د. علي عبد الرحمن الزعاك
تنانين الجينات البابلية
أسطورة الخلق:
إنيوما إليش Enuma Elish) ) أو ألواح الخلق السبعة — هو الاسم الذي يُطلق على الأسطورة البابلية التي تحكي قصة الخلق، مُستمَدًّا من كلماتها الافتتاحية: (عندما في العلى).
اكتشف الآثاري البريطاني أوستن هنري ليارد (Austen Henry Layard) والآثاري الموصلي العراقي هرمز رسام (Hormuzd Rassam) في 1849 الألواح الطينية للأسطورة الخيالية في آثار مكتبة آشوربانيبال في نينوى ثم ترجمها وطبعها باحث الأشوريات البريطاني جورج سميث (George Smith) في 1871. تتألف الملحمة من ألف سطر تقريبا على سبعة ألواح فخارية باللغة البابلية القديمة. في كل لوح 115 إلى 170 سطرا. ويبدوا إن هدف تدوينها كان لتمجيد مردوخ على حساب المنافسين له باعتباره خلق البشرية من أجل خدمة الآلهة.
تعود نسخة مكتبة آشور بانيبال إلى القرن السابع قبل الميلاد لكن الأسطورة تعود على الأرجح إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد أثناء عصر السلالة البابلية الأولى عندما أصبح مردوخ الإله الوطني لمملكة بابل.
تحكي الملحمة عن البداية، حيث لم يكن هناك سماء ولا أرض، فقط نوعين من المياه، يهيمن على الأولى التنين آبسو (APSO) وهي المياه العذبة والأنهار الساكنة بينما تسيطر التنينة تيامات (TIAMAT)على المياه المالحة والبحار الهائجة. ومن اتحاد هذين ولد الأرباب، ومع الزمن تصاعد الصراع بين الجيل القديم والجديد من هؤلاء، مما أدى إلى معركة حاسمة بين (مردوخ)، الشاب وأمه تيامات ربة الفوضى الأولى.
بابل: بين الأسطورة والعهد القديم:
تتقاطع أسطورة (إنيوما إليش) مع الرواية التوراتية في قصة برج بابل فبينما اعتقد اتباع مردوخ انه (باب-إيلي) أي (بوابة السماء)، جعله العهد القديم رمزًا للبلبلة. أليس غريبًا ذلك التشابه بين كلمتي (Bible) و (Babel)؟ ربما كانت مصادفة، أو ربما كانت إحدى تلك المفارقات التي يحبها التاريخ!
طفرات الفوضى الخلاقة:
بينما تأسرني الأساطير القديمة، فإن شغفي يمتد إلى عالم التطور البكتيري. فالأرض، في حقيقة الأمر، هي كوكب البكتيريا بامتياز. تريليونات منها تعيش في التربة والماء، وتتكاثر في كل ركن تقريبًا، لتصبح الكتلة الحيوية المسيطرة على هذا الكوكب. تعتمد هذه الكائنات الدقيقة على قدرتها الفريدة على التكيف والتطور من خلال الطفرات والآليات الجزيئية الأخرى. وحين بحثت عن طبيعة الطفرات البكتيرية، هل هي فوضوية أم عشوائية؟ اكتشفت حقيقتها الشاعرية حين تنساب تحت ضباب الزمن، إذ يتمُّ التطور بهدوءٍ أشبه بجدول ماءٍ يتدفق بصمت. تطفر (تتغير) تسلسلات الحمض النووي (DNA)في سكون، وقد تؤدي إلى تحوّلات في البروتينات الناتجة عن تشفيرها. هذه التحوّلات قد تكون نعمةً أو نقمةً، حسب الظروف المحيطة فهناك طفرات قاتلة وأخرى مخربة وثالثة صامتة أو حتى مفيدة.
لكن هل تحدث الطفرات خارج الخلايا الحية؟
الطفرات المجتمعية:
فرانتز فانون (Frantz Fanon)..هذا الطبيب والمفكر واصله من جزر المارتينيك في البحر الكاريبي، الذي حارب النازيين في صباه ثم انضم للثورة الجزائرية، رأى في النضال ضد الاستعمار محركًا للتغيير الاجتماعي. لقد كان شخصية ثورية بملامح تشي جيفارا، لكن بريشة فلسفية. يطرح فانون في كتابه استعمار يحتضر (A Dying Colonialism) مفهوم الطفرات المجتمعية التي تحدث أثناء الحروب التحررية. وكان يؤمن أن (التعبئة) ضرورية وهي مرادف (لتحريك) النضال من أجل إنهاء الاستعمار في العالم.
عجيبٌ ذلك التشابه بين مصطلحات علم الأحياء المجهرية والاستعمار! فتجمع البكتيريا يُسمى (مستعمرة)، وغزوها للجسم يُوصف بـ(الاستعمار). وفي حين يعني المصطلح (Culture) الحضارة أو الثقافة (وحتى الزراعة) لمجتمعات تطورت من مستعمرات بشرية أولية، إلا أن المصطلح نفسه يعني مستعمرات (أو مزارع) البكتريا في المختبر، ولن يسعنا أن نقول (ثقافة بكتيرية) طبعا. وعلى عكس المستعمرات البكتيرية التي قد تتفرع وتتماسك سعيا للبقاء، فان التفرعات البشرية الاجتماعية العنيفة قد تؤدي إلى الدمار الذاتي.
الجينات الثورية:
كما تحدث فانون عن (تعبئة الشعوب)، فإن البكتيريا لديها آلية مشابهة! فالجينات يمكن تعبئتها وتحريكها (Mobilization) ونقلها بين البكتيريا عبر عملية تسمى (الاقتران- Conjugation) وبواسطة البلازميدات (Plasmids) وهي تراكيب وراثية خارج نواة الخلية، حيث تنتقل هذه البلازميدات حاملةً صفات جديدة للمضيف الجديد. الآلية تشبه طريقة التكاثر البشري والحيواني، فعلى طريقة (عقد القران)، قد يحدث الاقتران بين البكتيريا ذات الصلة القريبة (أو حتى البعيدة أحيانا) مع القليل من الرومانسية عندما تلامس بعضها. وقد يعيش كلاهما بسعادة دون الاختباء أو التجمع في خوف فيما تكون كمية الحمض النووي المنقولة أو المتبادلة صغيرة. ولسوء الحظ، لا يمكن استخدام الاقتران لتعبئة المجتمعات على نطاق واسع كما تفعل البكتيريا!
وعلى أي حال فان هذه الرومانسية (الجينية) قد تنقلب مأساة إذا حملت البلازميدات المنتقلة ما يمكن أن اسميه تنانين جينية مجهرية ، وهي عناصر وراثية قافزة (ترانسبوسون- Transposon) غير مستقرة أو متمردة يمكن أن تسبب فوضى وراثية مثل الفوضى الأولى التي أحدثتها التنينة تيامات، والتي، ووفقا لملحمة الخلق البابلي، تم تدميرها في النهاية من قبل ابنها رب الشمس، مردوخ، الذي قسم جسدها إلى نصفين بسهم ملتهب أصاب صدرها المائي (كما في الصورة) فأصبح الجزء العلوي السماء، في حين أصبح الجزء السفلي من جسدها الأرض، أما دموع عينيها فقد سال منهما نهري دجلة والفرات.
680 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع