حسن الحضري
مؤثِّرات تشكيل الصورة في شعر محمد رشدي عبد الباسط
تساهم المؤثرات الخارجية بدرجة كبيرة في تشكيل الصورة الشعرية، من خلال تفاعل هذه المؤثرات مع نظيرتها النفسية النابعة من الشاعر، ويظهر دور المؤثرات بوضوحٍ في مكونات الصورة الشعرية ودلالتها وما تنطوي عليه من رموز وإشارات، ويمكن استنباط هذه المؤثرات ودورها في تشكيل الصورة في شعر محمد رشدي عبد الباسط، من خلال عرض نماذج من شعره، على النحو الآتي:
يقول الشاعر المصري محمد رشدي في قصيدة بعنوان (سائرون): [الكامل]
عجبًا لمَنْ يَهفُو إلى الرِّضوانِ *** وفســـادُه قَدْ عمَّ فى الأركانِ
يَرنُـو إلى الدُّنيـا ويَسلُو رَبَّها *** يَبـغِي السَّعادةَ من يدِ العُبدانِ
يَحيَا ذليلًا خاضعًا ولِعابدٍ *** أبــــــدًا ويَنسَى خالقَ الإنسانِ
يتحدث محمد رشدي عن فئة من الناس موجودة في أرض الواقع؛ فجميع الناس يتمنون رضا الله تعالى، حتى المفسد والظالم والفاجر وغيرهم من أصحاب الذنوب ومعتادي المعاصي ومرتادي الشرور؛ جميعهم يحبون الفوز برضا الله تعالى، والشاعر هنا يتعجب منهم ويبيِّن بعض أفعالهم التي تَحُول بينهم وبين ذلك الرضا الإلهي الذي يتمنونه؛ فهم محبُّون للدنيا ومقبلون عليها، وفي الوقت نفسه قد نسوا الله تعالى الذي خلق هذه الدنيا، وهو أولى أن يطيعوه وأن يشكروه على نعمه؛ والمؤثِّر الخارجي في تشكيل الصورة الشعرية في هذه الأبيات يتمثل في أخلاق الناس؛ فقد أفسدوا في الأرض ثم جاؤوا يريدون رضا الله تعالى، مع أنهم قد تمتَّعوا بنعمِهِ ولم يؤدوا إليه شُكره ولم يخلصوا له في العبادة، فالتَقَى هذا المؤثر الخارجي مع المؤثر الداخلي الذي يتمثل في عقيدة الشاعر وإيمانه بالله تعالى، وبأن طاعته هي سبيل النجاة، ولذلك استنكر على أولئك الناس مواقفهم المتناقضة، وفي نهاية القصيدة يقدِّم لهم نُصحه فيقول:
اجنَحْ لعدلٍ فى خريفٍ قَـْد سَطا *** فـالعدلُ يَرعَى ردهةَ الإيمانِ
ونلاحظ في هذه القصيدة أن المؤثرات الخارجية والداخلية التي سبق ذكرها قد استغرقت جميع الأبيات حتى نهايتها.
وفي قصيدة (لا تهملوا زرع النخيل) يقول محمد رشدي عبد الباسط: [الكامل]
أمسَى التَّلفُّظُ بالدِّماءِ بلاغةً *** وفصاحةُ الأقلامِ في الأصفادِ
ما عادَ يُجدِي في الكلامِ تَحاوُرٌ *** إنَّ البَنادقَ جمَّةُ الأعدادِ
في هذه القصيدة يتحدث الشاعر عن دولة العراق الشقيقة، وفي سياق تشكيل الصورة الشعرية تأتي المؤامرات بأنواعها المتعددة في مقدمة المؤثرات الخارجية، التي تفاعلت مع المؤثر الداخلي عند الشاعر؛ وهو حب السلام، فالشاعر محمد رشدي مسالم بطبعه، لذلك نشأت في داخله علاقة رفضٍ للواقع، فجاءت نتيجة التفاعل عبارة عن تنديدٍ بما يجري، من خلال الصور التي رسمها الشاعر؛ الذي يرى أن البلاغة قد تغيَّر مفهومها فأصبح يتمثل في الدعوة إلى إراقة الدماء، فلما أصبح الأمر بهذه الصورة؛ ذهبت جدوى الحوار ولا فائدة من الدعوة إلى السَّلم، فما زالت الأحداث تتصاعد حتى أصبحتْ:
تشكو البلادُ، تئنُّ مِنْ أفعالِهم *** يا ويلَتي لو ما اكتفَى حُسَّادِي
سَجَنُوكِ يا محبوبتي في ظلمةٍ *** والقبرُ أهوَنُ مِنْ ظلامِ الوادِي
في سياق الوصف والتقرير الذي اتخذه الشاعر منهجًا في رسم الصورة الشعرية في هذه القصيدة، من خلال التفاعل بين الموثرات الخارجية والداخلية؛ يوضح شكوى بغداد مما يُحاك ضدها من مؤامرات، ثم يتكلم على لسانها متمنيًا اكتفاء الحسَّاد بما جلبوا لها من متاعب، ثم يذكر حالها على سبيل الرَّصد والتقرير؛ حيث أصبحت سجينة في ظلمات الحرب غير المبررة التي تُشَن ضدها، واستمرارًا في أسلوب التقرير يؤكد الشاعر أنَّ ظلمة القبر أهون من تلك الظلمات التي تعيشها البلاد في ظل الاعتداءات المتكررة والحروب المتتابعة؛ ويختتم هذه القصيدة بقوله:
هيَّا نُسامرُ قصةً تنتابُنَا *** هيَّا نُعِيدُ روايةَ الأمجادِ
لا تُهملوا زرعَ النَّخِيلِ بساحةٍ *** فالنَّخْلُ رمزٌ راسخُ الأعوادِ
بعد أن خرجت نتائج التفاعل بين المؤثرات الخارجية والداخلية، من خلال الصور الشعرية التي رسمها الشاعر في إطار ذلك التفاعل؛ بدأ يعزز من قيمة المؤثر الداخلي الذي يتمثل في حب السلام كما سبق توضيحه، فوجَّه الدعوة في نهاية قصيدته، إلى استحضار الأمجاد القديمة؛ علَّها تُعِينهم على صدِّ المؤامرات التي تتعرض لها البلاد، ولمَّا ذكر الأمجاد القديمة لبغداد دعا إلى زراعة النخل في كل ساحة من ساحاتها؛ لأن النخل رمز لِعُروبة هذه البلاد، ورمز للشموخ الذي كان عليه الأجداد من قديمٍ، وفي ذلك دعوة إلى الصحوة والحفاظ على تراث الأجداد وأمجادهم.
وإذا انتقلنا إلى الغزل في شعر محمد رشدي عبد الباسط؛ وجدنا أيضًا تداخُل المؤثرات وتفاعلها، بل وانصهارها أحيانًا لتنتج عنها ملامح صور شعرية تبدو كأنها نابعة من ركيزة واحدة وليس من عدة ركائز تفاعلت فيما بينها لتشكِّل شخصية الشاعر وبالتالي تساهم في رسم صورِهِ، وقد لا يفطن إلى ذلك كل ناقد أو قارئ أو متلقٍّ؛ لأن الكشف عنه يتطلب القدرة على تحليل معاني المفردات في سياقها الذي وردت فيه، وربط النتيجة بالسلوك الشخصي للشاعر أو بمعتقداته وأفكاره، يقول محمد رشدي: [مجزوء الكامل]
رقَصتْ على قلبي وقَدْ *** هُزَّتْ لها أوتاري
فجَرَى الهوَى وتكلَّمتْ *** في حبِّها أشعاري
وانسابَ نَظمِي عندَها *** كخَرِيرِ ذي الأنهارِ
واشتقتُ لِاسمِ مَلِيكتي *** فبحثتُ في الأسفارِ
فوجدتُهُ كالنَّجمِ يَلـ *** ـمَعُ في دُجَى الأسحارِ
حدَّثتها مِن عُمقِ صَدْ *** ري مُعلنًا إصراري
هُزِّي إليكِ بِجِذعِ صَدْ***ري واهتكِي أسراري
كي تعلَمي أنِّي أحبُّـ(م)***ـكِ يا سَنا الأقمارِ
نلاحظ في هذه الأبيات انصهار العامل الوجداني في بوتقة المؤثرات الخارجية، التي تشكلت منها ثقافة الشاعر، فظهرت في شعره ملامح من روافده الثقافية المتعددة، التي تسير جميعها في إطار المؤثر الدِّيتي، الذي نتج عنه قوله (فبحثتُ في الأسفارِ)، وقوله (هُزِّي إليكِ بِجِذعِ صدري)، والجملة الأولى هي ردُّ فِعل الشاعر على ما قبلها، والثانية هي نصيحته لمحبوبته كي تتأكد من حبِّه؛ فالجملتان إذًا عمودان رئيسان من أعمدة التعبير الشعري في هذه القصيدة، بما تحتويان من صور شعرية ومحسنات بديعية وغير ذلك، والتأثر بالقرآن الكريم واضح فيهما وتمَّ من خلال سياقٍ جيد، ونلاحظ أن المؤثِّر الدِّيني يصاحب الشاعر محمد رشدي عبد الباسط في كثيرٍ من أشعاره وفي عناوين قصائده ودواوينه؛ فمن دواوينه (لا شيء يبقى)، ومن قصائده (سائرون، أنا والمريدون، انفجار داخلي)، وفي عامة أشعاره نجد أنَّ لِلْمؤثِّر الدِّيني دورًا حاضرًا بدرجةٍ أو بأخرى.
859 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع