صفوة فاهم كامل
رحيل آخر شاهد على زمن العائلة المالكة في العراق
مساء يوم 7 تشرين الأول 2025 لفظت المرحومة رازقيّة بنت صالح بن هاشم أنفاسها الأخيرة في بغداد بعد تسعة عقود قضتها في العراق، بوصفها آخر شاهد حيّ على حياة العائلة المالكة العراقية وربيبتهم منذ ولادتها في الحجاز عام 1936، لتعيش طفولتها وصباها في أروقة قصر الرحاب في كنف الأمير عبد الإله وشقيقاته ووالدتهم الملكة نفيسة، ثم في رعاية الملك فيصل الثاني.
كانت (رازقيّة) قد نجت بأعجوبة إلهية من مجزرة دموية وقعت في ذلك القصر صبيحة 14 تموز 1958، راح ضحيتها فيها أيضاً شقيقها عبد الرزاق، الحارس في قصر الزهور، وما يزال مكان دفنه مجهولًا حتى اليوم. وبعد تلك الفاجعة، عاشت حزينة غريبة، إلى أن احتضنتها أسرتا القيماقجي والخضيري العريقتين، فأنقذوها من وحدتها، وعاشت بينهم ما تبقى من عمرها مكرّمة ومعزّزة، ترعى أولادهم وتنعم بالسكينة والسعادة كأي فرد من أفراد العائلة، لولا ذلك الجرح الغائر في ساقها، والفراق الكبير لمتبنّيها الذي ألمّ بها في ذلك اليوم الحزين.
تلقت (رازقيّة) تعليمها الأولي في مدرسة السعدون الابتدائية، ثم أكملت دراستها الثانوية، ما أهلها للحصول على الجنسية العراقية. وبناءً على نصيحة ربيبتها الجديدة السيدة مائدة الخضيري وزوجها السيد أنور القيماقجي، فقد التحقت بمعهد التجارة، وأنهت دراستها العليا وتخرّجت فيها بتفوّق، لتأخذ في نهاية الستينيات مكانها الوظيفي في الحكومة كمحاسب في وزارة الصحة، وتكمل سنوات الخدمة المقررة قبل أن تُحال إلى التقاعد في التسعينيات وتنال لقاء خدمتها الطويلة راتباً تقاعدياً مجزياً.
وفي السنوات الأخيرة من عمرها وبعد أن بلغ بها العمر عتيّا، ومع وفاة حاضنتها المرحومة مائدة الخضيري انتقلت (رازقيّة) إلى إحدى دور رعاية المسنين الحديثة والعائدة إلى إحدى كنائس بغداد لتنعم برعايتهم الصحيّة واهتمامهم الفائق، حتى توفاها الله.
وفي اليوم التالي لوفاتها ونيابةً عن الأسرة ووفاءً لها، تولّى السيد مؤيد القيماقجي وابنه السيد عمر، دفن جثمان الفقيدة في مقبرة الكرخ، وفق مراسم إسلامية شرعية لائقة، حيث وُورِيَت الثرى هناك، على أن يقام لها لاحقاً مجلس عزاء.
ظلّت (رازقيّة)، منذ مأساة 14 تموز وحتى وفاتها، صامتة، كاتمة لا تنبس ببنت شفة عمّا يتعلق بحياتها في قصر الرحاب، ولم تُفصح يوماً لأي أحد عن أي معلومة تخص حياة تلك العائلة أو تفاصيل عمّا جرى صبيحة ذلك اليوم المشؤوم.
لكن (رازقيّة) كانت في كل 14 تموز من كل عام، تلتزم بطقوس خاصة، طقوس لا يعرف تفاصيلها أحد؛ إذ كانت تدخل إلى مضجعها وتوصد بابها من الصباح حتى المساء، يُسمع خلالها أنين وتأوّه يُدمي القلب، إلى أن أسلمت الروح ورحلت ومعها تلك الأسرار، لتظل دفينةً في قبرها إلى الأبد.
رحمها الله واسكنها فسيح جناته وعطّر بالطيب ثراها... وإنا لله وإنا إليه راجعون.
625 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع