ذو النورين ناصري زاده
بين ادعاء الوفاء بالعهد وبين خيانة الوعد..يقف "فاقد الشيء" واعظا
في زمنٍ تُباع فيه الخطب على أرصفة المنابر وتُشترى فيه العناوين بالأصوات، يخرج علينا من يتدرّع بلفظ “الوفاء” ويتوشّح بآيات “الأمانة”، كأن الفضيلةُ بيانٌ يُتلى لا عهدٌ يُوفى. تتقدّم الخُطَبُ مشهداً فيما تتأخّر الأفعالُ حقيقةً، ويُرفع لواء المكارم على سارياتٍ من زيفٍ وذاكرةٍ مُخترقة. هنا يتبدّى التناقضُ فاضحاً: من خلع العهد بالأمس يتحدّث اليوم باسمه، ومن بدّد الوديعة ينصّب نفسه قيّماً عليها. ليست المسألةُ خصومةَ ألفاظ، بل قطيعةَ جوهرٍ بين القول والعمل؛ إذ لا يثبت الشرفُ إلا بدليلٍ عمليّ، ولا تُستعاد الثقةُ بالإنشاء الخطابيّ. وحين يصبح “فاقدُ الشيء” خطيبَ القيم، تغدو البلاغةُ قناعاً، ويغدو التصويرُ “التذكاري” وثيقةَ إدانة. عند هذا المفترق، لا تحتاج الحقيقةُ إلى أكثر من معيارٍ بسيط: ميزانُ الأفعال لا زخرف الشعارات
وفي مسرح السياسة المتلاطم، كثيرًا ما تعلو أصواتٌ تتشدق بالشرف والأمانة، وتتغنى بصون العهود والمواثيق، وتتخذ من خطاب الفضيلة ستارًا تختفي وراءه. لكن الممارسة العملية تكشف، وبقسوة أحيانًا، عن هوة سحيقة بين ما يُرفع من شعارات براقة وما يُقدم من أفعال. يصبح المشهد مُرًا حينما يصدر هذا الخطاب الأخلاقي الرفيع ممن هم "أول من خان العهد، ومن فرّط بالأمانة" على حد تعبير ناقد لاذع.
الأمر يصل إلى درجة السخرية المُرّة، عندما نرى أحد أبناء الأسر التي نعمت بظل سلطة سابقة، في العراق وارتوت من فيض امتيازاتها وافياء ظلالها، يقف اليوم خطيبًا في جمهوره الجديد الذي تشكل على ضوء متغيرات الزمان، يُذكِّرهم بالعهد ويُطالبهم بالوفاء، وكأنه حارسٌ أمينٌ لقيم الجماعة! وهو ذاته – بحسب المشاهد الماثلة – "أول من تنصّل عن العهد وخان العهد". كيف يُطالب بالوفاء من هو منه براء؟ وكيف يتحدث عن الأمانة وقد فرّط فيها؟ إنه التناقج بعينه يجسده شخص واحد.
وليس أدل على هذه الخيانة من الفعل الذي لا يحتمل التأويل. فحين يزور من "ازدرى أهله وقومه، ومن وقف على قبر سيده وتاج رأسه وولي نعمته" – بحسب الوصف – ثم لا يكتفي بذلك، بل يتبارى في إهانة ذلك القبر، ويتخذ من زيارته مناسبة للتصوير "التذكاري" مع من أهان، فهذا ليس مجرد تنصل، بل هو تجسيد عملي للنذالة والخيانة. إنه دليل مادي ملموس على انسلاخ تام عن كل ما يدعيه من مبادئ وقرابات وعهود. هذه الصور ليست تذكارًا، بل هي وثيقة إدانة أخلاقية
وهنا يأتي المثل الشعبي الحكيم ليلخص الموقف ببلاغة لا تقبل الجدل: ان *"فاقد الشيء لا يعطيه"*.اذ كيف لمن هو فاقدٌ لأبسط مقومات حفظ العهد والأمانة والوفاء أن يُحاضِرَ الآخرين بها؟ كيف يمتلك الجرأة ليوزع دروسًا في الاخلاص والعهد وهو قد باع آخر بقايا مروءته وعهده على رؤوس الأشهاد؟ إنه العجز عن إدراك تناقضه، أو الأصح، استهتار صارخ بذكاء الناس وذاكرتهم. إنهم "ينافقون" وهم يظنون أن أقنعتهم تزيّن وجوههم، و"يخونون" وهم يلوحون بشعارات الوفاء.
إن خطاب الفضيلة الذي يصدر عن أناسٍ أثبتت أفعالهم نقيض ما يدعون، هو ليس مجرد نفاق، بل هو إهانة للذكاء الجمعي وإمعان في الخداع. إنهم يطلبون ثقةً قد أضاعوها بأيديهم، ووفاءً خانوه في أول منعطف. وشتان بين من يتكلم عن العهد وهو يحترق غيرة عليه، ومن يتكلم عنه وهو يدوسه بأقدامه ثم يطلب من الآخرين تقديسه. فليعلم كل من يدعي ما ليس فيه، أن الشرف والأمانة والوفاء قيم تُكتسب بالأفعال لا بالأقوال، وتُفقد بالخيانة لا تستعاد بالخطابة الرنّانة. وحين يُفقد الجوهر، تصبح القشرة اللامعة مجرد دليل إضافي على الخواء والزيف. أولئك، وبكل أسف، "خونة لا يُؤتمنون"، ومصير كل من بنى على الزيف هو الزوال، مهما طال تمرده على الحقائق. والوعي الجماعي هو الحصن الحصين ضد خطابهم المائع وأفعالهم المنكرة.
لا يُداوى جرحُ العهد بخطبةٍ مطنطنة، ولا تُرمَّم الأمانةُ بصورٍ مصقولة؛ فالمروءةُ تُعرَفُ عند الامتحان لا عند الاستعراض. سيبقى المثلُ قاطعاً: فاقدُ الشيء لا يُعطيه؛ ومن خان الأمس لا يصنعُ غدَ الثقة. المطلوبُ ميزانُ محاسبةٍ لا منبرُ مباهاة، وذاكرةٌ جمعيّةٌ لا تنخدعُ بالطلاء، تُسجّل الأسماءَ بأفعالها لا بألقابها. لن يستقيمَ الخطابُ إلا إذا عاد إلى أصله: عهدٌ يُصان، ووعدٌ يُنجَز، وولايةٌ تُوزَنُ بمقدار ما تُنقِذُ من حقّ وتدرأُ من باطل. ومن ادّعى ما ليس فيه فزيفُه عليه دائرة؛ فالمجتمعاتُ التي تميّز بين الصوت والصدى، وبين الصورة والجوهر، هي التي تُسقطُ الوصيّ الكاذب وتستردُّ حقَّها في معيارٍ واحد: صدقُ الفعل. حينئذٍ يخفتُ ضجيجُ المنافقين، وتعلو كفّةُ الوفاء، ويُطوى سجلُّ الخيانة حيث ينبغي: في هامشٍ لا يعودُ يقرؤه أحد.
(من خانَ عهدَ الأمسِ لا معنى لتعهده اليوم؛ فالشرفُ فعلٌ، والقولُ بلا وفاءٍ شهادةُ زور.)
722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع