د.علي محمد فخرو
لعبة السياسة وتناقض القيم في حضارة الغرب
ما من مرة تبنّى شباب وشابات هذه الأمة، طيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الشعارات الفكرية أو السياسية والاقتصادية والثقافية التي طرحتها حضارة الغرب إلا واكتشفوا مقدار التناقضات أو الأكاذيب أو التلاعبات بوجهين متقابلين في مسيرة طرح تلك الشعارات وتطبيقاتها في الواقع الدولي.
لقد هلّلوا لشعار الأخوة الإنسانية الذي طرحته أفكار الأنوار ليفاجأوا بالزحف الاستعماري الاحتلالي الغربي ليحتل أجزاء كبيرة من وطنهم العربي، تارة باسم التمدين وتارة باسم التحديث والعصرنة.
وكان على العرب أن يدفعوا الثمن غالباً، دماراً وموتاً للملايين وسيلاً من صنوف التنكيل بهم وبمجتمعاتهم، من أجل أن يتخلصوا من الاستعمار والمستعمرين، وتنكشف لهم كذبة شعار الأخوة الإنسانية المطروح كغطاء للاستعمار.
وكذلك رحّبوا بشعار الديموقراطية ليكتشفوا بعد حين أنه شعار منحاز، يتحدث عن الانتخابات البرلمانية وتناول السلطة المليئة بالثغرات الكثيرة، ولكنه لا يشمل عدالة توزيع الثروة ولا عدالة العلاقات الاجتماعية، ويحيل الديموقراطية إلى نظام يتعايش بسلام ووئام مع كل قباحات الرأسمالية المتوحّشة العولمية. وإذا بالعرب أمام شعار مليء بالتناقضات في كثير من ممارساته وتطبيقاته بالرغم من أن المستعمر كان يفاخر بأنه جاء لنشره في كل العالم وعلى الأخص في أرض العرب التي اعتبر تاريخها وحاضرها ليس أكثر من تعايش مع كل سلطوي واستبدادي متخلّف.
ورحّبوا بشعار الحرية وقدّسوه ليكتشفوا بعد حين أنه ينحرف إلى إعلاء إلى حدود التقديس للحرية الفردية وإنزال تدريجي لحرية وحقوق ومسؤوليات المجتمع وساكنيه، لينتقلوا بعدها إلى محاولة تفريغ المجتمعات من القيم والسلوكيات الأخلاقية باسم تلك الحرية الفردية المطلقة التي شدّدوا أنه لا يحق لأحد أن يوقفها عند أية حدود.
وهكذا تتالت مثل تلك المفاجآت بالنسبة لكل شعارات أساسية أخرى من مثل شعار المقاومة. وإذا بمقاومة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين لا تعتبر مقاومة مشروعة من قبل أنظمة تلك الحضارة وإنما إرهاباً يجب أن يدان ويعاقب كل من يمارسه، ثم ربطت كلمة معاداة السامية بشعار المقاومة لتجعل المقاومة العربية تبدوا وكأنها حركة عنصرية ضد عرق ودين معيّن.
وكعادة الغرب الاستعماري في تعميم كل ظاهرة لا يرضى عنها، فإذا تحركات بعض الإسلاميين المتطرفين الخارجين على روح وسماحة الإسلام تصبح لدى الغرب حركات الدين الإسلامي المتطرف في رسالته ومحتوياته وفي معاداة الديانات الأخرى. هكذا، وبقدرة قادر، تفنّنت بعض الأوساط الغربية في استغلال الفرصة للتهجّم على دين الإسلام والمسلمين واعتبارهما خطرين على البشرية كلها.
واليوم نرى أمام أعيننا مهزلة موضوع امتلاك تطبيقات وعلوم الذرة. فأن يمتلك الكيان الصهيوني عشرات، وقد تكون المئات، من الأسلحة الذرية فهذا موضوع لا يهدد العالم ولا الجيران بل ولا أحد على الإطلاق، ولكن أن تحاول جمعورية إيران الإسلامية امتلاك تلك الوسائل لتدافع عن نفسها فهذا محرّم ويحمل أخطاراً هائلة على العالم كله فالدين اليهودي عندهم لا يسمح بالاعتداء، ولكن الإسلام يسمح.
هذا التعامل بوجهين وميزانين غير أخلاقيين لا ترى فيه الحضارة الغربية أية غرابة. أليست السياسة الميكافيلية ذات الوجهين هي التي تحكم عقول كثير من قادتها ومؤسسات الحكم فيها؟
نأتي بكل ما سبق لا لنحاكم حضارة الغرب، فهذا أمر يخص في الأساس شعوبها التي ستكون قادرة على تصحيح كل ذلك مستقبلاً.
وإنما لنحذر شابات وشباب هذه الأمة والمؤسسات الحاكمة على الأخص، بوجود الأخطار والتشوهات تلك الكامنة في الشعارات التي تطرحها تلك الحضارة. إنها حضارة قد حققت تقدماً هائلاً في تطوير المعارف والعلوم والتكنولوجيا وكل أنواع البناء المادي، لكنها، مع الأسف الشديد، لم تحقق التقدم نفسه في حقل القيم والسلوكيات الأخلاقية الحاكمة لذلك التقدم.
ليس هذا الاستنتاج الذي نختم به هو من عندنا، إنه مبثوث في ألوف الكتب والمصادر التي ينشرها سنوياً مفكرو وكتاب ومحلّلو الغرب، من الذين صحت ضمائرهم وتعمّق وعيهم الإنساني وأصبحوا يخافون على حضارتهم من الزوال إن استمرّت في السير بدون توازن قيمي إنساني واضح بعيد كل البعد عن الانتهازية السياسية.
558 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع