مذكرات الاستاذ امين المميز- الحلقة السادسة‏

                                          

                              د.رعد العنبكي

            

  

اذكر بغداد يوم كنت احمل  ( العلاكه ) الملاى بالتبن واقصد شريعة الصنائع ( الواقعة بين مدرسة الصنائع القديمة – قصرالثقافة حاليا وبين نادي القلوب – النادي العسكري حاليا ) لاشتري ربع قالب ثلج من المضخة التي نصبها مدحت باشا وادفنه بالتبن  لئلا يذوب  قبل وصولي البيت لنبرد به الشنينة او شربت قمر الدين او الاسكنجبيل او الخوشاب او الصاوغلوغ وقت الافطاراذ كان رمضان يحل حينئذ في اشهر الصيف الحناني
واليوم لا يوجد بيت من بيوت بغداد الا وفيه الثلاجة او المجمدة او الاثنين معا او مبردة الماء الكهربائية ومبردة الهواء وكثير من البيوت مزودة بمكيفات الهواء ( ايركونديشن ) وبعضها مجهز بجهاز تبريد مركزي وبغداديو اليوم يفطرون رمضان الذي يحل الان بعد سبعين سنة من تلكم السنين العجاف وعلى موائد افطارها الوان المثلجات والمرطبات المبردة والهواء المبرد او المكيف يقارعون بها حر الصيف البغدادي القاسي فياكلون مريئا ويشربون هنيئا ويشكرون من يسر لهم هذه النعم
اذكر بغداد يوم كانت مباريات كرة القدم بين المدارس تجري في باحة القلعة (وزارة الدفاع حاليا ) ثم انتقلت الى ساحة الصالحية( موقع المتحف العراقي حاليا )  المسيجة بالطوف  ثم انتقلت الى ساحة الكشافة الحالية المسيجة بلاسلاك الشائكة وارى اليوم مباريات كرة القدم تجري بين فرقنا الوطنية والفرق العالمية في احدث ( ستاد ) شيد في الشرق الاوسط هو ملعب الشعب

  

اذكر بغداد يوم تاسست بعد الاحتلال اول سينما في بغداد وكانت لا تتسع لاكثر من مائة مشاهد تقع في شارع النهر ( مقابل اوروزدي باك القديم )ثم تاسست بعدها السينمات الثلاث في شارع الرشيد وهي : رويال( مقابل ساحة الرصافي ) والسينما الوطني( مقابل شركة المخازن العراقية ) وسنترال سينما ( مقابل ساحة الوثبة ومحل حافظ القاضي )
واليوم يصعب علي تعداد السينمات في بغداد لكثرتها هذا عدا السينمات الخاصة بالنوادي والجمعيات

  


اذكر بغداد يوم كان البغداديون يحملون ( بقج المناشف ) على رؤوسهم ولوازم الحمام الاخرى بايديهم ويقصدون الحمامات العامة للاغتسال والاستحمام والتدليك وخاصة في فصل الشتاء وتحضرني اسماء الحمامات التي ترددت عليها في طفولتي وصباي وشبابي وهي :
حمام كجو في باب الاغا – حمام الباشا في الميدان – حمام الحيدرخانة – وحمام يتيم في الكرخ – وحمام القاضي بجوار المحكمة الشرعية ( شارع المستنصر حاليا ) – وحمام التيلخانه وغيرها وكلها مجهزة بالمياه المسخنة  ( بفشقي الطمة )
واليوم ارى لكل بيت بغدادي حمامه الخاص وبعض البيوت فيها عدة حمامات شرقية وغربية وبعضها فيها حمامات بقدر عدد غرف النوم مجهزة بالمياه المسخنة بالكهرباء او الغاز او النفط

 

اذكر بغداد يوم كان السفر منها واليها بدائيا يتم بواسطة الخيل والبغال والجمال وحمير( المجارية ) ثم تطورنحو الافضل فصار يتم بواسطة الكجاوة و(التخت روان ) وهي محفة يحملها زوج من البغال او الهودج وهو محفة يحملها بعير ثم تطور نحو الاسرع فصار يتم بواسطة العربات ذوات اربعة دواليب  واذكر اني سافرت على عربة ( ابوسبع ) من بغداد الى الفلوجة في العهد العثماني وهي عربة اقرب الى برجقة منها الى عربة سفر وقد استغرقت السفرة من كهوة ( العكامة )في صوب الكرخ الى الفلوجة قرابة ثلاثين ساعة ومع مبيت ليلة واحدة في خان ضاري في ( ابومنيصير) لانعدام الامن في السفر الليلي وخطر ( دكك) الطريق وسلب المسافرين من قبل قطاع الطرق...

 

ثم تطور السفر نحو الافضل والاسرع عندما صارت السيارة(ام اللوكيه موديل فورد او اوفر لاند ) واسطة السفر واذكر ان نفس السفرة التي قطعناها في عربة ابو سبع بثلاثين ساعة قد قطعناها بعد عشر سنوات في سيارة السائق الارمني ( تيزاب ) باقل من خمس ساعات والمسافة بين بغداد والفلوجة لا تزيد على الخمسين كيلومترا مع التوقف لتبريد السيارة واصلاح ( البنجر ) والاستراحة من ضعضعة الضلوع جراء سؤ حالة الطريق الترابي المتعرج والمتعثر هذا فيما يخص السفر البري

            

اما السفر النهري بين الشمال والجنوب فيتم بواسطة ( الجلاج ) ويستغرق مدة اطول من المدة التي يستغرقها السفر البري بواسطة الدواب والكروان والعربات بينما السفر اليوم من بغداد واليها يسرعة خيالية فان نفس المسافة بين بغداد والفلوجة تقطع بالسيارة الحديثة بساعة واحدة واذا ماتم انشاء الخط السريع فسيختصر الوقت الى اقل من ساعة بكثير وان السفر بين بغداد والبصرة بواسطة قطارات ( الديزل الكهربائية ) الحديثة ولمسافة تقرب من اربعمائة كيلومتر يستغرق اقل من عشر ساعات بينما كان يستغرق بزاسطة الباخرة ( مركب حميدي ) قرابة الاسبوع
اما واسطة النقل الجوي الحديثة فقد قلبت احوال السفر من بغداد الحديثة واليها راسا على عقب  فان طائرة ال ( جمبو 747 ) العراقية قد قطعت المسافة بين بغداد ولندن والبالغة اكثر من اربعة الاف كيلومتر باقل من خمس ساعات وهو سدس الوقت الذي استغرقته سفرتي الاولى بين بغداد والفلوجة ونفس الوقت الذي استغرقته سفرتي الثانية ولو ان المقارنة لا تصح بين السفرات الثلاث لتباين الظروف والاحوال ووسائط السفر من كافة النواحي اذ صار العراقيون يحسبون لعامل الوقت كل حساب في هذه الايام

                             

واخيرا اذكر بغداد واذكر العراق يوم كتب الملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية بان ( العراق ينقصه اهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والعنصرية والدينية التي هي مبعثرة القوى مقسمة على بعضها وانه لايوجد في العراق شعب عراقي بعد بل توجد كتلات بشرية خالية من اي فكرة وطنية ولا تجمع بينهم جامعة ومن يعلم صعوبة تشكيل شعب في مثل هذه الظروف يجب ان يعلم عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل )
ذلك ماكتبه الملك فيصل الاول في المذكرة التي وزعها على اعوانه من رجال الدولة اوائل (1933 ) بينما ارى اليوم وبعد مرور خمسين عاما على تلك المذكرة شعبا عراقيا متلاحما متماسكا متاخيا متحابا معتزا بمركزه الحضاري
مؤمنا بقوميته وعروبته مقدرا لمسؤولياته الدولية والانسانية لا تفرقه فوارق فكرية او عنصرية او دينية او طائفية الا ما يقحمه عليه المغرضون والحاقدون  والاستعماريون
تجمعه جامعة واحدة هي ( جامعة الوحدة العراقية ) فتم تذليل الصعوبات التي عجز عن تذليلها الملك المؤسس فيصل الاول قبل نصف قرن فخلق باقل من ربع قرن شعبا عراقيا جديدا هدفه واحد وقدره واحد ومصيره واحد واماله واحدة وامانيه واحدة وغاياته واحدة فصار يمتاز على كثير من شعوب الارض بكثير من المميزات والمؤهلات والانجازات
وبعد :
فهل هناك مدينة في الدنيا قاست ماقاسته بغداد من محن ومصائب وخطوب واهوال خلال هذه الفترة القصيرة من تاريخها الطويل المزدهر؟
ايه يابغداد :
ما الذي جنته يداك حتى استحققت هذا الشقاء والعناء والعذاب والخراب والحرمان الست التي نظم في مدحك فحول الشعراء وكتب في وصفك اعلام الكتاب والادباء واكبر حضارتك العلماء وقدر منزلتك الفقهاء والفضلاء وغنى فيك اساطين المغنين والمغنيات والمطربين والمطربات واطنب في سجايا وشمائل اهلك المؤرخون والرحالون والسائحون اولست انت التي غردت فيك ام كلثوم في فلم دنانير:
بغداد يا ذات القصور السامية          دامت لك النعمى وغناك الزمان
بغداد يا ذات القصور العالية             ياجنة الدنيا ويا ظل الزمان

                             
                                        
هواؤها ما اطيبه             وماؤها ما اعذبه
نسيمها ما اعطره         وزرعها ما انضره
اولست التي انشدت فيك ام كلثوم   انشودتها الخالدة :
بغداد  يا قلعة الاسود      ياكعبة المجد والخلود
سمعت في فجرك الوليد     توهج النار في القيود
وبيرق النصر من جديد      يعود في ساحة الرشيد
الم تغن فيروز بحقك وبحق اهليك:
بغداد والشعراء والصور    ذهب الزمان وضوعه العطر
يا الف ليلة يا مكملة الاعراس     يغسل وجهك القمر
بغداد هل مجد ورائعة       ما كان منك اليهما سفر
عيناك يا بغداد اغنية          يفنى الوجود بها ويختصر
لم يذكر الاحرار في وطن     الا واهلك فوق ما ذكروا
وبهذا القدر اكتفي واذا رغبتم في ذكر قصائد مشاهير الشعراء عن بغداد الحبيبة امثال:الزهاوي والرصافي والمنصور والهمداني واليربوعي عمارة بن عقيل وابن زريق وابن مظفر الخازن والقاضي ابو محمد المالكي وعلي الجارم والاخطل الصغير وحافظ جميل ونزار قباني ونعمان ماهر الكنعاني
واقوال الفقهاء والادباء والعلماء والفضلاء في وصف محاسنك وفضائل اهلك
فاني اكون سعيدا لكتابة مقتطفات عما ذكرتهم اعلاه
ولكم مني اطيب المنى
اخوكم المخلص
الدكتور
رعد العنبكي
ملاحظة :
تولى مدحت ياشا ولاية بغداد مدة ثلاث سنوات قام باصلاحات عظيمة ما زالت اثارها ماثلة حتى اليوم ومن جملة اعماله نصب ماكنة لتوزيع الماء على الدور والقصور وفي نفس الوقت لصنع الثلج في فصل الصيف وكان الماء الخابط يصفى حينئذ بالشب ولم يكن لا كلورين ولا ازون ولا هم يحزنون
الشنينة :هي اللبن المخفف بالماء وهي اخف من الروبة والخاثر واللبن الزبادي واللبن الناشف
الاسكنجبيل : شراب ذونكهة طيبة حلو المذاق يشرب اما مخففا بالماء او يؤكل مركزا مع الخس
الخوشاب : شراب خفيف حامض  - حلو
الصاوغ لوغ  : كلمة تركية تطلق على الفواكه المطبوخة كالتفاح والعنجاص والخوخ وتحلى بالسكرالذائب بالماء ( الشيره ) وكلها من مكملات موائد رمضان

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع