فارس الجواري
دوامة العائدية القطاعية تربك مستقبل المطارات العراقية
تمثل المطارات الواجهة الاقتصادية والاستراتيجية للدولة لاسهامها في تعزيز حركة النقل الجوي والتجارة والسياحة فيها غير أنّ المشهد الإداري في المطارات العراقية يواجه ومنذ سنوات إشكالية مزمنة تتعلق بتعدد العائدية القطاعية وتداخل الصلاحيات بين الجهات الرسمية المعنية مما انعكس سلبًا على كفاءة الإدارة في جميع المطارات الحكومية العراقية بل وعرقلت جهود التطوير والتحديث فيها بشكل يدعو الى طرح التساؤلات حول مدى وضوح الإطار المؤسسي المنظم لهذا القطاع الحيوي في العراق والذي جعلها تعيش في دوامة لا تنتهي من الجدل حول الجهة التي تمتلك حق إدارتها وتشغيلها هل هي وزارة النقل أم سلطة الطيران المدني أم هيئة المستشارين في رئاسة الحكومة من حيث توزيع الصلاحيات وتشابك المسؤوليات طوال الفترة الماضية والتي استمرت لاكثر من عقدين من الزمن ليبقى المواطن والمسافر العراقي يعاني من سوء الخدمات وسوء التنظيم وايضا أصبحت هذه المطارات الحكومية رهينة نزاعات إدارية عطّلت الاستثمار والتطوير فيها بشكل واضح بدل أن تكون أي المطارات بوابات للتنمية والانفتاح.
منذ عودة قطاع الطيران المدني العراقي إلى نشاطه عام 2008 بعد توقفه الذي أعقب الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 كانت المطارات العراقية تدار من قبل سلطة الطيران المدني العراقي ضمن هيكلية وزارة النقل في مخالفة قانونية دولية لمبدأ استقلالية سلطات الطيران التي تفرضها اللوائح الدولية والذي استمر حتى عام 2018 عندها أصدرت الحكومة قرار بفصل سلطة الطيران المدني عن وزارة النقل وهو التاريخ الذي بدأت فيه أزمة العائدية القطاعية للمطارات العراقية فمنذ ذلك الحين ولسبب غير معلوم دخلت وزارة النقل وسلطة الطيران المدني في تنافس واضح على إدارة وتشغيل المطارات الحكومية اي مطارات بغداد والبصرة والموصل وحتى عند طرح فكرة إنشاء المطار الحكومي الرابع في الناصرية ظلت الموافقات تتأرجح بين الجهتين دون حسم واضح إلى أن اتخذت الحكومة العراقية عام 2023 قرارًا بفصل المطارات عن سلطة الطيران المدني العراقي بتوصية دولية كونها تعتبر مخالفة لقوانين الطيران عندما يدير المراقب مؤسسته , إلا أن هذا القرار فتح بدوره فصلًا جديدًا من الغموض الإداري والتخبط التنظيمي إذ تم ربط المطارات العراقية إداريًا بشركة الملاحة الجوية العراقية بعد ان كان من المفروض انشاء شركة خاصة بها على غرار شركة الخطوط الجوية العراقية وشركة الملاحة الجوية مما جعل المطارات العراقية تعيش حالة عدم استقرار وتنوع مصدر القرار بين جهات عدة منها قريبة لصاحب القرار والتي كانت تعمل على بلورة فكرة خصخصة المطارات الحكومية ماليا وتقنييا في سابقة لم نشهد لها في علوم الادارة كون أن المطارات مؤسسات اتاجية ذات ربحية ولكنها تعاني من نقص في الخدمات التخصصية نتيجة عدم وجود ادارة متخصصة تعمل على استغلال هذه الاموال لتقديم الخدمات المتميزة بشكل صحيح وهنا الحديث يكون تحديدا على مطار بغداد الدولي حيث كانت المفاجأة انه وبعد اقل من عام وقبل نهاية عام 2024 قررت الحكومة العراقية فجأة بفصل المطارات عن شركة الملاحة الجوية وإعادتها مجددًا إلى وزارة النقل ضمن هيكلية دائرة إدارية .
هذه التحولات الدراماتيكية المتكررة في إدارة المطارات العراقية والتي عكست غياب رؤية تطويرية واضحة لهذا المرفق الحيوي الذي يمثل بوابة البلاد الاقتصادية والخدمية تجلت آثارها في غياب التخصيصات المالية لمطار بغداد الدولي بحجة انتظار نتائج مفاوضات مؤسسة التمويل الدولية (IFC) التي اصر الكثير من القريبين لمصدر القرار أن تحال لهم في اعداد خطة التطوير والتشغيل في مطار بغداد منذ قرابة السنة ولم يتم حسم هذا الملف لحد الان بل ان هذا التلكأ انتقل الى مطار حكومي اخر وهو مطار الموصل الذي ينتظر ومنذ اشهر ان يتم تشغيله بعد الانتهاء من اعمال التاهيل والبناء فيه بسبب عدم وصول لجنة الخصخصة حول الاحالة لقرار عن اي الشركات ستقوم بإدارة وتشغيل المطار.
إنّ ما تمرّ به المطارات العراقية من اضطراب في العائدية وتغيّر مستمر في تبعيتها الإدارية لا يمكن معالجته عبر الخصخصة أو الحلول المؤقتة بل من خلال بناء نموذج وطني متكامل لإدارة وتشغيل المطارات يستند إلى الكفاءة والحوكمة والمساءلة , حيث يمكن ان اقتراح مجموعة من الخطوات الواقعية القابلة للتنفيذ من خلال هذه المقالة وعلى شكل نقاط أضعها امام من له علاقة بأصلاح وتنظيم هذا القطاع تتلخص بما يلي
إنشاء "شركة المطارات العراقية" كشركة عامة مستقلة ترتبط بمجلس استشاري اعلى للطيران المدني في العراق مباشرة يضم من الخبرات التخصصية التي تستطيع من خلاله رسم سياسات اصلاحية واقعية في هذ االمجال على أن تُدار وفق قانون الشركات العامة وليس بنظام الدوائر الحكومية التقليدي.
اعتماد نظام مجلس إدارة مهني يضم ممثلين من وزارات النقل والمالية والتخطيط والقطاع الخاص (كمستشارين دون امتلاك) لضمان قرارات مهنية بعيدة عن الضغوط السياسية.
تطبيق نموذج “الإدارة الذاتية للمطار” (Airport Authority Model) كما هو معمول به في العديد من الدول بحيث يمنح كل مطار استقلالًا إداريًا وماليًا نسبيًا ضمن الإطار العام للشركة الوطنية مع مراقبة الأداء والموازنات.
الاستعانة بخبراء محليين او دوليين لإعادة هيكلة أنظمة العمل والتشغيل وتدريب الكوادر العراقية دون الحاجة للتفريط بالملكية العامة أو نقل السيطرة إلى مستثمرين خارجيين.
المطارات ليست مجرد مباني خدمية بل هي واجهة الدولة الأولى أمام العالم وان أيّ ارتباك في إدارته ينعكس مباشرة على اقتصاد البلد وصورته الدولية لذا أرى أن الحل الحقيقي يكمن في الإصلاح المؤسسي الرشيد الذي يعتمد بناء جهاز وطني كفوء قادر على إدارة مطارات العراق بمعايير عالمية وسيادة كاملة لا في نقله إلى القطاع الخاص .
تشرين الاول 2025
1123 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع