عبدالعزيز الشريف
من الواقع إلى الأيقونة: تحولات الشر الأنطولوجي في جرائم القاتل إد جين وتمثيلاتها الثقافية ((2025-1957
تشكل جرائم إد جين نموذجاً لإشكالية الشر الأنطولوجي، حيث تتجاوز هذه الجرائم تفسيرها كمجرد انحراف أخلاقي عابر لتكشف عن شر متجذر في صميم الوجود الإنساني، وهو ما دفع ألفريد هيتشكوك لاحقاً إلى استلهام هذه الجرائم في شخصية نورمان بيتس ضمن فيلم Psycho (1960)، مما مثل تحولاً سيميائياً نقل الشر من واقع تاريخي موثق إلى تمثيل سينمائي رمزي، حيث تحولت الواقعة الفردية إلى علامة ثقافية مفتوحة على التأويلات المتعددة والمُعاد إنتاجها جماهيرياً… وبعد أكثر من ستة عقود، يأتي مسلسل Monster: The Ed Gein Story (2025) ليعيد فحص هذه الإشكالية من خلال العودة إلى الجريمة الواقعية، حيث يمارس المسلسل ميتا-تأويل نقدي يفحص المسافة بين الجريمة التاريخية وأيقونتها الثقافية، مما يخلق دائرة هيرمينوطيقية تبدأ من الواقع المعيش لتمر بالتمثيل الفني وتصل إلى التأمل النقدي الذاتي.
إن إدوارد "إد" ثيودور جين (1906-1984) يتميز عن القتلة المتسلسلين الآخرين في طبيعة أفعاله التي تجاوزت القتل إلى تحويل الجثث البشرية إلى أدوات وظيفية وجمالية، حيث كان يصنع من الجماجم أوعية، ومن الجلد البشري ملابس وأقنعة، ومن عظام النساء أثاثاً منزلياً، وهذا التحويل للإنسان إلى شيء يمثل نقضاً للإنسانية في أصلها الأنطولوجي يتجاوز مجرد العنف… أما نبش جين للقبور (حوالي 40 زيارة ليلية لثلاث مقابر بين 1947-1952) فإنه يشير إلى علاقة مضطربة مع الموت نفسه كنقطة انتقال لاستمرار الاستخدام بدلاً من كونه حدثاً نهائياً، وعندما استلهم ألفريد هيتشكوك شخصية نورمان بيتس من جرائم جين، حدث تحول جذري في طبيعة تمثيل الشر، إذ لم يعد هيتشكوك يعيد سرد الواقعة، وإنما استخلص البنية الأسطورية للجريمة.
قدم فيلم المخرج هيتشكوك الجريمة كبنية نفسية قابلة للتكرار بدلاً من تقديمها كحدث تاريخي، فأصبح نورمان بيتس نموذجاً أولياً للقاتل المضطرب نفسياً، وهو ما سمح للجمهور باستهلاك الشر دون مواجهة رعبه الحقيقي، كما ألهم إد جين شخصيات أخرى منها ليذر فيس في مجزرة منشار تكساس (1974) وبافالو بيل في صمت الحملان (1991)، حيث استخلصت كل شخصية عنصراً محدداً من جرائم جين: الأقنعة الجلدية، العلاقة المضطربة مع الأم، تحويل الجسد البشري إلى مادة خام… ويمثل المسلسل الجديد Monster: The Ed Gein Story (2025) عودة نقدية إلى الحدث الأصلي، فعندما يقول تشارلي هونام: "أردت الاقتراب قدر الإمكان من شخصية إد الحقيقية... هذا سيكون الاستكشاف الإنساني والرقيق واللامتحفظ لمن كان إد"، فإنه يعلن عن مشروع العودة إلى ما قبل الأيقونة.
تتشكل الدائرة الهيرمينوطيقية من مراحل متتالية: الحدث الأصلي (جرائم إد جين في الخمسينيات)، ثم التمثيل الأولي (سايكو ومجزرة منشار تكساس في الستينيات والسبعينيات)، يليها الأيقونة الثقافية (استهلاك جماهيري للشر المُمَأسَس)، وصولاً إلى العودة النقدية (Monster 2025 - فحص المسافة بين الحدث والتمثيل)، والسؤال الأساسي يكشف عن التناقض الجوهري في علاقتنا مع الشر: هل نحن قادرون على مواجهة جوهره، أم أننا مجرد مستهلكين لصوره المعاد إنتاجها ثقافياً؟ وتتدرج مستويات الاستهلاك الثقافي للشر من الاستهلاك الآمن (مشاهدة أفلام الرعب كترفيه)، إلى الفضول المرضي (البحث عن تفاصيل الجرائم الحقيقية)، إلى التطهر النفسي (استخدام الرعب لمواجهة مخاوفنا الداخلية)، وصولاً إلى التأمل الفلسفي (فهم الشر كجزء من الحالة الإنسانية).
إن إعادة إنتاج قصة إد جين في 2025 تطرح سؤالاً أخلاقياً معقداً: هل تشريح الشر يساعد على فهمه أم على تطبيعه؟ كلما زادت دقة التمثيل، كلما اقتربنا من خطر الانبهار بالرعب بدلاً من فهمه، وجرائم إد جين تستمر في إثارة الاهتمام بعد سبعة عقود لأنها تكشف عن الشر كمعطى أنطولوجي يتجاوز مجرد الانحراف الاجتماعي، إنها تواجهنا بحقيقة أن الوحشية تنتمي إلى الطبيعة البشرية كعنصر كامن فيها. والمسلسل الجديد، من خلال عودته إلى الحدث الأصلي، يدعونا لمواجهة هذه الحقيقة بدلاً من الاكتفاء باستهلاك نسخها المخففة، وهكذا تظل قضية إد جين نموذجاً لدراسة تحولات الشر من حدث تاريخي إلى نص ثقافي مفتوح على التأويلات المتعددة، فإن عودة الاهتمام بهذه القضية في عام 2025 تمثل بحثاً عن فهم أعمق لطبيعة الشر في زمن تتزايد فيه أشكال العنف الرمزي والمادي، وربما يكون السؤال الحقيقي حول قدرتنا على مواجهة الشر دون أن نصبح جزءاً منه.
إن إشكالية الشر في قضية إد جين تبقى مفتوحة لأنها تمس جوهر الإنسان ذاته أعني تلك المنطقة الرمادية حيث تلتقي الحضارة بالوحشية، والحب بالدمار، والطبيعي باللاطبيعي.
1674 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع