"التحوّل في سياسات اللجوء البريطانية: دراسة في ضوء المبادئ الدستورية والالتزامات الدولية"

د.أنور أبوبكر كريم الجاف

"التحوّل في سياسات اللجوء البريطانية: دراسة في ضوء المبادئ الدستورية والالتزامات الدولية"

تمضي المملكة المتحدة في اتجاهٍ تشريعي جديد لإعادة تشكيل منظومة اللجوء والهجرة، وهو اتجاه يعبّر عن إرادة سياسية كما يَظهر من الخطاب الرسمي تسعى إلى ضبط الحدود وتقليص الدخول غير النظامي مع إعادة ترتيب العلاقة بين السيادة البرلمانية والتزامات الدولة الدولية، ويقتضي هذا التحوّل قراءة قانونية دقيقة تُوازن بين مبدأ سيادة البرلمان (Parliamentary Sovereignty) بوصفه حجر الأساس في الدستور البريطاني، وبين مبدأ سيادة القانون (Rule of Law) الذي يجعل السلطة التنفيذية مقيدة بضوابط دستورية واتفاقية لا يمكن تجاوزها بإرادة منفردة.

وتسعى الحكومة من خلال إصلاحاتها الأخيرة إلى تحويل ملف اللجوء من إطار “الحماية” إلى إطار “الضبط الأمني”وهو ما يتجلى بوضوح في توظيف مصطلحات سياسية مشحونة مثل “الوافدين غير القانونيين” و “النظام الخارج عن السيطرة”. هذه اللغة ليست مجرّد توصيف، بل هي استراتيجية سياسية تهدف إلى خلق غطاء شعبي يُمكّن الحكومة من تمرير تشريعات أكثر صرامة في التعامل مع طلبات اللجوء، وتسريع إجراءات الرفض، وتوسيع قوائم “الدول الآمنة”، والحد من فرص الاستئناف.

غير أن هذا السلوك التشريعي يصطدم بعدّة قيود قانونية، أبرزها ما نصّت عليه اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين من عدم جواز معاقبة طالب اللجوء بسبب طريقة دخوله¹ وما رسّخته اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية من ضمانات تتعلق بالكرامة الإنسانية وحظر الإعادة القسرية² فضلًا عن أن قانون حقوق الإنسان البريطاني لعام 1998 يجعل المحكمة العليا والمحاكم الأدنى ملتزمة بتفسير التشريعات بطريقة متوافقة مع الاتفاقيات الدولية ما لم يقضِ البرلمان بإلغائها صراحة³. ولعلّ سقوط “خطة رواندا” أمام المحكمة العليا⁴ يُجسّد هذا التوتر بين الإرادة السياسية والقيود الدستورية.

أمّا من حيث الأثر الواقعي فإن أكثر الفئات تضرّرًا من هذه السياسات هم القادمون من مناطق الصراع في الشرق الأوسط: العراق وسوريا والمناطق الكردية. فبينما تُعد بعض مناطق العراق وإقليم كردستان “آمنة” وفق المنظور الحكومي فإن القضايا الفردية المرتبطة بالتهديدات السياسية والاضطهاد الديني أو القومي والنزاعات العشائرية وتهديدات الميليشيات تظلّ خاضعة لمنظومة الحماية الدولية ولا يجوز إسقاطها بموجب افتراضات عامة عن الأوضاع الأمنية.
وينطبق الأمر نفسه على السوريين الذين على الرغم ارتفاع معدلات قبولهم تاريخيًا قد يواجهون تضييقًا إجرائيًا إذا دخلوا عبر قنوات غير نظامية مع بقاء استحالة إعادتهم إلى سوريا عقبة قانونية أمام الحكومة، وتبقى ملفات الكورد من أكثر الملفات حساسية نظرًا لطبيعة الاضطهاد القومي والسياسي الذي يواجهونه في أكثر من دولة.

وعند مقارنة النهج البريطاني بنهج الاتحاد الأوروبي تتأكد ملاحظة أساسية: بريطانيا تتجه نحو خطابٍ سياسي صارم دون امتلاك أدوات تنفيذية فعّالة في الترحيل، بينما تمتلك أوروبا أدوات قانونية أقوى مثل لائحة دبلن التي تمكّنها من إعادة طالبي اللجوء إلى بلد الدخول الأول. ومن ثمّ، فإن معظم الإصلاحات البريطانية تبدو أقرب إلى “الإعلان السياسي” منها إلى السياسة القابلة للتطبيق الواقعي.

ومجمل القول: إن مستقبل نظام اللجوء في المملكة المتحدة لن يُبنى على خطاب التحذير من موجات الهجرة، بل على تحقيق توازن دقيق بين مقتضيات الأمن القومي من جهة، وضمانات الحماية الإنسانية التي تشكل روح منظومة القانون الدولي من جهة أخرى. فالقانون الذي يستمد شرعيته من الدستور والعرف والاتفاقيات الدولية لا يمكن أن يتحوّل إلى أداة طرد أو ردع دون أن يفقد جزءًا من قيمته الأخلاقية ومشروعيته. ومن ثمّ، فإن أي إصلاح ناجح يجب أن يستند إلى تقييم فردي دقيق لحالات طالبي اللجوء، وضمان مسارات آمنة ومنظمة للدخول، بدلاً من الاكتفاء بالردع الخطابي أو الحلول الإجرائية المشكِلة.

الهوامش :
1. المادة (31/1) من اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين: “لا تعاقب الدول المتعاقدة اللاجئين بسبب دخولهم أو وجودهم غير القانوني.”

2. المادة (3) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان: “لا يجوز تعريض أي إنسان للتعذيب أو للمعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة.” وتتفرّع عنها قاعدة حظر الإعادة القسرية (Non-Refoulement).

‏3. Human Rights Act 1998، المواد (3) و (4)، المتعلقة بالتفسير المتوافق وإصدار إعلان عدم الاتساق (Declaration of Incompatibility).

4. حكم المحكمة العليا البريطانية (November 2023) بشأن عدم قانونية خطة ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، لعدم ضمانات الأمن والإجراءات القانونية الواجبة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1096 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع