتحدث عن "كسر قوس عيلام" لا تعبر فقط عن انهيار قوة عسكرية مجردة، بل هي رمز لصراع تاريخي عميق بين محاور متنافسة. و"القوس" هنا لا يرمز فقط إلى سلاح أو منظومة دفاعية، بل يمكن تفسيره على أنه إطار تحالفي يعكس قوة سياسية وعسكرية متماسكة. هذا "القوس" ربما يمثل ما يُعرف اليوم بـ"محور المقاومة"، التحالف الإقليمي الذي يضم إيران وحلفاءها، والذي حرص الغرب، بقيادته الأميركية وحلفائه، على تفتيته وتقويضه عبر استراتيجيات متعددة من الحصار والتدخلات العسكرية، والحروب بالوكالة، وحملات التشويه الإعلامي والسياسي.
إن هذه التحولات الاستراتيجية للغرب ليست إلا استمرارًا للسياسة القديمة التي بدأت مع الفرس والعيلاميين، ولكن الأفق المعاصر أضاف بعدًا نبوئيًا وعقائديًا يشكل صراعًا دينيًا وسياسيًا في آنٍ واحد، حيث يتحول كل طرف إلى حامل لسردية نبوئية تستدعي التدخل الإلهي لصياغة النصر. النبوءة هنا ليست كلمات على ورق، بل خطاب مركزي في صناعة القرار، يتماهى مع العقل الاستراتيجي ليصبح مشروعًا سياسيًا متكاملًا.
في القرن الحادي والعشرين، تبرز ملامح هذه النبوءات في السياسات الغربية تجاه الشرق الأوسط، حيث يُنظر إلى إيران ومحور المقاومة من زاوية صراع مقدس، يُبرر بمفاهيم نبوئية وتاريخية تُعيد إنتاج الحرب القديمة بصيغ جديدة: العقوبات، الحروب بالوكالة، التدخلات العسكرية، والتجاذبات السياسية.
(إرميا وعيلام: النبوءة كإطار لفهم الصراع الإيراني):
في سفر إرميا (الإصحاح 49، الآية 35)، يقول الرب:
"ها أنا ذا أُكَسِّرُ قَوْسَ عِيلَامَ، أَوَّلَ قُدْرَتِهِمْ"
عيلام، التي تمثل الإقليم التاريخي الإيراني الشرقي، والقوس الذي يرمز إلى القوة والدفاع، يتحول إلى استعارة ميتافيزيقية للمنظومة العسكرية الإيرانية، وخصوصًا النووية منها. يصبح "كسر القوس" نبوءة سياسية وعسكرية تعبر عن ضرورة استراتيجية وأمنية لدى الغرب لتفكيك قوة محور المقاومة.
(تحليل دلالي: "كسر قوس عيلام" كرمز لمحور المقاومة وتفكيكه):
تشكل إشارة النبوءة إلى "كسر قوس عيلام" مفردة رمزية مركزية تكشف عن عمق الصراع السياسي المعاصر وتاريخه الممتد. القوس، الذي كان في الثقافة القديمة رمز القوة والردع، لا يمكن فهمه فقط كسلاح منفرد أو منظومة دفاعية، بل على نحو أوسع كإطار تحالفي يجمع قوى إقليمية وسياسية وعسكرية متماسكة.
في السياق الراهن، يمكن قراءة "القوس" كرمز لمحور المقاومة الذي يضم إيران وحلفاءها في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، وهو محور يشكل كتلة متكاملة من النفوذ السياسي والعسكري، ويواجه محاولات الغرب بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل لتفكيكه وتفتيته. "كسر القوس" في هذا المعنى هو استعارة للنضال المستمر الذي يخوضه الغرب من أجل تهميش هذا المحور، وتفكيك شبكة تحالفاته، وقطع أذرعه عبر الحصار الاقتصادي، والحروب بالوكالة، والاستهداف السياسي والعسكري المباشر.
هذا التفسير يضفي على النبوءة بُعدًا معاصرًا يربط بين النص القديم والواقع الجيوسياسي الحالي، ويبرز النبوءة كخطاب سياسي يستخدم في صناعة القرار وتبرير السياسات التي تهدف إلى إعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط. إذن، "كسر قوس عيلام" ليس مجرد تدمير عسكري، بل هو محاولة لتفكيك بنية تحالفات سياسية وروحية تقف في وجه الهيمنة الغربية، مما يجعل من النبوءة وثيقة رمزية تعبر عن صراع حضاري عميق ومتصاعد.
(الرياح الأربع: تحالفات التفكيك وسماء المواجهة):
تكمل النبوءة:
"وأجلب على عيلام أربع رياح من أطراف السماء..."
تشير هذه الرياح الأربع إلى تحالفات متعددة الأبعاد، جوية وبرية وبحرية، تحاصر إيران من كل الجهات. فالسماء التي كانت مسرحًا للرؤى النبوئية تحولت إلى فضاء لتقنيات الردع والتدمير؛ من قاذفات B-52، إلى الطائرات المسيّرة، والصواريخ الذكية، حيث تلتقي الأسطورة مع آلة الحرب الحديثة، وتتحول النبوءة إلى خارطة عمليات ضمن الحرب النفسية والسياسية.
(النبوءة الإيرانية المضادة: كإطار روحي وسياسي مقاوم):
لا يخلو المشهد من تعقيد، إذ تتحول إيران إلى بؤرة سردية نبوئية مضادة، تصوغ من المهدوية عقيدة سياسية روحية تشكل محورًا يحرك المواجهة مع الغرب وإسرائيل. تتحول الجغرافيا إلى مسرح صراع نبوئي، حيث تتقاطع نبوءة توراتية تبشر بسقوط عيلام، مع أخرى شيعية تنتظر المهدي المنتظر ليعيد تشكيل التاريخ والسياسة وفق رؤية ميتافيزيقية تدمج الأرض بالروح.
(السياسة كساحة لكتابة النبوءة وصراع السرديات):
إذا كانت النبوءة لا تصنع الحدث بنفسها، فهي على الأقل ترسم خارطة ذهنية لصانع القرار، وتجعل السياسة مرآة للهوية، والتاريخ مصفوفة من نصوص تُقرأ وتُعاد قراءة ضمن فضاءات القدر والاختيار. وحين تتقاطع الطائرات الغربية مع الصواريخ الإيرانية، لا يكون الاشتباك مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل صراع بين سرديات نبوئية تتنازع على تفسير العالم وصياغة مستقبله، حيث يصبح الغيب خارطة سياسية يعيشها ويخطط لها الفاعلون على الأرض.
(النبوءة ليست ماضيًا يُقرأ بل حاضرٌ يُصاغ):
النبوءة في جوهرها استبطان إنساني للقلق من المجهول، ومحاولة لترتيب الفوضى تحت سقف معنى جامع، يشد الإنسان إلى أفق يتجاوز الذات والعنفوان السياسي اللحظي. بين قوس عيلام المكسور ورياح التحالفات العاصفة، تظهر النبوءة كلغة سياسية حيّة تتحدث بها القوى التي تملك الجرأة على الإصغاء، فتُعيد صياغة التاريخ، ولا تكتفي بقراءته فقط، بل تحوله إلى واقع، وأداة لاستدعاء الغيب في خدمة القوة وتأسيس السلطة.
في عالم يموج بالصراعات والأزمات، تبقى النبوءة حاملة لنبض الإنسان الخائف الباحث عن معنى وسط الفوضى، لغة تتحدث بها القوى التي لا تكتفي بقراءة التاريخ، بل تصنعه، لتؤكد أن الغيب ليس مجرد سر، بل أداة لصناعة الواقع وتأسيس السلطة.
813 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع