عوني القلمجي
انتخابات الأصابع المبتورة
بلجوئهم لخيار الانتخابات، لن يحصد فاقدو الشرعية في العراق، غير مزيد من اللاشرعية وهم في طغيانهم يعمهون. ليس هذا فحسب، بل ويدفعون الناس للكفر بكل ما يمت للسياسة والسياسيين بصلة. خاصة إذا تعلق الامر بمن أنجبهم زنى سياسي معلن بين واشطن وطهران، لتجريف دولة كانت تتدرج في بناء مؤسساتها ومدنيتها، دولة كان اسمها العراق.
ان تحرم من الطعام خير من تناول طعام سام. حكمة تصلح لكل الأيام. فالعراقيون الذين حرموا لعقود طويلة من خيار الانتخابات، التي لا سلطان عليها من مغتصبي السلطة، لم يزدهم زمن الاحتلالين الأمريكي والإيراني غير الياس منها. لكن بالرغم من ذلك، يعد عملاء المحتل العدة في ظل ميليشياتهم المسلحة وتهريج المرتزقة، لتسويق خيار الانتخابات وفق مسطرتهم كالعادة. مهللين بعبارات سامها الناس، مثل العرس الانتخابي والصناديق الخضراء والاصابع البنفسجية، التي تمنى بترها عدد غير قليل من الذين شاركوا بالانتخابات بعد ان اكتشفوا غفلتهم.
يتأمل هؤلاء العملاء من اغراق الناس في وعود وردية وتسطيح وعيهم، زج أكبر عدد ممكن للمشاركة في الانتخابات، لإضفاء صفة الشرعية على فوزهم المقرر سلفا. خاصة وان نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة كانت متدنية جدا، بحيث لم تتجاوز نسبة 9 %. الامر الذي تطلب صرف مئات الملايين من الدولارات على ضعاف النفوس والجياع وعلى شيوخ ورؤساء العشائر، لشراء أصواتهم. كما يعمد هؤلاء العملاء عبر ما امتلكوه من وسائل اعلام، لتجميل الوجه البشع لانتخاباتهم التي لا تفضي الا لفوزهم بالطبع. ومما يلفت الانتباه التوظيف الرخيص للمرجعيات الدينية في كربلاء والنجف، عبر خطب يوم الجمعة وما تنطوي عليها من حملات تضليل وخداع، لتشجيع الناس على الاشتراك بالانتخابات، او إصدار الفتاوى بخصوصها، فهي الحارس الأمين لهؤلاء الأشرار وعمليتهم السياسية والمتستر على جرائمهم وسرقاتهم. وهي الطرف الأكثر شراسة في لجم المنتقدين وثرم الالسنة وحشر الناس في خانة الشلل العام وتعطيب زمنهم وتفخيخ المكان تحت اقدامهم، في أبشع مصادرة لمصائر البشر. في حين تتنافس الشخصيات والأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية، على برامج سياسية واقتصادية واجتماعية، تخدم الوطن والمواطن، وبأساليب سلمية وحضارية.
كما لم ينس هؤلاء الأشرار، استغلال مواقف بعض الاقلام الوطنية وبعض المثقفين والسياسيين، الذين يروجون للاشتراك في الانتخابات، بصرف النظر فيما إذا كانت النوايا حسنة ام سيئة، حيث يقوم هؤلاء الوطنيون بدعوة الناس للاشتراك بالانتخابات، تحت ذريعة، مساعدة الوطنيين على الفوز في عضوية مجلس النواب، وتشكيل حكومة وطنية، او قوة فاعلة تنقذ العراق من محنته عبر اصلاح العملية السياسية من داخلها! على الرغم من ان اخبار هؤلاء الوطنيين الذين فازوا في الانتخابات السابقة، قد ضاعت بين المكاسب والمغريات، التي حصلوا عليها، ولم نسمع منهم شيئا.
لا علاقة للانتخابات في العراق أيها الناس، بأية انتخابات تجري في البلدان الديمقراطية، بأدنى اشكالها وصورها. ففي هذه الدول التي تعتمد النظام البرلماني، كما هي الحال في العراق، يقوم الفائز بمفرده او مع حلفائه بتشكيل الحكومة، ويقبل الخاسر بموقع المعارضة، لتكون مهمته مراقبة اداء الحكومة ومحاسبتها واستغلال اخطائها، او تقصيرها، على امل الفوز بالانتخابات القادمة. اما في العراق، فيجري تشكيل الحكومة وفق مقولة المشاركة لجميع القوى والأحزاب والشخصيات التي فازت بالانتخابات، ولكن ليس على أساس المشاركة الوطنية، وانما على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. بحيث يكون نصيب رئاسة الجمهورية "للمكون الكردي" ورئاسة الحكومة "للمكون الشيعي" ورئاسة البرلمان "للمكون السني". بل ان المحاصصة تصل الى داخل كل "مكون". فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان حصة رئيس الجمهورية من نصيب الاتحاد الوطني الكردستاني، مقابل انفراد الحزب الديمقراطي الكردستاني بمنصب رئاسة الإقليم، وهكذا بالنسبة لبقية المناصب السيادية وغير السيادية التي تخص "المكونات الأخرى". إضافة الى ذلك، قانون الانتخابات المعوج ومفوضيتها المرتشية وحجم التزوير العلني في نتائجها، الى درجة يتمكن معها كل حزب او جهة، او حتى مرشح واحد شراء صناديق مراكز محافظة بكاملها.
اما أكبر فضائح الانتخابات، فهو تدخل المحتل في تحديد المناصب السيادية، بصرف النظر عن النتائج التي تفرزها صناديق الاقتراع. فعلى سبيل المثال استبدل المحتل الفائز في انتخابات 2005 إبراهيم الجعفري بنوري المالكي. واستبدل الفائز في انتخابات 2010 أياد علاوي بنوري المالكي، واستبدل الفائز في انتخابات 2014 نوري المالكي بحيدر العبادي. وفي انتخابات 2018 عين عادل عبد المهدي رئيسا للوزراء، وهو لم يرشح أصلا للانتخابات. وأخيرا نصب محمد شياع السوداني رئيسا للوزراء من قبل الإطار التنسيقي، على حساب الفائز في الانتخابات مقتدى الصدر. الامر الذي لا يسمح لأية محاولة من قبل أي جهة مستقلة داخل البرلمان، للقيام باي اصلاح حتى وان كان متواضعا. حيث ستصطدم بالحيتان الكبيرة التي ليس من مصلحتها اجراء اي اصلاح، مهما كان متواضعا. وستصطدم ايضا بالدستور الذي يحمي هذه العملية السياسية الطائفية من اي اختراق، والذي لا يمكن تعديله او تعديل اية مادة فيه تضر بمصالح اي طرف فيها، لامتلاكه ما يشبه حق الفيتو وفق الفقرة الرابعة من المادة 142 من "الدستور الدائم"
يدعي البعض بان الإصرار على هذا الاستنتاج مجحف ومرفوض، كونه ليس قدرا محتوما، وانما بالإمكان تغيير نظام المحاصصة الى نظام الاغلبية والاقلية، اي حزب حاكم واخر معارض. وقد أعلن بعض المرشحين عن هذا التوجه. فنوري المالكي رئيس كتلة القانون مثلا، قد ادعى في دعايته الانتخابية بانه لن يشكل حكومته الثانية وفق نظام المحاصصة، وانما وفق ما سماه "استراتيجية جديدة لإنقاذ العراق" تتمحور كما قال حول "تشكيل حكومة ذات اغلبية سياسية، تتجاوز نقاط ضعف ومشاكل حكومة الشراكة الوطنية، وصولاً الى تحقيق تطلعات الشعب العراقي في تثبيت الامن والاستقرار والتنمية الاقتصادية، كونها ستنطلق من اعتبارات المصالح الوطنية العليا وليس من خلفية طائفية أو قومية".! لكن بعد فوزه بالانتخابات تراجع عن كل وعوده. ولم يكن مقتدى الصدر اقل منه في هذا الموضوع. حيث تحالف مع أكبر قوة كردية هي، الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني، ومع رئيس أكبر كتلة سنية بزعامة رئيس مجلس النواب آنذاك محمد الحلبوسي. وعلى الرغم من فوز مقتدى الصدر الساحق، انسحب من السباق، وترك لخصومه تشكيل حكومة على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية.
لنفترض لا وجود لقدر محتوم في السياسة من حيث المبدأ، وانما بالإمكان حدوث تغيير حتى في عقول الناس وتوجهاتهم. وأحيانا قد تضطر جهة حاكمة الى التغيير لضمان بقائها في السلطة. لكننا نجادل وبقوة بان وجهة النظر هذه تتطلب، أكثر من اي وقت مضى، النظر الى الوقائع الفعلية ومعالجتها كما تجري حقا وليس كما تبدو او نتمنى احيانا ان تبدو. فاذا حدث وجرى تشكيل حكومة تعتمد نظام الاغلبية والاقلية، فهذا ستصطدم مع الارادة الامريكية واصرارها على ترسيخ المحاصصة الطائفية لأسباب معروفة. وقد نجد انعكاسا لهذه الحقيقة في تصريحات جميع القادة الأمريكيين واخرهم دونالد ترامب، بصفتهم رعاة العملية السياسية رسميا وقانونيا، التي يؤكدون فيها لرئيس الوزراء القادم، بان تشكيل الحكومة الجديدة، يجب ان ترضي جميع الاطراف وتكون حكومة شراكة للجميع، وهذه التوصية في حقيقتها وبهذه الصيغة، هي كلمة السر للمحاصصة الطائفية. وقد اثبتت الوقائع والاحداث بان حكوماتنا العتيدة لا تجرؤ على رفض طلب امريكي بهذا المستوى، لأنها حكومات احتلال، تعمل من اجل المحتل وليس من اجل شعوبها، وبالتالي ليس بإمكانها الاعتراض او حتى تقديم المقترحات. الم يعترف احمد الجلبي، بالصوت والصورة، بان حكومة المالكي الثانية قد جرى تشكيلها في السفارة الامريكية بحضور جميع الاطراف وفق نظام المحاصصة البغيض؟
دعونا نسترسل أكثر ونفترض بان المالكي او الصدر او غيره تجرا، بقدرة قادر، على طرح مثل هذه التعديلات الجوهرية، ترى من سيوافق على ذلك؟ هل هو تيار مقتدى الصدر؟ حزب الفضيلة؟ فيلق بدر؟، حزب الدعوة؟ مجلس عمار الحكيم؟ وإذا افترضنا موافقة كل هؤلاء، فهل ستوافق الاحزاب الكردية، المستفيدة رقم واحد من الدستور ونظام المحاصصة، وهي التي تملك بيدها حق استخدام الفيتو الذي منحه الدستور لها ضد اي تعديل ؟، ثم من له الجرأة او الاستعداد لان يضع نفسه في مواجهة امريكا، وهي الحريصة اشد الحرص على تكريس نظام المحاصصة هذا وعدم المساس به لا من حيث الجوهر ولا من حيث الشكل؟
سنفترض وجود دولة في العراق، تتوفر فيها حكومة ووزارات وبرلمان وجيش وشرطة وقضاء ومحاكم الخ، لكن الا يدخل كل ذلك في نطاق مكونات الدولة، وليس مقوماتها. ومعلوم حجم الفرق الكبير بين مكونات الدولة ومقومات الدولة. لنأخذ الدستور مثلا، كونه الركن الاول في هذه المقومات، لأنه يمثل الإطار العام للدولة الذي يحدد هويتها، وشكل النظام فيها، وينظم سلطاتها العامة، ويرسم العلاقات فيما بينها، ويضع الحدود لكل سلطة على حدة، ويعين الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويحرص بالمقابل على ضمان استقلال البلد وسيادته الوطنية ووحدة أراضيه، ويحافظ على ثرواته الطبيعة الخ، ترى هل "الدستور الدائم" في العراق، يستحق هذا الاسم؟ ام انه دستور خرب البلاد والعباد باعتراف حتى الموقعين عليه؟ وحتى إذا توفرت ظروف وجود دولة كبقية الدول، ترى الا يتطلب الاصلاح والتغيير الذي راهن عليه المنتخبون، ان يكون العراق دولة وطنية مستقلة وذات سيادة وتملك قرارها المستقل ولا تخضع لأجندات خارجية، وان القائمين عليها رجال يتصفون بالوطنية والاخلاص والنزاهة، وليسوا عملاء ومرتزقة وعمائم مزيفة، ليكونوا بمستوى القيام بهذه المهمة النبيلة؟
جراء هذه الحالة المزرية، التي وصلت اليها العملية السياسية، والسقوط السياسي والاخلاقي لعملاء الاحتلال، والدمار والخراب الشامل الذي عم البلاد بسببها، والفواحش والجرائم التي ارتكبت بحق الناس، والعجز في تقديم الخدمات والامن، الى جانب حالة الاستياء التي عمت الشعب العراقي ضد هذه العملية وجلاوزتها، وبسبب عدم القدرة على التغيير من داخل العملية السياسية، جراء ذلك كله، فان اي مراهنة على الانتخابات توخيا للتغيير، ضرب من الخيال، بل يدخل في خانة المستحيلات. ولهذه الأسباب وغيرها فان الاشتراك في انتخابات الأصابع المبتورة، يعني التوقيع بالعشرة على شرعية ان يصادر الاوغاد البلاد دولة ومجتمعا، والتدليس على اعوجاج قانونها وطائفية لجانها وانحياز مفوضيتها وتواطؤ المشرفين على صناديقها. ويعني ايضا، المصادقة مقدما على نتائجها، التي ستكون كلها من حصة ذات الوجوه الكالحة، ومهما جرى تزويق هذه الانتخابات او تجميلها بكل مساحيق العالم، لن تكون سوى نسخة طبق الاصل من الانتخابات التي سبقت، مما يستوجب رفض المشاركة فيها من قبل شرائح المجتمع كافة.
عوني القلمجي
3/9/2025
1669 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع