سيرة عمل سياسي بغداد – عمان (٢٠٠٣ - ٢٠٠٦)

      

سيرة عمل سياسي بغداد – عمان (٢٠٠٣ - ٢٠٠٦)

   

           بقلم : عطا عبد الوهاب

             قدم له نجله : لهب عطا بعد الوهاب

ليس هذا بالبحث التاريخي التحليلي للإحداث التي عاصرها الوالد، وإنما هو سرد لعمله للفترة من سنة 2003 إلى سنة 2006 ، ومن هنا كلمة ((سيرة)) في العنوان.

استهلال

كانت الظروف الدولية السائدة والمتعلقة بالوضع العراقي ، لا سيما في عام 2002 ، تشير كلها إلى أن تغييراً ما سيجري في نظام الحكم البعثي الذي ساد عقوداً طويلة من الزمن. لقد صحب ذلك مناشدة صدرت من جهات عربية مسؤولة ومرموقة بأن يتخلى رئيس ذلك الحكم ، صدام حسين ، عن المسؤولية لتجنب ما سيسببه إصراره على البقاء من نتائج وخيمة تصيب شعب العراق من جهة وتصيب منطقة الشرق الأوسط بأسرها من جهة أخرى. كان معظم الناس في بلاد الرافدين مجمعين على أن حكم البعث كان سيئاً وظالماً وفاسداً ومضراً بالبلاد وبغيرها ، ومجمعين كذلك على تمني زواله لفتح صفحة جديدة لهم في المستقبل. وقد جرت محاولات عراقية متعددة للإطاحة بذلك النظام سواءً بإزالة رأس النظام بشكل من الأشكال، أو بالانتفاضات الشعبية التي انفجرت ، وخاصة في عام 1991 بعد إخراج الجيش العراقي من الكويت ، وكانت تلك المحاولات تقمع قمعاً بربرياً . إن ذلك قد أورث جمهور العراقيين يأساً مطبقاً من إمكانية التغيير المنشود على أيديهم هم ، وأخذوا يعتبرون مثل ذلك التغيير من قبيل أحلام اليقظة . لذلك صاروا ينتظرون حلاً لمحنتهم المستعصية من القدر ! ثم حدث التغيير ، ولكن على أيدي قوات أجنبية مع الأسف الشديد .

كنت في تلك الأثناء أراقب ما يجري من بعيد وأنا في مسكني في عمان ولا أملك سوى متابعة تطور الأحداث والتطلع إلى ما سيجري محاصراً بوضع نفساني أليم.

                                القسم الأول
                                  في بغداد
                                    -1-

لعل الكثيرين من المهتمين بالشأن العراقي يتذكرون أن المعارضة العراقية في الخارج كانت قد عقدت عدداً من المؤتمرات في عواصم عديدة من العالم ، وفي كردستان العراق أيضاً، وذلك في السنوات الأخيرة من العهد البعثي. كان آخر المؤتمرات التي عقدتها الأحزاب العراقية المعارضة ، ومنها حزب المؤتمر الوطني وحركة الوفاق والأحزاب الكردية، هو المؤتمر الذي عقد في لندن في كانون الأول 2002.

كنت أنا وأسرتي نقيم في بغداد بعد إطلاق سراحي من السجن عام 1982 بعد قضاء ثلاث عشرة سنة في الزنازين منها خمس سنوات ونصف في زنزانة الإعدام الانفرادية بتهمة زائفة. كان السفر إلى الخارج ممنوعاً ، وحين سمح به في عام 1993 انتقلت مع أهلي للإقامة في عمان.
لم يكن يدور بخلدي أن أشارك في تلك المؤتمرات لأسباب لها ما يبررها بنظري ، منها أنني عانيت طويلاً بعد الحكم الجائر الذي صدر بحقي ظلماً ، وأن من السذاجة أن أدع الأيادي الآثمة تمتد إلي مرة أخرى ، وإن كنت في خارج البلاد ، فقد كانت تسرح وتمرح في أرجاء العالم. ومنها كذلك أنني كنت أحمل رأياً سلبياً عن بعض المشاركين في تلك المؤتمرات. لقد جرى فعلاً الاتصال بي للمشاركة في بعض تلك المؤتمرات ، فكنت أعتذر دائماً بقولي للمتصلين بي : اعتبروني جندياً مجهولاً بوسعه أن يقوم بما يمليه عليه الواجب الوطني من دون إعلان. كان من أبرز الذين يتصلون بي آنئذ هو الأخ الدكتور عدنان الباجة جي ، وقد دعاني للمشاركة في مؤتمر عقده في لندن في آذار 2003 ، والذي جرى فيه تأسيس (تجمع الديموقراطيين المستقلين) برئاسته وأصبح الدكتور مهدي الحافظ نائباً لرئيس التجمع ، ولكنني اعتذرت عن الحضور.

إن الدكتور عدنان الباجة جي هو من زملائي القدامى ، فقد عملنا معاً في خمسينيات القرن الماضي في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي لجانها المختلفة في نيويورك . ثم تفرقت بنا السبل . وحدث بعد ذلك أنني قمت بزيارة إلى لندن في أيلول 2000 ، فتجددت علاقتي مع الأخ عدنان هناك وعلمت منه أنه قد نشر كتاباً بالإنجليزية عنوانه :

Iraq’s Voice
At The United Nations
1959-1969
A Personal Record

وكان هذا الكتاب قد نشر عام 1991 ، فأهداني الأخ عدنان نسخة منه ، وبعد أن قرأته وجدته كتاباً تجدر ترجمته إلى اللغة العربية . اقترحت عليه أن أقوم شخصياً بترجمته ، وهكذا كان. وقد صدر في عام 2002 بعنوان : صوت العراق في الأمم المتحدة 1959-1969 سجل شخصي.

-2-

ما أن سقط نظام البعث في العراق في نيسان 2003 حتى بادر الأخ عدنان إلى مكالمتي هاتفياً من أبو ظبي قائلاً : لا يوجد بعد اليوم جندي مجهول ! سأذهب إلى بغداد بعد أيام وأود أن اصطحبك معي إلى هناك لكي نعمل في الوطن مرة أخرى في هذا الظرف العصيب. استمهلته يوماً واحداً للتفكير في الأمر وللتشاور مع زوجتي التي لم تتردد في تشجيعي على الموافقة . كنت ظهر ذلك اليوم مدعواً للغداء في مطعم Champion في فندق الماريوت بعمان مع ولدي البكر لهب وشقيق زوجتي معتصم النائب ، وذلك لمشاهدة مباراة دولية حاسمة في كرة القدم التي ينقلها مباشرة ذلك المطعم ويتابعها لهب باستمرار. ما أن جلست إليهما حتى رويت لهما عن المحادثة التلفونية مع عدنان الباجة جي قائلاً إنني استمهلته يوماً واحداً فماذا تقولان ؟ وعلى الفور قالا معاً باللهجة العراقية : روح .. روح .. ! (أي إذهب إذهب).

في اليوم التالي هاتفت الأخ عدنان وأخبرته بموافقتي . قال إنه سينتظرني في أبو ظبي لكي نغادر بطائرة خاصة إلى بغداد. وهكذا ففي السادس من أيار 2003 غادرنا أبو ظبي معاً عائدين إلى بلادنا ، وكان معنا في الطائرة كذلك الدكتور مهدي الحافظ . كان الدكتور الباجة جي قد شكل تنظيماً سياسياً باسم (( تجمع الديموقراطيين المستقلين)) كما ذكرت آنفاً ، وكنا أنا والأخ مهدي أعضاء فيه. ما أن وصلنا بغداد حتى اتجهنا إلى دار كبيرة في المنصور استؤجرت لتكون مقراً للتجمع الجديد. توزعنا على الغرف. وأذكر أنني والأخ مهدي أشغلنا غرفة نوم واحدة مدة غير قصيرة ، إلى أن انتقلنا أنا وأبو خيام (د. مهدي الحافظ) كل إلى بيته . كانت تلك الإقامة المشتركة مع الأخ مهدي بداية لعلاقة شخصية حميمة تتسم بانسجام ذهني كبير.

             

من المين إلى اليسار د. مهدي الحافظ ، المؤلف ، د. عدنان الباجة جي

كان مقر (التجمع) في حي المنصور ببغداد خلية نحل تعج بالاجتماعات مع الزوار المنتمين إلى اتجاهات شتى ، إبان النهار والليل ، كما كانت المحادثات بين أعضاء التجمع تجري باستمرار ، حتى على مائدة الطعام.

وفي الأسابيع الأولى من حياة التجمع جرى فتح فروع له في بغداد ذاتها وفي المحافظات الأخرى . كما تقرر إصدار جريدة يومية باسم جريدة (النهضة) تيمناً بجريدة النهضة التي كان قد أصدرها والده المرحوم مزاحم الباجة جي في شهر أيلول 1913 ، وأسندت رئاسة تحريرها إلى الأستاذ جلال الماشطة ، فكلفت بالإشراف عليها من جميع الوجوه ابتداءاً من العثور على مكان مناسب لها وإجراء المقابلات مع المتقدمين بطلب الالتحاق بالعمل في الجريدة وإيجاد المطبعة الملائمة لتتولى طبع الجريدة يومياً والعثور على موزع لها في العاصمة وخارجها ، ثم بالإشراف على تحرير الجريدة.
وقد حرصت على إقامة علاقة تعاون وثيق مع رئيس التحرير فكان الرجل نفسه يثني على تلك العلاقة المتميزة في مناسبات علنية مختلفة.

-3-

كانت المعارضة العراقية تطالب ، قبل تغيير النظام ، بضرورة تشكيل حكومة مؤقتة في بغداد تتولى شؤون البلاد ، وكانت تبلغ ذلك إلى المنسق الأمريكي مع المعارضة آنئذ وهو السفير زلماي خليل زاد. ولكن هذا الطلب لم يتحقق ، بل استعيض عنه في أواسط 2003 ، وذلك بعد صدور قرار مجلس الأمن المرقم 1483 بتاريخ 22 أيار 2003 الذي شرعن احتلال العراق ، بتشكيل هيئة سميت بـ(مجلس الحكم) لكي يتولى شيئاً من إدارة البلاد بالتنسيق مع سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة السفير بول بريمر . وقد رحب مجلس الأمن الدولي بتشكيل مجلس الحكم وذلك بقراره المرقم 1500 . كان المجلس يتألف من خمسة وعشرين عضواً (*) موزعين على أساس طائفي وإثني : ثلاثة عشر عضواً شيعياً ، وخمسة أعضاء من السنة وخمسة أعضاء من الأكراد وعضو من التركمان وعضو من الكلدو آشوريين . كان من ضمن الأعضاء السنة الدكتور عدنان الباجة جي . كنت أرافقه دائماً في اجتماعات المجلس مع الدكتور مهدي الحافظ وآخرين . كان د. مهدي يشغل مقعد عضو المجلس بصفته نائباً لرئيس تجمع الديموقراطيين المستقلين ، د. الباجة جي ، عند غياب هذا العضو عن الجلسات . ثم أسند للأخ مهدي منصب وزاري فأشغل وزارة التخطيط ، لذلك لم يعد يحضر جلسات مجلس الحكم إلا قليلاً . وفي إحدى الاجتماعات طلب من أعضاء المجلس أن يرشح كل عضو منهم نائباً له وهو مركز جديد . رشحني الأخ عدنان على الفور نائباً له وصادق المجلس على ذلك . كان نائب العضو يعرف بصفة العضو المناوب ويتمتع بكافة صلاحيات العضو بما في ذلك التصويت على القرارات . وهكذا كان في مجموعتنا نائبان هما مهدي الحافظ ، نائب رئيس (تجمع الديموقراطيين المستقلين) ، وأنا نائباً للعضو في مجلس الحكم ، ولم يكن في ذلك أي تضارب في المهمات التي يقوم بها كل منا.

وقد انتدبت الأمم المتحدة ممثلاً خاصاً لها في العراق هو الدبلوماسي الجزائري المعروف الأخضر الإبراهيمي ، وكان من مهامه النظر في إمكانية إجراء انتخابات نيابية عامة في موعد مبكر ، وفي أمر اختيار رئيس للوزراء للحكومة المؤقتة ، وكذلك اختيار رئيس للجمهورية . قام الأخضر الإبراهيمي باتصالات واسعة مع التيارات السياسية المختلفة بشأن هذه الأمور كلها. وفيما يتعلق باختيار رئيس للجمهورية فقد كان هناك مرشحان إثنان بارزان هما الدكتور الباجة جي والشيخ غازي الياور . وقد استقر رأي المندوب الأممي في الأخير على ترشيح الباجة جي لهذه الرئاسة . وفي اليوم الأخير من أيار 2004 قابل الإبراهيمي الدكتور الباجة جي وعرض عليه رئاسة الجمهورية فرفضها في الحال وعقد مؤتمراً صحفياً بين فيه السبب الذي دعاه إلى الرفض قائلاً إن خصومه أخذوا يشيعون عنه أنه مرشح الأمريكيين وأنه صنيعتهم وهو ما يخالف الحقيقة فأراد برفضه المنصب أن يدحض ذلك. وعلى أثر ذلك غادر بغداد إلى مقر إقامته في الإمارات العربية المتحدة . إن تفاصيل هذا الموضوع يوردها بريمر في كتابه My Year In Iraq الصادر عام 2006.

بعد أيام وجدت من المناسب أن أذهب إلى الإمارات للقاء الصديق عدنان الذي لا شك كان في وضع نفساني لا يحسد عليه. ما أن تقابلنا حتى قال لي : إنني أمر الآن بمزاج هاملت في مسرحية شكسبير المشهورة ، وأخذ يقرأ عن ظهر قلب مقاطع من قصيدة :
To be or not to be , that’s the question.
وبعد فترة من التأمل أضاف يقول : أظن أنني حين أموت ستكتب جريدة التايمز اللندنية رثاء لي في عمودها المعروف Obituary وتعنونه :
The Man Who Declined The Presidency of Iraq
كان هذا هو المناخ الذي يحيط بالأخ عدنان فلم أناقشه بشيء.
(وبعد مرور أشهر ، وكنا في بغداد ، قلت للأخ عدنان إنه كان قد تسرع في رفض الرئاسة ، ولو أنه قبلها لتغيرت أمور كثيرة . بدت على وجهه ملامح الموافقة على قولي. لا بل علمت فيما بعد أنه قال صراحة لبعض الجهات بأنه قد أخطأ في ذلك الوقت برفض رئاسة الجمهورية).

بعد أن افترقنا ، إثر اللقاء في أبو ظبي ، قلت في نفسي : أما أنا فحين أموت فلا أظن أن التايمز سترثيني في عمودها ، ولكنها إن فعلت فقد تجعل العنوان :
The Man Who Made Bremer Cry.

وللقارئ أن يسألني : كيف ؟ وجوابي أن بريمر تطرق في كتابه المشار إليه آنفاً ، وبمناسبة المناقشات التي دارت في مجلس الحكم ، إلى مسألة التعذيب التي جرت في سجن أبو غريب ، فكتب يقول : طلب عدنان الباجة جي من نائبه عطا عبد الوهاب أن يدلي برأيه أمام مجلس الحكم ، وتخلى عن مقعده له فأشغله عطا ، وهو دبلوماسي سني ، كبير السن وصغير الحجم ، وكان قد عانى ما عانى من أهواء صدام في سبعينيات القرن الماضي . ساد القاعة صمت تام وهو يقص حكايته قائلاً :

((كان رجال المخابرات العراقية قد اختطفوه من الكويت وأتوا به إلى بغداد مخدراً في سيارة السفير العراقي. كان يعذب يومياً مدة ثمانية أشهر بأنواع شتى من التعذيب كالضرب والصدمة الكهربائية وغير ذلك. وقد قضى ثلاث عشرة سنة في السجن ، منها خمس سنوات ونصف في زنزانة انفرادية لا يرى فيها قط ضوء الشمس . وقال عطا : (إن علينا أن نتحدث عما جرى في سجن أبو غريب خلال الخمس والثلاثين سنة الماضية ، ويجب على العالم أن يعرف ذلك).

ما أن روى حكايته بهدوء حتى رأيت عدداً من أعضاء مجلس الحكم وهم يمسحون الدموع عن عيونهم. لقد كانت لحظة قوية التأثير جداً. (انتهى الاقتباس)

جاءت هذه الفقرة المقتضبة في آخر ما كتبه بريمر عن موضوع سجن أبو غريب في كتابه آنف الذكر (ص 350-351) وعن التعذيب الذي جرى فيه من قبل الجنود الأمريكيين في حادث شهير. يقول بريمر إنه حضر اجتماع مجلس الحكم يوم 12/5/2004 وقدم اعتذاراً صريحاً للعراقيين عما جرى ، مضيفاً أن الجنرال سانجيز قال في الجلسة نفسها إن محاكمة الجنود الذين قاموا بتلك الفعلة ستجري في الأسبوع القادم أمام محكمة عسكرية في بغداد. وقال بريمر أيضاً إن أعضاء مجلس الحكم عبروا عن أسفهم عما جرى من سوء تصرف ، دون أن يذكر أشياء أخرى قيلت في الجلسة نفسها ، لذلك سأكمل الرواية بنفسي فأقول عن مداخلتي ما يلي :
(إن بعض أعضاء مجلس الحكم أخذوا في تلك الجلسة يطالبون بهدم سجن أبو غريب بسبب حادث التعذيب الذي جرى فيه . وعند حدوث تلك المطالبة طلب مني الدكتور عدنان الباجة جي الكلام وترك كرسيه لي.
فوجئت بمبادرة الأخ عدنان بأن أتكلم في الجلسة ، ولم أكن متهيئاً لذلك .
جلست وأنا انتظر دوري في تسلسل المتكلمين محاولاً أن أرتب أفكاري . وحين دعيت للكلام قلت :
سأحاول أن يتضمن كلامي ناحيتين من الموضوع ، ناحيته العامة وناحيته الخاصة التي تتعلق بشخصي . أما الناحية العامة فيجب القول إن التعذيب المشين الذي جرى على يد الجنود الأمريكيين مؤخراً في سجن أبو غريب هو عمل مستهجن ومدان وينبغي معاقبة الذين قاموا به بالعقاب الذي يستحقونه . ولكن هذه الواقعة لا تبرر المطالبة بهدم السجن ، فهو بناء ضخم وضروري لكل مدينة لحجز المجرمين ، لا سيما وأن التعذيب الذي كان يجري في عهد صدام إنما كان يجري بشكل أساس في (قصر النهاية) . فإذا أريد التعبير عن الغضب بشأن حادثة التعذيب الأخيرة فيجدر أن يقتصر الأمر على ذلك الحيز فقط من السجن إما بهدمه أو ، وهو الأفضل ، بتحويله إلى ما يشبه المتحف .

وأما الناحية الخاصة بي ، لا سيما وقد جئت على ذكر قصر النهاية أمامكم ، فتتعلق بما أصابني شخصياً بتهمة زائفة ابتداءً من الاختطاف من فندق هلتون في الكويت ، وجلبي مخدراً بسيارة السفير العراقي هناك إلى قصر النهاية في بغداد حيث خضعت لتعذيب متواصل ، مادي ونفسي ، لمدة ثمانية أشهر ، ثم حوكمت محاكمة صورية حكم عليّ فيها بالإعدام فأمضيت خمس سنوات ونصف في زنزانة انفرادية ، ثم جرى تغيير الحكم إلى السجن المؤبد ، ولم يفرج عني إلا بعد أن قضيت في الزنزانات ثلاث عشرة سنة . إن كل هذا مدون في كتاب لي لم يكن قابلاً للنشر سابقاً ، وهو قيد النشر الآن وسيصدر قريباً.

هنا قال بريمر بصوت مرتفع من مكانه وهو يتصدر الجلسة : أريد نسخة منه !
ولاحظت أنه كان منفعلاً عاطفياً كما لو كان يبكي ، وعلى الفور قام بعض أعضاء المجلس من مقاعدهم وتقدموا نحوي وعانقوني والدموع في عيونهم.

ثم أنهيت حديثي قائلاً إن التعذيب في عهد صدام كان مؤسسياً من جهة وخفياً من جهة أخرى ، أما الآن فهو عرضي وعلني ويعاقب عليه.

(لقد صدر كتابي ، الذي نوهت عنه ، في أواخر عام 2004 بعنوان "سلالة الطين / سيرة مأساة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت . فقمت بإرسال نسخة منه إلى بول بريمر وتلقيت منه رسالة شكر شخصية قال فيها : " لا أستطيع أن أعبر لك عن مدى تأثري البالغ إذ تذكرت اهتمامي بتجاربكم في عراق صدام ... إن أسفي الوحيد هو أن لغتي العربية لا ترقى إلى حد قراءته ... إلخ). أنظر نص رسالة بريمر المرفقة

     

في تلك الأثناء كانت تتعالى بعض الأصوات بالمطالبة بإجراء انتخابات نيابية عاجلة ، في حين كان هناك رأي في مجلس الحكم يقضي بضرورة التريث لعدم ملاءمة الظروف السائدة ولعدم استكمال جداول الناخبين. ثم تطور الأمر إلى المطالبة في المجلس بالاستعانة بالأمم المتحدة لكي ترسل مندوباً عنها إلى العراق لكي ينظر في مسألة إمكان إجراء تلك الانتخابات في ذلك الظرف الراهن أو عدم إمكان ذلك . وقد جرى الاتصال بالأمم المتحدة فأوفدت مندوبها الأخضر الإبراهيمي الذي درس المسألة من جوانبها المختلفة وأبدى رأياً جرى الأخذ به ويقضي بعدم ملاءمة الظروف السائدة آنئذ لإجراء الانتخابات المطلوبة.

وقد ارتؤي استمزاج رأي المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني الذي كان البعض ينقل عنه أنه يرى إجراء الانتخابات في الحال. وقد تقرر إيفاد الرئيس الدوري للمجلس لذلك الشهر ، وهو الدكتور عدنان الباجة جي لمقابلة المرجع الأعلى والوقوف على رأيه ، فسافر إلى النجف وبصحبته الدكتور مهدي الحافظ وكاتب هذه السطور . جرى ذلك اللقاء في منزل السيد السيستاني البسيط جداً ، وكنا نفترش الأرض بانتظاره فدخل وافترش الأرض هو أيضاً.

تكلم سماحته باطلاع تام عما يجري في العراق ، ثم تكلم رئيس الوفد مبيناً أن البعض من المشاركين في العملية السياسية يطالبون بإجراء انتخابات نيابية عامة سريعاً ، في حين يرى البعض الآخر أن الظروف السائدة غير ملائمة لذلك وشرح تلك الظروف ثم قال إننا جئنا لكي نسترشد برأي سماحته في هذا الصدد . عندئذ طلبت أنا الكلام ، وقلت بعد المقدمة اللازمة لشكر سماحته على الترحيب بنا إن هناك قاعدة فقهية لا شك أن المرجع الأعلى مطلع عليها وهي تقول : (ما لا يدرك كله لا يترك جله) ، فإذا به يعتدل في مجلسه ويقول : " أحسنت ! " ثم خاطب الباجة جي قائلاً : هذا يعني خذوا بالميسور . وكرر يقول : خذوا بالميسور ، وبعد أن انتهى اللقاء غادرنا ونحن نقول في ما بيننا أن الميسور يعني عدم ملاءمة الظروف الآن لإجراء الانتخابات ، وجرى إبلاغ مجلس الحكم بذلك.

-4-

في أواسط كانون الثاني 2004 قرر مجلس الحكم تأليف وفد إلى الأمم المتحدة في نيويورك برئاسة الدكتور عدنان الباجة جي (وكان رئيساً للمجلس المذكور في ذلك الشهر) وعضوية عدد من أعضاء المجلس وهم عبد العزيز الحكيم وأحمد الجلبي ومحسن عبد الحميد ، وعدد آخر من الأعضاء المناوبين ومنهم عادل عبد المهدي وأنا. وضم الوفد كذلك وزير الخارجية هوشيار زيباري ووزير التخطيط والتعاون الإنمائي مهدي الحافظ . كانت مهمة الوفد هي البحث في الدور الذي ينبغي أن تقوم به الأمم المتحدة في العراق في المستقبل لا سيما بعد مقتل ممثلها فيه سرجيو دي ميللو.

غادر الوفد إلى أبو ظبي يوم 16 من الشهر المذكور ، حيث وضعت دولة الإمارات العربية المتحدة طائرة رئاسية خاصة بتصرف الوفد ذهاباً وإياباً. ومن هناك غادر الوفد إلى نيويورك ، مروراً بلندن ، فوصلها يوم 18 منه . وقد بدأت الاجتماعات الرسمية صباح اليوم التالي ، وكان أولها هو الاجتماع الذي عقد مع السفير بريمر والوفد المرافق له لغرض تنسيق المواقف بين الطرفين بشأن الأمور المطلوب من الأمم المتحدة المساعدة فيها والخاصة بتنفيذ اتفاق 15/11/2003 وصولاً إلى تسليم العراق السيادة والسلطة في بداية تموز 2004 ، وكذلك بشأن الطلب من أمين عام الأمم المتحدة ، كوفي عنان ، إرسال بعثة إلى العراق للنظر في إمكانية إجراء انتخابات مباشرة في الفترة المذكورة ، والطلب منه كذلك تعيين ممثل خاص له في العراق سريعاً خلفاً للمرحوم دي ميللو .

بعد ذلك الاجتماع مباشرة عقد اجتماع خاص مع السيد كوفي عنان وبطلب منه ، فرحب بنا بحرارة ، وقد أوجز رئيس الوفد للأمين العام طلبات العراق من الأمم المتحدة والمشار إليها أعلاه.

وقد أعقب ذلك اجتماع موسع ترأسه السيد عنان نفسه ومعه مساعدوه ، وحضر الوفد العراقي بكامل أعضائه ، كما حضره وفد سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة السفير بريمر والسفير غرينستوك وغيرهما كالسفير نيغروبونتي الذي كان المندوب الأمريكي الدائم لدى الأمم المتحدة في ذلك الوقت.

كان ذلك الاجتماع صريحاً ومفيداً وعرضت فيه وجهات نظر الطرفين ، وفي ختامه قال الأمين العام إنه سيسعى جاهداً لتحقيق المطالب العراقية ، ثم عقد مؤتمراً صحفياً موسعاً شرح فيه ما جرى.

وفي عصر اليوم ذاته عقد مجلس الأمن جلسة خاصة مغلقة عن العراق دعي إليها الوفد العراقي . طلب رئيس الجلسة ، وهو مندوب تشيلي لذلك الشهر ، من رئيس الوفد العراقي الجلوس إلى الطاولة . لاحظ الدكتور عدنان أن اللوحة أمامه عليها جملة " مجلس الحكم " وليس اسم "العراق" فرفض الجلوس ، وفي الحال رفعت اللوحة الأولى ووضع مكانها لوحة باسم العراق . افتتحت الجلسة بإلقاء رئيس الوفد العراقي كلمة مسهبة شرح فيها تفاصيل العملية السياسية الجارية في العراق وكرر ما كان قد قاله في الاجتماعات مع الأمين العام. وقد تكلم في تلك الجلسة الأعضاء الخمسة عشر في مجلس الأمن جميعاً مرحبين بالوفد العراقي .
وتكلم مندوب الجزائر فيه باسم المجموعة العربية فأبدى دعماً لمجلس الحكم . حضر جانباً من تلك الجلسة كوفي عنان شخصياً.

في اليوم التالي غادر رئيس الوفد مع عدد من أعضائه إلى واشنطن لمقابلة الرئيس بوش في البيت الأبيض ، وقد تخلفت أنا في نيويورك إذ رغب العضو الدكتور محسن عبد الحميد وهو رئيس الحزب الإسلامي آنذاك ، البقاء في المدينة ورجاني مرافقته للاطلاع عن كثب على دوائر الأمم المتحدة بعد أن علم أنني كنت قد عملت فيها نحو خمس سنوات في خمسينيات القرن الماضي ، فلبيت طلبه.

وقد شاءت الصدف أثناء عملي في المقر الدائم للأمم المتحدة في نيويورك أن قام جلالة الملك فيصل الثاني بمعية خاله ولي العهد الأمير عبد الإله بزيارة رسمية للولايات المتحدة ، وقد رافقت جلالة الملك في إحدى هذه الزيارات كما هو موضح في الصورة المرفقة.
بعد ذلك عاد الوفد بالطائرة الإماراتية إلى أبو ظبي ومنها إلى بغداد.

             

 -5-

في ربيع عام 2004 قرر مجلس الحكم تشكيل لجنة من أعضائه برئاسة الدكتور عدنان الباجة جي لإعداد مسودة دستور سمي "بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية" ، على أن تعرض المسودة على المجلس لدراستها ومن ثم لإقرارها.

كلفني الأخ عدنان بصفته رئيساً لتلك اللجنة بأن أعد مسودة أولية للقانون المطلوب . عكفت على هذه المهمة أياماً بلياليها ، بعد أن قمت بدراسة دساتير مختلفة ، منها الدستور العراقي الملكي الذي سن في عام 1925 ، والدستور العراقي الجمهوري الذي كتب مسودته المرحوم حسين جميل وصدر في أوائل عهد عبد الكريم قاسم ، وغيرهما من الدساتير العراقية والعربية. وقد وضعت مسودة كلاسيكية تتضمن المبادئ الأساسية للحكم في نظام اتحادي ، ديموقراطي ، تعددي وتنص على تمتع الشعب العراقي بأفراده كافة بالحقوق الأساسية للإنسان ، وبالمساواة التامة بين الناس بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الأصل ، كما تنص على الفصل بين السلطات الثلاث ، وعلى ضمان الحريات العامة والخاصة بأشكالها كافة كحرية التعبير والنشر والاحتجاج والتنظيم وغيرها ، وضمان الحقوق المختلفة مثل حق التظاهر والإضراب السلمي ، فضلاً عن ضمان حرية الفكر والضمير والعقيدة الدينية بلا إكراه ، مع النص على حق الفرد بالتعليم والعناية الصحية والضمان الاجتماعي وتوفير الأمن وفرص العمل للجميع.

ونصت تلك المسودة على صلاحيات الحكومة المركزية حصراً في ميدان الشؤون الخارجية والدفاع والمالية ، كما نصت على أن الثروة الطبيعية للبلاد تعود لأبناء الشعب كافة ، وتوزع عائداتها بشكل عادل حسب الحاجة ودرجة التطور ، ونصت كذلك على أن الإسلام دين الدولة الرسمي ويعتبر مصدراً للتشريع ، على ألا تسن قوانين تخالف ثوابت الإسلام المجمع عليها ولا تخالف المبادئ الديموقراطية ، مع النص أيضاً على أن يكتب قانون الانتخابات الجديد بشكل يضمن للمرأة ما لا يقل عن نسبة 25 بالمائة من مجموع أعضاء الجمعية الوطنية التي ستنتخب بموجبه . وقد راعت المسودة صيغة تهدف إلى تعميم اللامركزية الإدارية في أرجاء البلاد .

قدمت المسودة لرئيس اللجنة ، وكان على وشك السفر إلى الإمارات المتحدة ، فتفرغ لدراستها ، وهاتفني قبيل سفره بأنه يهنئني على المسودة بأكملها ، وطلب مني أن أقدمها إلى اللجنة وأن أحضر جلساتها نيابة عنه وأشارك في مناقشاتها إلى حين عودته إلى بغداد .

عرضت تلك المسودة على اللجنة ، وكانت أولى مشاريع المسودات المقدمة ، وأخذت اللجنة تتدارسها وتتناقش معي بشأنها ، وظلت هي المسودة الوحيدة المعروضة على مدى أسبوعين . بعد ذلك قدم الجانب الكردي مسودة أخرى للقانون المطلوب ، فصار أمام اللجنة مسودتان . في هذه الأثناء عاد الدكتور الباجة جي من الخارج فأخذ يترأس اجتماعات اللجنة وأنا إلى جانبه ، ودارت مداولات مكثفة للتوفيق بين المشروعين وتوحيدهما في مسودة واحدة رفعت إلى مجلس الحكم للنظر فيها . وقد درسها المجلس دراسة مستفيضة خلال شهر شباط 2004 في جلسات متواصلة ، إذ كان الموعد النهائي للمصادقة على قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية هو 29 شباط 2004 كما نص عليه اتفاق 15 تشرين الثاني 2003 المعقود بين سلطة الائتلاف المؤقتة ومجلس الحكم . ومما يذكر أن ذلك الاتفاق قد جرى التوقيع عليه في منزل الأستاذ جلال الطالباني ، رئيس الحزب الوطني الكردستاني ، وكان رئيساً للمجلس في شهر تشرين الثاني 2003 ، وذلك من قبله ومن قبل السفير بول بريمر والسفير ديفيد ريتشموند. ومما جاء فيه أنه عند تشكيل المجلس الوطني الانتقالي تنتهي ولاية مجلس الحكم ، وعند تأليف الحكومة الانتقالية تحل سلطة الائتلاف الموقتة .

هذا وقد حدث أحياناً تعليق الجلسات لساعات وذلك بطلب من بعض الأعضاء الذين كانوا يؤلفون ما سمي بـ (البيت الشيعي) (والذي تشكل آنئذ بمبادرة من العضو الدكتور أحمد الجلبي ، ولكن ذلك البيت سرعان ما اختفى) .
كان من أسباب التأجيل أحياناً رغبة الأعضاء الشيعة في الخلوة في ما بينهم للتداول بشأن ما ورد في مسودة القانون عن مصادر التشريع ، إذ كان بعضهم يريد النص على اعتبار الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الوحيد لا أن تكون مصدراً من مصادره المتعددة كما جاء في مسودة القانون . وكان من أسباب التأجيل الأخرى رغبة أولئك الأعضاء الشيعة بمقابلة المرجع الأعلى السيد السيستاني لاستمزاج رأيه عن هذا الموضوع .

كان رئيس الجلسة الختامية هو الدكتور محسن عبد الحميد بحكم كونه رئيساً لمجلس الحكم في شهر شباط . وما أن انتصف الليل حتى أصيب الرجل بإرهاق شديد فطلب من الباجة جي أن يترأس الجلسة نيابة عنه . وفي اللحظة الأخيرة من تلك الجلسة ، وكان جميع الأعضاء في حالة إعياء ، وهم ينتظرون الانتهاء من إقرار مشروع القانون المعروض عليهم قبل بزوغ الشمس ، تقدم عضو المجلس السيد مسعود البارزاني ، رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني باقتراح مكتوب يقضي بإضافة جملة معينة إلى الفقرة (ج) من المادة (61) من القانون.
إن هذه الفقرة كانت تنص على ما يلي : ((يكون الاستفتاء العام ناجحاً (وهو الخاص بموافقة الشعب العراقي على الدستور الدائم) . وتكون مسودة الدستور مصادقاً عليها ، عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق)) . أما الجملة المقترح إضافتها فهي : ((وإذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر)) . وقد أقر ذلك الاقتراح من دون مناقشة فأضيفت الجملة المطلوبة إلى آخر الفقرة (ج) من المادة 61 ، فأضحت كما يلي : "يكون الاستفتاء العام ناجحاً ، ومسودة الدستور مصادقاً عليها ، عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق ، وإذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر" . ومن الواضح أن هذه الإضافة ترمي إلى إعطاء ثلثي الناخبين في محافظات أربيل والسليمانية ودهوك بالذات الحق برفض مسودة الدستور الدائم . وبعبارة أخرى إعطاءهم نوعاً من الفيتو لرفض الدستور .

على أية حال ، أقر مشروع القانون بالإجماع من دون الحاجة إلى تصويت ، وكان ذلك في ساعات الصباح الأولى من 1 آذار 2004 .

هذا وأن المادة الرابعة من هذا القانون تنص على ما يلي : ((إن نظام الحكم في العراق جمهوري ... إلخ)) . وأود أن أشير بهذا الصدد أن كلمة "جمهوري" عن نظام الحكم في العراق قد أضيفت ، أثناء مناقشة قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية في مجلس الحكم ، بناءً على اقتراح من العضو نصير الجادرجي. لم تجر مناقشة طويلة حول هذا الأمر وإن كان بعض أعضاء المجلس قد قالوا إن النظام الجمهوري في العراق هو تحصيل حاصل وأنه واقع مفروغ منه ولا داعي للنص عليه. مع ذلك تقرر الموافقة على إضافة كلمة "جمهوري" إلى صدر المادة الرابعة المشار إليها فصارت تقرأ : ((إن نظام الحكم في العراق جمهوري ... إلخ)).
ويبدو أن الغرض من تقديم ذلك الاقتراح هو الرغبة بحسم موضوع نوع النظام للحكم في العراق وذلك لوجود شيء من العاطفة لدى البعض في الحنين إلى النظام الملكي واعتباره النظام الأفضل للحكم في بلد مثل العراق في ظروفه الراهنة. إن التغيير الذي جرى في نظام الحكم السابق قد حفز بعض أفراد الأسرة الهاشمية في الأردن وفي لندن للعمل على التهيئة لنظام ملكي جديد في العراق. كان من هؤلاء سمو الأمير الحسن بن طلال الذي اقتصر نشاطه على بعض التصريحات الصحفية ذكر فيها أهليته للترشيح لعرش العراق وانتهى الموضوع عند هذا الحد. وكان منهم أيضاً سمو الأمير رعد بن زيد الذي استعان ببعض العراقيين ففتحوا مكتباً في بغداد للدعوة للملكية ، ولكن ذلك المكتب ما لبث أن أغلق بعد فترة قصيرة . أما الشريف علي بن الحسين ، (وهو ابن الأميرة بديعة ، شقيقة الأمير عبد الإله من زوجها الشريف حسين ، أي أن جده لأمه هو الملك علي ، ملك الحجاز السابق) ، والمقيم في لندن فقد جاء إلى بغداد بعد تغيير النظام السابق وأسس حركة سياسية باسم (الحركة الملكية الدستورية) وجعل مقرها في قصر ناجي الخضيري الكائن في الجادرية وأخذ ينشط في الدعوة إلى حركته مكرراً في تصريحاته أن لا يرمي من وراء حركته أن يتولى عرش العراق . لقد حظي نشاط الشريف علي بزخم معين في البداية ، لا سيما في أوساط العشائر ، ولكنه كان زخماً سرعان ما انحسر . وأذكر بهذه المناسبة أن الشريف علي أقام يوم 14 تموز 2003 حفل عزاء في مقره وقد حضرته شخصياً وكان حاشداً بالمعزين بالفاجعة التي ألمت بالهاشميين فجر الرابع عشر من تموز 1958 في قصر الرحاب حيث قتلوا جميعاً . ثم أقام حفل عزاء ثان في 14 تموز 2004 وحضرته كذلك ولكن عدد الحاضرين هذه المرة كان يعد على أصابع اليد . ولعل هذا يشير إلى اليأس الذي أحاق بمؤيدي النظام الملكي فجعلهم يعزفون حتى عن حضور مجلس للعزاء !

-6-

كنا ، الأخ عدنان وأنا ، كلما سنحت لنا فرصة من الفراغ من العمل المكثف في (التجمع) ، نقوم باغتنامها للخروج من المكتب للتجول في شوارع المنصور ؛ وكنا كذلك نستقل السيارة أحياناً للذهاب إلى مناطق أخرى من بغداد كالكرادة للتجول مشياً في شوارعها وتفقد مخازن العاصمة والاتصال بالناس والتحدث معهم . كان الأمن مستتباً ، وكنا نسير من دون حماية تذكر . ثم بدأت تحدث بعض التفجيرات هنا وهناك أحياناً ، وكان أشهرها حادث تفجير مقر الأمم المتحدة في شارع القناة في 19/8/2003 وقتل فيه الممثل الأممي دي ميللو وغيره ، وظل الوضع آمناً نسبياً إلى حين مغادرتي إلى عمان في أيلول 2004 لتولي منصبي كسفير للعراق في الأردن . وبعد ذلك أخذت الأوضاع الأمنية في البلاد تتفاقم كثيراً كما هو معروف .

إن قولي آنفاً إن الأمن كان مسستباً لا يعني أن ذلك الاستتاب كان مطلقاً . فذات يوم ، وفي أواسط عام 2004 ، وإذ كنا ، الأخ عدنان وأنا في طريقنا صباحاً إلى مقر مجلس الحكم لحضور جلسة صباحية وإذا بانفجار رهيب يقع خلفنا تماماً ويهز سيارتنا هزاً عنيفاً أدى إلى تهشيم الزجاج لبعض نوافذها . نزل المرافق وعاد ليخبرنا أن سيارة عضو المجلس عز الدين سليم (الذي يترأس حركة الدعوة الإسلامية في البصرة) والتي كانت تسير وراء سيارتنا ولا يفصلها عنا سوى أمتار قد تعرضت لحادث إما بعبوة ناسفة أو بفعل انتحاري ، فتحطمت السيارة وقتل من فيها وكان منهم عز الدين ونائبه كذلك . وصلنا قاعة المجلس ، وكان المفروض أن يترأس جلسته الصباحية تلك السيد عز الدين نفسه ، فوجدنا جميع الحاضرين وكأن على رؤوسهم الطير وهم يتبادلون الحسرات . وقد خصصت تلك الجلسة لرثاء رئيسها الفقيد .

وكنا كذلك ، أي الأخ عدنان وأنا ، نقوم أيضاً بزيارات إلى الأصدقاء المشتركين ، كما كانوا هم أيضاً يزوروننا في مقر (التجمع). قمنا مثلاً بزيارة لزملائنا القدامى في الخارجية وكان منهم الأخ عبد الحسين الجمالي ، وبزيارة للسياسي المخضرم ناجي طالب (وقد حضر ذات مرة إلى مقر "التجمع" وشارك في ندوة كانت تعقد فيها فتكلم عن العملية السياسية الجارية).
أما الزيارة التي قمنا بها ، وكانت قد صحبتها مفارقة من نوع خاص ، فهي لعيادة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم الذي كان مريضاً مقعداً وقد تجاوز التسعين ، في منزله بشارع الضباط في حي الأعظمية . كان الباجة جي يلتقي به في جنيف في سنوات سابقة ، أما أنا فلي به صلة معرفة ، ذلك أنه قام بتدريسنا مادة التاريخ الحديث في الغربية المتوسطة عام 1936 وكان قد عاد لتوه من بعثة دراسية في الجامعة الأمريكية في بيروت . والأستاذ عبد الفتاح مثقف ماركسي معروف وكان من أصدقاء شقيقي الأكبر جميل عبد الوهاب في ما مضى . عندما وصلنا داره حسب الموعد قيل لنا إنه متعب ونائم وحبذا لو عدنا بعد ساعة مثلاً . رجعنا فقال الأخ عدنان : بما أننا في الأعظمية فلنذهب إلى المقبرة الملكية لقراءة الفاتحة هناك ، ففوجئت بالاقتراح ورحبت به . دخلنا تلك المقبرة التاريخية وقرأنا الفاتحة على روح الملوك الهاشميين الراقدين فيها ممن كتب الله لهم نعمة القبور . عدنا بعد ذلك لزيارة المريض الماركسي الذي كان ناشطاً في المعارضة في العراق في خمسينيات القرن العشرين وكان له دور ما في التهيئة لسقوط النظام الملكي ، وكنا قبل لحظات أمام قبور الملوك ونحن نقف خاشعين . إن هذا هو ما قصدته بقولي آنفاً إن زيارتنا للأستاذ عبد الفتاح قد صحبتها مفارقة من نوع خاص !

-7-

في أواسط عام 2004 حصلت على إجازة قصيرة أقضيها في عمان لزيارة زوجتي ولاستصحابها معي عند العودة إلى بغداد للسكن في دارنا في المنصور . وقد حدث قبل ذلك أن أرسل مجلس الحكم وفداً من أعضائه إلى أمريكا يتألف من ثلاثة أعضاء هم الدكتور عدنان الباجة جي والدكتور أحمد الجلبي والمرحومة عقيلة الهاشمي (التي اغتيلت بعدئذ أمام دارها في بغداد) . وعندما كانت تبث صور الوفد في وسائل الإعلام كان عدد من المعجبين بالباجة جي يبدون استياءهم من موافقته على مرافقة شخص محكوم في الأردن في قضية معروفة هي قضية بنك البتراء: (كان بنك البتراء قد تأسس في العاصمة الأردنية عمان في أواخر السبعينيات من القرن الماضي من قبل آل الجلبي وآخرين ، وكان يديره الدكتور أحمد الجلبي بصفته المدير العام للبنك . وقد توسع البنك سريعاً في أعماله وفتح فروعاً له داخل المملكة وصار نداً للبنك العربي العريق . وفي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي تعرض البنك إلى أزمة مالية نشأت عن فقدان السيولة النقدية فانهار في عام 1989 ولم يقم البنك المركزي الأردني بتعويمه وكان رئيسه الدكتور محمد سعيد النابلسي . وقد قامت الحكومة الأردنية بوضع اليد على البنك وقررت تصفيته ، وغادر أحمد الجلبي عمان إلى الخارج . ثم جرت محاكمات غيابية بحقه وبحق آخرين أمام محكمة عسكرية عرفية فصدرت بحقهم أحكام بالسجن مدداً طويلة وبغرامات مالية كبيرة . هذا وهناك من يرى أن قضية بنك البتراء لم تكن قضية مالية – نقدية صرف بل إنها كانت ذات أبعاد سياسية . ولست هنا بصدد الخوض في تفاصيل ذلك لأنها تخرج عن صدد الموضوع الذي أتناوله).
أخذت أنا أقول في نفسي وأنا أسمع ذلك الانتقاد أن من الضروري إيجاد وسيلة لإنهاء تلك القضية بشكل من الأشكال ، وأن ذلك سينفع جميع الأطراف بلا استثناء. وحين عاد ذلك الوفد إلى بغداد أخبرت الأخ عدنان بما يدور في خلدي فقال ما العمل ؟ قلت إنني ذاهب بإجازة إلى عمان وبوسعي أن اتصل هناك بجهات عليا لبحث المسألة لكي نتحرى عن وسائل حل يرضي الجميع . أيدني الدكتور عدنان في ذلك ، فقمت عندئذ بمكالمة الجلبي وفاتحته بالفكرة ولم يبد اعتراضاً وقال إنه سينتظر النتيجة التي أعود بها من عمان.

اتصلت عند وصولي إلى هناك بالأمير رعد بن زيد كبير الأمناء ، وهو صديق قديم ، وحدثته بالأمر ، فقال إنه سيرتب لي لقاء خاصاً مع مدير المخابرات العامة ، وكان عندئذ الفريق الركن سعد خير ، وسيخبره بأنني أريد بحث قضية البتراء. قال الأمير رعد إن أفضل من أكلمه بهذه المسألة هو سعد باشا.

وبعد أيام جرى اللقاء في مكتب الفريق سعد خير في المخابرات العامة. حدثته بالموضوع فقال إن الأمر يستدعي في البداية إجراء لقاء خاص بينه وبين أحمد الجلبي للمداولة في محاولة للتوصل إلى حل ، وأنه على استعداد أن يلتقيه في لندن مثلاً أو في جنيف. قلت له إنني سأعرض هذا الاقتراح على الجلبي عند عودتي إلى بغداد بعد أيام وأخبره النتيجة.
عدت وأنا أشعر أنني أحمل فكرة جيدة قد تكون فاتحة لإنهاء مسألة بنك البتراء المزمنة. وقد التقيت بالجلبي على انفراد وأخبرته بلقائي مع سعد باشا خير في عمان وأنه يقترح لقاءً خاصاً بينهما في لندن أو جنيف . فما كان من الجلبي إلا أن رد على الفور بانفعال : قل له أن يأتي إلى هنا ، إلى بغداد ! فأسقط بيدي. وقلت في نفسي : إلى هنا وكفى.

وبعد أشهر من ذلك أجرى الدكتور الجلبي لقاءً صحفياً مع جريدة القبس الكويتية ، وحين سئل عن قضية بنك البتراء أجاب : إنهم هناك ، (ويقصد بذلك الأردن) ، يكذبون ، واسألوا عطا عبد الوهاب !
كان هذا الجواب عجيباً . إن كل ما أتيت به من الأردن هو عقد اجتماع خاص بين طرفي القضية لمحاولة التوصل إلى حل لها ، فأين هو الكذب ؟


                                القسم الثاني
                                 في عمان
                                   -8-

في شهر آب 2004 كانت وزارة الخارجية العراقية تتدارس موضوع تعيين سفراء لبعثات العراق في الخارج . وقد قام الدكتور عدنان الباجة جي بترشيحي سفيراً إلى المملكة الأردنية الهاشمية في عمان ، نظراً لعملي السابق في الخدمة الخارجية ولمعرفتي الوثيقة بعدد من كبار المسؤولين الأردنيين على مدى سنين. وقد وافق وزير الخارجية الأستاذ هوشيار زيباري على هذا الترشيح ، فصدر القرار بتعييني سفيراً في عمان.

وصلت عمان بعد ظهر الثالث من أيلول 2004 ، وقمت بتقديم أوراق اعتمادي إلى جلالة الملك عبدالله الثاني في السابع منه ، وذلك بحضور رئيس الوزراء الأردني فيصل الفايز . بعد مراسم التقديم أخذني جلالته إلى مكتبه الخاص وتحدثنا نحو عشر دقائق رحب جلالته خلالها بوجودي في الأردن وبإشغالي منصب سفير العراق لديه ولدى حكومته ، وعبر عن ثقته بأن المسؤولين الأردنيين سيتعاونون معي في مهمتي . شكرته على ذلك وقلت إن مما يسعدني أنني أول سفير للعراق الجديد في الأردن الشقيق.

   

   

     عند تقديم أوراق الاعتماد إلى جلالة الملك عبدالله الثاني.


وفور بدء عملي في مقر السفارة بعمان وتعرفي على موظفيها رأيت أن أبادرهم بدعوتهم إلى غداء شخصي خاص. حدثتهم في ذلك الغداء قائلاً إن علينا جميعاً أن نتكاتف في سبيل تحقيق الهدف الوطني المعروف لدينا. ثم أشرت أن العامل الأساسي الذي سيساعدنا على النجاح في مهمتنا المشتركة هو أن نعمل كلنا بروحية الفريق الواحد ، وأضفت قائلاً إن هذا مبدأ جوهري في طريقة عملي لإدارة شؤون السفارة.
أما الاتصال بالجالية العراقية ، والتي قدرت منظمة الهجرة الدولية أن عدد أفرادها في الأردن آنئذ يناهز ربع مليون شخص ، فكان رأيي أن ذلك ينبغي ألا يقتصر على الاتصال الفردي لأن مثل هذا الاتصال ، على ضرورته ، لن يشمل مهما اتسع إلا عدداً محدوداً منهم فقط. لذلك استقر في ذهني أن أرتب هذا الاتصال بشكل مؤسسي وذلك بجمع نخب مختارة من مختلف الفئات كأساتذة الجامعات ورجال الأعمال والفناين وذوي المهن الاختصاصية كالأطباء وغيرهم. افترضت أن عدد كل نخبة من هذه النخب يقدر بنحو خمسين شخصاً ، ومن الممكن جمعهم في ندوة تعقد في منزل السفير ، على أن تعقب ذلك اجتماعات موسعة تعقد في قاعة كبيرة من قاعات الفنادق الكبرى في عمان.

وعندما أخذت أتحدث عن هذا الموضوع مع بعض معارفي صرت أقول لهم إنني اعتبر منزل السفير بمثابة بيت العراق. واستقر ذلك في ذهني. ورأيت أن الخطوة الشكلية الأولى لنشر هذه التسمية الجديدة هو وضع تصميم مناسب لهذا البيت : بيت العراق . عندئذ قمت بتكليف ولدي سينا ، وهو فنان تشكيلي ، بوضع هذا التصميم ، فقام بذلك . (التصميم مرفق) . كلفته كذلك بتصميم أغلفة لبريد السفارة فقام بذلك أيضاً ووضع في زاوية المغلف رسم النخلة الظاهر في تصميم لوحة (بيت العراق) . وأذكر بهذه المناسبة أنني عرضت التصميمين على وزيرنا الأستاذ هوشيار زيباري عند مروره بعمان في ذلك الحين فأعجب بهما كثيراً ، وطلب مني تزويده بنسخ من المغلفات الجديدة وقال إنه سيأخذها معه إلى الوزارة في بغداد لكي تطلب الدائرة الإدارية رسمياً من السفارة تزويدها بعدد كاف من تلك المغلفات وعليها اسم الوزارة لاستخدامها في مراسلاتها الرسمية . زودته بما طلب . ولم أسمع من الوزارة شيئاً بعد ذلك ! هذا وكنت أنوي أن أجعل من تصميم (بيت العراق) لوحة برنزية تعلق بجنب لوحة (منزل السفير العراقي) في واجهة البوابة الخارجية للمنزل ولكن الوقت داهمني وغادرت السفارة قبل أن أنفذ تلك الفكرة.

وعند زيارة الدكتور إياد علاوي ، رئيس الوزراء ، إلى الأردن في أواسط كانون الأول 2004 اقترحت عليه أن أدعو السفراء العرب في الأردن إلى لقاء معه في منزل السفير ، (بيت العراق) ، فرحب بذلك . وفي مساء الثالث عشر من كانون الأول 2004 عقد ذلك اللقاء بحصور السفراء العرب جميعاً ، وبحضور وزير خارجية الأردن الدكتور هاني الملقي ، تحدث الدكتور علاوي في ذلك اللقاء مفصلاً عن العملية السياسية الجارية في العراق. ثم أعقب اللقاء عشاء حضره الجميع.

في اليوم التالي نشرت جريدة الرأي تقريراً مفصلاً عن ذلك اللقاء وفي ما يلي نص ذلك التقرير ، وهو يفي بالغرض.

   

-9-

في شهر آذار من عام 2005 وقعت ما سمي بحادثة الحلة – السلط. ففي ذلك الحين قتل المدعو رائد البنا ، الأردني الجنسية ، في مدينة الحلة العراقية أثناء مشاركته في عملية إرهابية هناك. نقل جثمانه إلى مسقط رأسه في السلط في الأردن ، وهناك أقيم له مجلس عزاء حاشد رفعت فيه شعارات أطلقت على ذلك العزاء اسم العرس ، كما أطلقت على القتيل لقب البطل والشهيد . وقام بعض النواب من أعضاء المجلس النيابي الأردني بزيارة مجلس العزاء ذاك فحدثت أزمة برلمانية وكذلك أزمة وزارية في الأردن ، وشاب العلاقات الأردنية – العراقية توتر غير مسبوق . في ذلك الجو المشحون قامت الحكومة الأردنية بسحب القائم بالأعمال الأردني في السفارة الأردنية في بغداد إلى عمان بعد أن حدثت أعمال شغب عفوية أمام دار السفارة الأردنية وأحرق بعض المتحمسين العلم الأردني. وعلى أثر ذلك قامت الحكومة العراقية بسحبي إلى بغداد . غادرت إليها جواً صباح الثاني والعشرين من آذار 2005.
في اليوم التالي عقد وزير الخارجية هوشيار زيباري اجتماعاً في مكتبه الرسمي بحضوري وحضور وكلاء الوزارة الثلاثة وهم : محمد الحاج حمود وسعد الحياني ولبيد عباوي. قال الوزير في ذلك الاجتماع أن سبب استدعائي هو للتهدئة وأن عودتي ستكون مرهونة بتحقيق الغرض من الاستدعاء من دون أن يشير إلى مدة محددة.

عدت في أوائل أيار وقد وجدت حكومة فيصل الفايز قد استقالت فشكلها الدكتور عدنان بدران. وبعد عدة أيام قمت بزيارة رئيس الوزراء الجديد في مكتبه الرسمي فوجدته رجلاً دمثاً ومنفتحاً ، وقد تحدثنا عن أمور كثيرة كان منها موضوع خطباء الجمعة وخطبهم المناوئة للعراق في المساجد. قلت له إن هؤلاء الخطباء هم موظفون حكوميون تابعون لوزارة الأوقاف والمعروف أنهم يراعون التعليمات التي تصدرها الوزارة لهم ، فلماذا لا تتوقف هذه الحملة ؟ وعدني رئيس الوزراء أنه سيعالج هذه القضية شخصياً في القريب ، وأنني سأجد هذه الخطب قد تغيرت في أيام قريبة قادمة. وقد تحقق ذلك فعلاً ، إذ علمت من رواد المساجد أن خطب الجمعة صارت تقتصر على الشؤون الدينية والاجتماعية ، وأنها لم تعد تتطرق إلى الأمور السياسية.
في زيارة أخرى لي إلى دولة الدكتور عدنان بدران أثرت معه ما بلغنا من أن وزير التربية ، الدكتور خالد طوقان ، قد أصدر كتاباً يقضي بعدم قبول أي طالب عراقي إلا إذا كان ولي أمره لديه إقامة نافذة في الأردن. استغرب رئيس الوزراء من ذلك ، واستفسر مني هل أنني متأكد من ذلك ؟ فأبرزت له صورة من كتاب وزير التربية. قرأ الكتاب وقال بانفعال إنه لا يعلم بذلك. وعلى الفور اتصل هاتفياً بالوزير بحضوري وقال له كيف يتخذ مثل هذا القرار من دون التشاور معه. ثم أمره بأن يلغي ذلك الكتاب فوراً. شكرته على موقفه كثيراً ، وكان للقرار الجديد صدى استحسان في الأوساط العراقية كافة.

وفي زيارة لاحقة لرئيس الوزراء أثرت معه موضوع بنك البتراء فقال إنه يتدارس مع الخبراء والقانونيين هذا الأمر، وأن لديه أفكاراً محددة حول ذلك ولكنه لا يريد الإفصاح عنها في الوقت الحاضر. وأضاف يقول إنه يعتزم زيارة بغداد قريباً وأنه سيبحث هذا الموضوع مع المسؤولين العراقيين هناك ، كما سيبحث مسائل أخرى ، وأنه يأمل خيراً.
وقد قام الدكتور بدران بالزيارة فعلاً ، وعاد بعد أيام من دون الإعلان عن نتائج محددة سواء في بغداد أو في عمان. ولكن بعض الصحف تكهنت بأن مسألة تزويد الأردن بالنفط العراقي بأسعار تفصيلية قد جرى بحثها في بغداد، وأن نتائج تلك المباحثات غير معروفة.

-10-

ذكرت آنفاً أن الانتخابات النيابية التي أجريت في الثلاثين من كانون الثاني 2005 كانت قد نظمتها ، بالنسبة إلى العراقيين المقيمين في الخارج، منظمة الهجرة العالمية وذلك بتكليف من الحكومة العراقية. أما الانتخابات التي تلت ذلك وحدد لها الخامس عشر من كانون الأول 2005 فقد تقرر أن تجري تنظيمها السفارات العراقية في الخارج. كانت هذه مهمة عسيرة لكل سفارة من السفارات . ثم اتضح أن ترتيباً قد جرى في بغداد بين الحكومة العراقية والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي كانت قد تشكلت في العراق وتم بموجبه تكليف هذه المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي كانت قد تشكلت في العراق وتم بموجبه تكليف هذه المفوضية بتنظيم إجراء الانتخابات في الخارج. وبذلك رفع ذلك العبء الثقيل عن كاهل السفارات. وقد أخذ أعضاء المفوضية المعنيون بالأمر بالوصول إلى عمان تباعاً ، وكانوا يتمتعون بصلاحيات واسعة وتحت تصرفهم ميزانية كبيرة. واقتصرت مهمة السفارة في عمان على التعاون معهم بشأن ما يطلبونه ، وعند انتهاء الانتخابات وجه وفد المفوضية عند مغادرته رسالة شكر إلى السفارة على التعاون الوثيق الذي قدمته لهم.

وعلى ذكر تلك الانتخابات ، أي التي جرت في 15/12/2005 أود أن أشير إلى أمر معين، فقد زارني في مكتبي في السفارة قبل عقد تلك الانتخابات أحد سفرائنا المعتمدين في عاصمة عربية أخرى ، وهو ينتمي إلى منظمة سياسية عراقية معروفة، وقال لي إنه جاءني برجاء معين ألا وهو أن تقوم السفارة ببذل الجهود لمساعدة مرشحي منظمته عند إجراء تلك الانتخابات. استغربت كثيراً من طلبه هذا، ولكنني التزمت الهدوء وقلت : إنني كما تعلم كنت عضواً في (تجمع الديموقراطيين المستقلين) ، وعندما جرى تعييني سفيراً اعتبرت نفسي مستقيلاً من التجمع ، لذلك فإنني هنا الآن سفير للعراق وليس لغيره، والكل بنظري سواء في ما يتعلق بالعمل الرسمي. لذلك لا يسعني على الإطلاق أن أسعى لتأييد أية جهة سياسية ، بما فيها (التجمع) ، في الانتخابات القادمة . والظاهر أن ذلك السفير لم يرتح لكلامي فخرج ممتغصاً.
هذا وقد قررت أن أروي ما جرى إلى وزيري الأستاذ هوشيار. وقد مر بعمان بعد أيام فحدثته عن الأمر فاستاء كثيراً، وأيد موقفي، لذلك اقترحت عليه أنه سيكون من المناسب أن توجه وزارة الخارجية تعميماً للسفارات العراقية كافة بضرورة التزامها بالحياد التام في الانتخابات القادمة. رحب الوزير باقتراحي ، لا بل أنه كلفني في اللحظة ذاتها أن أكتب له مسودة التعميم المطلوب. وقد قمت بذلك ، فوضع المسودة التي كتبتها في جيبه. ما أن عاد إلى بغداد حتى صدر ذلك التعميم نصاً وكما كتبته إلى السفارات العراقية جميعاً. شعرت عندئذ بشيء غير قليل من الرضا من النفس.

-11-

عملت سفيراً للعراق في عمان منذ أوائل شهر أيلول 2004 حتى نهاية شهر حزيران 2006 ، أي مدة سنة وعشرة أشهر (بضمنها مدة نحو شهرين قضيتها في بغداد عند استدعائي رسمياً كما ذكرت سابقاً). كنت في تلك الفترة كلها دائب الحركة ليل نهار. وليس من الممكن أن أدون في هذا الكتيب جميع ما قمت به من الخدمات ، لا سيما لأفراد الجالية العراقية في الأردن، أو ما قمت به من أعمال لإعلاء شأن العراق الجديد ولتطوير العلاقات الأردنية – العراقية إلى أحسن أحوالها. لكنني أود أن أشير بالذات إلى خدمة معينة للعراقيين وهي أنهم كانوا يعانون بين حين وحين من مضايقات على مراكز الحدود عند دخولهم إلى أراضي المملكة ، وما يواجههم من صعوبات بشأن الحصول على إذن الإقامة في الأردن. كنت أشير إلى ذلك كله وأطالب بتصحيح الأوضاع عند مقابلاتي المتكررة مع جلالة الملك عبدالله الثاني ومع كبار المسؤولين الأردنيين. أذكر مثلاً أنني، في زيارة لمعالي عيد الفايز وزير الداخلية ، حدثته بشأن هذه الأمور وآثارها السلبية على مشاعر العراقيين وبالتالي على العلاقات العراقية – الأردنية ، فما كان من الوزير إلا أن نادى على وكيل الوزارة ، مخيمر أبو جاموس ، وأملى عليه بحضوري رسالة طلب توجيهها إلى جميع المعنيين بشؤون المرور والدخول والإقامة، على أن تصدر تلك الرسالة بتوقيعه شخصياً.

وأذكر بهذه المناسبة أيضاً أنني عند قيامي بتاريخ 6/4/2006 بزيارة الفريق محمد الذهبي، مدير المخابرات العامة ، للتوديع بمناسبة انتهاء عملي سفيراً في الأردن ، وكان حاضراً في مكتبه معنا مساعده اللواء سعدي الزعتري ومدير مكتبه العقيد عرفات أمين ، أثرت معه مسألة المعاملة غير الحسنة التي تواجه بعض العراقيين في المملكة عند مراكز الحدود ودوائر الإقامة ، وأبرزت للفريق الذهبي صوراً من المذكرات الرسمية العديدة التي رفعتها السفارة إلى وزارة الخارجية الأردنية فأظهر مدير المخابرات اهتماماً بالغاً بما أثرته وأوعز إلى مساعده أن تقوم الدائرة بالكتابة رسمياً إلى الجهات المعنية وطلب كذلك إلى مدير مكتبه تعقيب هذا الأمر شخصياً. شكرته على ذلك ، وكلي أمل بأن تلك الجهود قد آتت أكلها المرجوة.
وبما أنني تحدثت في هذه الفقرة عن شيء من الخدمات التي أسديتها للعراقيين فإنه يتعين علي أن أشير كذلك إلى ما قامت به زوجتي بالذات من جهود في هذا المجال، ومنها على سبيل المثال الاتصال بالجمعيات الخيرية العاملة في المملكة لخدمة العراقيين بقدر ما يتعلق الأمر بهذه الجمعيات. وكان من أهم ما قامت به في هذا الميدان استجابتها لرئيسة جمعية الحسين للسرطان، سمو الأميرة دينا ، زوجة الأمير مرعد بن رعد ، حيث طلبت منها العمل على جمع تبرعات من الميسورين العراقيين لغرض علاج أطفال العراق المصابين بمرض السرطان. فقامت زوجتي بحملة اتصالات مع رجال الأعمال العراقيين وجمعت مائة وخمسين ألف دينار للجمعية وتلقت على عملها ذاك كتاب شكر خاص من الأميرة دينا نفسها ، كما تلقت رسالة ثناء كذلك من وزارة الخارجية العراقية. ثم قامت زوجتي على أثر ذلك العمل بدعوة الأميرة إلى المنزل ، إلى بيت العراق ، بحضور العشرات من السيدات العراقيات ، وجرى خلال ذلك الاجتماع تأسيس صندوق خيري لعلاج أولئك الأطفال يمول باشتراك سنوي من المنتسبين إليه، وتم في الاجتماع ذاته اشتراك عدد غير قليل من العراقيات الحاضرات اللاتي دفعن اشتراكاتهن للأميرة دينا شخصياً.
ومن الفعاليات التي قامت بها زوجتي كذلك الاتصال بزوجات السفراء العرب والأجانب ، ومما ساعدها على توطيد العلاقة مع زوجات السفراء الأجانب بالذات معرفتها باللغة الإنكليزية. لقد تطورت تلك العلاقات إلى صداقة مع بعضهن ، وهي صداقة مستمرة حتى الآن على الرغم من أنني تركت موقعي الرسمي. كانت تدعو زوجات السفراء إلى لقاء في المنزل ، في (بيت العراق) ، ولم تكن تلك اللقاءات تقتصر على مجرد مناسبة اجتماعية ، بل كانت زوجتي تقوم بإلقاء كلمة معدة مسبقاً عن موضوع معين، فيطرح للنقاش من قبل الجميع ، أو تكون قد كلفت إحدى زوجات السفراء بتقديم مثل تلك الكلمة، وهكذا كانت تلك اللقاءات تتحول إلى ما يشبه الندوات الثقافية.
إن النشاط الذي تقوم به زوجة أي سفير من السفراء يمثل دعماً لا غنى عنه لجهود السفير في مهماته الكثيرة.

-12-

في ليلة التاسع من تشرين الثاني 2005 كنا، زوجتي وأنا ، مدعوين على عشاء في منزل السفير الإيطالي في عمان. وأثناء تناول الطعام وردت نداءات تلفونية تفيد بوقوع انفجارات في ثلاثة فنادق في العاصمة هي فندق غراند حياة وفندق راديسون ساس (حيث كان يقام حفل زفاف) وفندق دايز إن Days Inn. غادرنا منزل السفير الإيطالي وتوجهنا إلى الدار ، ومن هناك اتصلت بأركان السفارة واستنفرت الجميع للقيام بزيارات إلى المستشفيات حيث يرقد بعض الجرحى من العراقيين ، ورافقتهم في تلك الزيارات. وكنت أعلم أن وفد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات القادم من بغداد كان موجوداً تلك الليلة في بهو فندق غراند حياة ، حيث وقع الانفجار ، فقلقت على سلامتهم كثيراً وأجريت الاتصال اللازم وعلمت ، لحسن حظ الجميع ، أن الوفد كان قد غادر الفندق قبل دقائق فقط من وقوع الانفجار فيه. لم أعد تلك الليلة إلى المنزل إلا قبيل الفجر.
في اليوم التالي طلبت زوجتي مقابلة جلالة الملكة رانيا لكي تبين لها أن الذين ارتكبوا تلك الجرائم النكراء إنما هم نفر معدود خارج على القانون ولا ينتمون إلى تراث العراق الأصيل. وقد تمت المقابلة بعد أيام ، فأخبرتني زوجتي أن جلالة الملكة كانت متفهمة للوضع تماماً وأنها قالت إن الحوادث التي جرت هي حوادث معزولة ولا تنسحب آثارها على وجود الأخوة العراقيين في المملكة. أما قيام زوجتي بالذات بهذه المبادرة فيرجع إلى أن هناك امرأة عراقية هي الإرهابية ساجدة ، وكانت تحمل حزاماً ناسفاً ، وكان من المفروض فيها أن تدخل قاعة العرس في فندق راديسون ساس لتفجير حزامها الناسف لإكمال ذلك الحدث الرهيب ، فاستعصى عليها فتح الكابس في الحزام واضطرت إلى مغادرة الفندق ثم ألقي القبض عليها.

-13-

كانت لي خلال عملي سفيراً للعراق في الأردن زيارات عمل للصحف الأردنية الكبيرة ورؤساء تحريرها وغيرهم من كتاب الأعمدة. أذكر أنني عند زيارتي للكاتب المعروف الدكتور فهد الفانك في جريدة الرأي ، كاتب عموده اليومي (رؤوس أقلام) أنه قال لي بإعجاب : لقد قرأت كتابك (سلالة الطين) من الغلاف الى الغلاف وقد أكتب عنه في عمودي. وعند زيارتي لرؤساء التحرير ، ومنهم عبد الوهاب زغيلات رئيس تحرير جريدة الرأي ، وأسامة الشريف رئيس تحرير جريدة الدستور ، اقترحت عليهما أن نعقد في مكاتب الجريدة جلسات عصف فكري يحضرها عدد من المحررين. لم أسمع بعد ذلك من زغيلات شيئاً عن اقتراحي هذا ، ولكن أسامة الشريف ، رئيس تحرير الدستور ، استجاب للاقتراح فاتصل بي ودعاني إلى حوار يعقد في الجريدة يوم 25 حزيران 2005 بحضوره وبصحبته هيئة التحرير كلها وعدد أفرادها إثنا عشر محرراً. ذهبت واستصحبت معي المستشار هناء بيك مراد ، من أركان السفارة وعقدنا حواراً دام ساعات ، وفي اليوم التالي 26 منه ، نشرت الدستور في بابها المعنون (واجه الصحافة) نص الحوار على صفحة كاملة بعنوان كبير، (عبد الوهاب : أمريكا لم تغير النظام حباً بالشعب العراقي بل لمصلحتها الاستراتيجية). وقد تناول ذلك الحوار بشكل مفصل شؤون الساعة كلها في ذلك الحين.

عبد الوهاب: أمريكا لم تغير النظام حبا بالشعب العراقي بل لمصلحتها الاستراتيجية أسلحة الدمار الشامل ذريعة فالسبب الحقيقي للحرب الشكوك في النظام السابق وعلاقته بالإرهاب
* المطلوب نظام ديمقراطي يقوم على الانتخابات.
* إنشاء دولة ضمن هذا الخراب مهمة شاقة وعويصة.
* الزرقاوي والجريمة المنظمة وبقايا النظام السابق معوقات في وجه قيام نظام سياسي.
* لا أحد يرحب بوجود قوات أجنبية في بلاده لكن هناك واقعا يفرض ذلك.
* المهمة الأولى للحكومة الجديدة المنتخبة التفاوض حول إنهاء وجود القوات المتعددة الجنسية.
* الحدود مع الكويت غير مثارة لا رسمياً ولا صحفياً.
* تقسيم العراق ليس في مصلحته ولا مصلحة المنطق.
* قضية الجلبي ستحل قريباُ بما يرضي الطرفين.
* نشر صور صدام مسألة غير إنسانية وبقاؤه بحراسة أمريكية لصالحه.
* إذا طلب الأردن منحة نفطية فسينظر بها بجدية وعناية.


-14-

ما أن تبلغت بأمر نقلي إلى بغداد في شهر آيار 2006 تمهيداً لنقلي إلى مملكة البحرين بادرت إلى تنفيذ برنامج زيارات رسمية مع مسؤولين وذلك للتوديع. كان على رأسهم بالطبع جلالة الملك عبدالله الثاني،

   

       الوالد عطا عبدالوهاب مع جلالة الملك للتوديع.

ودولة رئيس الوزراء معروف البخيت (بالمناسبة عاصرت ثلاثة رؤساء هم فيصل الفايز وعدنان بدران والبخيت) والوزراء، منهم وزير الخارجية عبد الإله الخطيب (بالمناسبة أيضاً عاصرت أربعة منهم وهم مروان المعشر وهاني الملقي القصراوي والخطيب).


لقد أطلعت وزارة الخارجية الأردنية طبعاً على نقلي، فأقامت حفل غداء لتوديعي بتاريخ 16/5/2006 حضره السفراء العرب المعتمدين في الأردن وغيرهم وتصدره أمين عام وزارة الخارجية السفير نبيه شقم.

استصحبت معي لذلك الغداء الرجل الثاني في السفارة ، وهو الوزير المفوض فاضل العزاوي الذي سيتولى مهمة القائم بالأعمال للسفارة من بعدي. وعند انتهاء الغداء نهض الأمين العام ليلقي كلمة بالمناسبة كما يقضي التقليد الدبلوماسي ، فإذا به يعلن بشكل مفاجئ أن جلالة الملك عبدالله الثاني قد أنعم علي بوسام الاستقلال من الدرجة الأولى وسلمني العلبة الجلدية الحمراء التي كانت أمامه وعليها شعار المملكة ففتحها وعرض الوسام علي وعلى الآخرين . هنا طلب السفير مكرم القيسي ، رئيس دائرة التشريفات في الخارجية الأردنية ، أن يتكلم بضع كلمات فقال : أجد من المناسب أن أعلن لكم أننا في الخارجية وجدنا هذه اللفتة الكريمة لا تتفق مع القواعد المتبعة وهي أن يكون السفير الذي يمنح هذا الوسام قد أمضى أربع سنوات على الأقل سفيراً لبلاده لدينا ، وهذا غير متوفر في هذه الحالة ، وأن تكون بلاده تقوم بالمقابلة بالمثل وهو غير حاصل في العراق الآن. وأضاف يقول : كان من واجبنا أن نذكر ذلك إلى الديوان الملكي فقالوا لنا نعرف ذلك ، ولكن هذا هو أمر جلالة الملك المطاع.

 

أما أنا فقد أرتج علي وغامت عيناي بدمعة إمتنان ، ووقفت وقلت : الآن ، وبعد هذه المفاجأة السارة التي لم تكن في حسباني قط ، لا أدري ما أقول سوى أن أكرر شكري لجلالة الملك ، ولكم على حفاوتكم . أما ما كنت أريد أن أقول قبل المفاجأة فقد تبخر من ذهني ، وجلست ! فصفقوا طويلاً.

               

الوالد يلقي كلمته الوداعية بحضور السفراء العرب المعتمدين في المملكة.

قامت السفارة بإبلاغ الخارجية في بغداد بالانعام علي بوسام الاستقلال ، فتلقيت رسالة بتوقيع الأستاذ هوشيار زيباري يهنئني فيها على ذلك ، وقد أخبرني وكيل الوزارة الأقدم ، الدكتور محمد الحاج حمود ، أن الوزير طلب أن يكتب تلك الرسالة بنفسه.

في اليوم التالي أقام لي السفراء العرب غداءً مختلطاً دعيت إليه الزوجات أيضاً في فندق غراند حياة، وبعد أن تكلم بعضهم وجاء دوري قلت: في الليلة الماضية فكرت مع نفسي ماذا سأقول أمامكم، ثم تطور الأمر إلى قصيدة فاسمحو لي أن أقرأها عليكم الآن:

عمّان
يا زينة فجر الأقحوان
يا معلماً مزوقاً بعزّة الرقي والعمران
جئنا إليك من مرابع المكان
جئناك من بغداد، من مصر، من الشام، ومن عمان
جئناك من جنوبنا الكويت
من غربنا مظلة البيت الحرام
من الإمارات، من البحرين
جئنا من المشرق ومالغبرب والصحراء
واليمن السعيد
جئناك من لبنان ومن تخوم زهرة المدائن
جئناك من قطر
مرددين كلنا أنشودة المطر
جئنا لكي نشد أزر بعضنا لشحذ جذوة الأمل
ودعم ما ننشده من مرتجى الاعمال
لكي نديم الصلة المثلى بآل الأردن الكرام
وهم بظل عاهل أمين
والآن، وبعد أن قضيت ما قل عن العامين من تواصل حميم
ها أنا ذا أمامكم مودعاً
أقول مثل ذاك الشاعر المتيم الولهان:
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه

-15-
خاتمة

وهكذا أنهيت مرحلة من مراحل حياتي أفرزتها الظروف التي إستجدت في العراق بعد تغيير النظام السابق فيه. إنها مرحلة لم أكن قد خططت لها، وحفلت بعمل غزير وجهد متواصل، وعندما انتهت شعرت بأنني راضٍ عما قمت به.

لم يكن لعملي خلال الفترة الزمنية من 2003 إلى 2006 علاقة مباشرة بالحكم. ولو كان لي مثل تلك العلاقة لسعيت جهدي أن يكون الحكم في العراق علمانياً يفصل بين شؤون الدين وشؤون الدولة ، ولا يشجع سوى على التزام العراقي بمبدأ المواطنة ، ويدع جانباً الالتزام الطائفي أو القومي أو العرقي ، فبهذا وحده يمكن الحفاظ على وحدة البلاد وإدارتها بنظام ديموقراطي انتخابي سليم. ولو أن ذلك قد حصل بعد تغيير النظام السابق في العراق لكان من الممكن تجنب الكثير مما يشكو من حدوثه معظم الناس في الوقت الحاضر.

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

878 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع