العقل الجمعي

                                                  

                            إبراهيم الولي
                         سفير عراقي سابق

العقل الجمعي
Conscience Collective

تحدثت في مقالتي السابقة عن الدولة، إذ وصفتها بأنها فضاء افتراضي يحقق في أحسن الأحوال أمنا للإنسان ورفاهية، أعود لأطرق موضوعا آخر، هو بدوره فضاء افتراضي فلسفي، لكنه في هذه المرة يضغط على الفرد الإنسان في المجتمع من خلال ثلاث عوامل خارجة عنه، لكنها تكيف حياته ؛ رضي أم أبى..

هي: التقاليد والقيم والمعتقدات customs values and beliefs العوامل الفاعلة في هذا الفضاء البشري الذي ارتضاه الانسان لنفسه بحكم ميله الغريزي إلى التجمع بدل التفرد والانعزال، إنما شكل ظاهرة اجتماعية يبني عليها الفيلسوف الاجتماعي ايميل دوركايم نظريته التي سماها بالفرنسية conscience collective وقد احتار العلماء في ايجاد تسمية تطابق معنى وروحا للتسمية الفرنسية، ففي الانجليزية سميت collective consciencess بمعنى الشعور او الوعي الجماعي ، كما اننا بالعربية، وجد علماؤنا ان التسمية تقع بين الضمير الجمعي والعقل الجمعي حتى نادى البعض بالإبقاء على التسمية الفرنسية بروحها وما تعني من الدلالة كما يرى علماء اللغة Semantic .
من المناسب ان ابين هنا، ان أمرين ألزماني بتوضيح هذه النظرية: أولهما إنني تتلمذت على يد المرحوم الاستاذ الفيلسوف علي عبد الواحد وافي ، الذي أسس ، لأول مرة ، فرع علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول عام 1948 وكنت من أوائل من التحق بصفوف هذا العالم ، وثانيهما أن استاذي المرحوم كان قد درس علم الاجتماع على يد الأستاذ فوكونيه في السوربون الفرنسية.. ومعروف أن فوكونيه كان تلميذ دوركايم المفضل.. ولهذا كنا نتندر أنا وزملائي بالقسم بالقول أن ايميل دوركايم هو جدنا ونحن أحفاده.
ايميل دوركايم Emile Durkheim من 1859- 1917 هو من مؤيدي الفيلسوف الوصفي الفرنسي اوجست كونت Auguste Comte 1798- 1857 الذي كان اول مؤسس لعلم الاجتماع حين طور مفهومه وعرّفه بأنه علم وضعي فهو يعتبر فيلسوف الوضعية Positism التي هي حالة الوثوق او التأكد من الأشياء وهي الدراسة العلمية للظواهر التي من الممكن مراقبتها بعكس الدراسة القائمة على الاستنتاجات والتوقعات.
لابد من ذكر ريادة ابن خلدون في علم الاجتماع وفي النهج الوضعي ، فقد سبق فيلسوفنا العربي من لحقوه في ذلك أعني كونت ودوركايم.
وقد حدد كونت ثلاثة طرق لاكتشاف القوانين الثابتة هي: الملاحظة Observation والتجربة Experimentation والمقارنة Comparison.
أعود إلى ايميل دوركايم الذي كان استاذ علم الاجتماع في السوربون ، وهو أول من اصدر مجلة علم الاجتماع L’Annee Sociologique وله مؤلفات عديدة قد يكون من اهمها أربعة هي:
• قواعد المنهج لعلم الاجتماع.
• تقسيم العمل في المجتمع.
• الانتحار.
• الأشكال البدائية للحياة الدينية.
في كتاب تقسيم العمل ، حدد نظريته في تكون العقل الجمعي من تفاعل المعتقدات والقيم والتقاليد, ويقول فيه، أن النظم الاجتماعية إنما هي وحدات معنوية ، وأن العقل الجمعي هو القوة المعنوية التي تربط وتلصق الأفراد إلى مجتمعاتهم .
**و في كتاب الانتحار الشهير، يقول ان اسباب الانتحار هي اما ؛ انانية Egotistic , و اما انعزالية Anomic و اما غيرية Altruistic و اما قدرية Fatalistic ، وهو يعزو الظاهرة الى تقصير المجتمعات و ليس لذوات الافراد ، اذ كلما اختفى التضامن و الشفافية و النزاهة لدى الدول ، زادت حالات الانتحار . ***
ويقرر دوركايم في قواعد المنهج في علم الاجتماع أن العقل الجمعي له قوة القهر على المجتمعات ذلك أن الظواهر الاجتماعية Phenomena *** وما يحيط بالأفراد من احداث خارجة تكوّن لدى الفرد المتلقي تصورات نفسية تؤول إلى تشكيل عقل جمعي تكون خواصه خارجة ذاتيا ومنفصلة تماما عن الشعور الفردي، حتى ليشكل ذلك ضغطا على الفرد بما يؤدي به إلى تغيير سلوكه الذي اعتاده حتى ليصبح متفقا مع اشتراطات العقل الجمعي السائد في المجتمع من حوله..
وهنا يفصل دوركايم بين العقل الفردي كتصور وبين الجمعي كشعور خارج عن تصور الفرد، ويجوز تطابق الشعورين الفردي والجمعي في حالتين: أن يمس الحدث جانب الشعور الفطري واللغوي لدى الإنسان فينتج عقلا جمعيا غير مقصود والفرد جزء من الكل ، والآخر أن يمس الحدث جانب الهوية الذاتية فلا يمكن والحالة هذه عزل شعور الفرد عن الجماعة عند وقوع خطر حقيقي.
***———————————————
الظاهرة عموما Phenomenon تعني انها عبارة عن حقيقة أو حدث قابل للرؤية او الإدراك.. يقول ارسطو ؛ ان الظاهر جيد، دلالة على ما يبدو جيدا للإنسان ، و حتى ان لم يكن جيدا في الحقيقة .
والعقل الجمعي ذو تأثير واضح في اتجاه سلوكيات ربما تعارضت مع قناعات الأفراد حتى ليشكل وعيا جمعيا ايدولوجيا ينبع من فرض عقائد لا يملك الفرد منها فكاكا. إن وسائل الاتصالات والقوى السياسية الفاعلة والدولة بكل مؤسساتها يتفقون على تنفيذ أفكار مؤيدة أو معارضة، وهنا يقع صراع لدى الفرد بين رؤيته لما يحدث حوله وبين قدرة قوة جمعية ضاغطة تعمل لحساب المجموع، تلك التي اتفقت على تقليص فردية الإنسان لحساب المجموع.
وعن تفاعل الفرد مع الظواهر الاجتماعية، يقول دوركايم أنها تتمثل أولا في نظم عامة يشترك في اتباعها أفراد مجتمع يتخذونها أساسا لتنظيم حياتهم الجمعية وتنسيق العلاقات التي تربط بعضهم ببعض والتي تربطهم بغيرهم وثانيا أنها ليست من صنع الأفراد وإنما تخلقها طبيعة الاجتماع فتبعث من تلقاء نفسها من حياة الجماعات ومقتضيات العمران، وهذا ما عاناه علماء الاجتماع من نتاج العقل الجمعي. وثالثا أن خروج الفرد على أي نظام منها يلقى من المجتمع مقاومة تأخذه بعقاب مادي أو أدبي أو تلغي عمله وتعتبره كأن لم يكن وتحول بينه وبين ما ابتغاه من وراء مخالفته فيكون عمله ضربا من العبث. هذه الخواص الثلاث تتوافر في .... على أكمل وجه.
كل فرد منا ينشأ فيجد بين يديه نظاما لغويا يسير عليه مجتمعه فيتلقاه تلقيا في طريق التعليم والمحاكاة كما يتلقى سائر النظم الاجتماعية الأخرى. أو يصيب أصواته في قوالبه ويحتذيه في تفاهمه وتعبيره .***
——————————————————————

*** أ.د. علي عبدالواحد وافي ( اللغة والمجتمع)
*** أ.د. علي عبدالواحد وافي ibid
لم يكن دوركايم آخر من فكر في توصيف المجتمعات البشرية وعن تجمعها وافتراقها، فقد جاء المفكر الماركسي الإيطالي Antonio Gramsci الذي كتب في ( مذكرات السجن) يقول ، إن المجتمع كائن عضوي يتكون من اتحاد للتجمع خلال احتكاك الأفراد ببعضهم ، وفي رأيه أن وجود السيطرة Hegemony يعمل محركا للضمير الجمعي من بين أولئك المظلومين من قبل سيطرة السلطات الحاكمة، ومن الأفكار الحاكمة في ذلك المجتمع.
ويقول Zukerfield أن جميع فروع دراسة المعرفة تشترك في مفهوم كونها من نتاج الفرد الإنسان، وأن الإنسانية الموروثة في الضمير الجمعي تشير إلى طريقة تفكير مشترك بين بني الإنسان في المعرفة، فالمعرفة المادية تقوم على نوع من الضمير الجمعي في العقل ومن خلاله يمكن الوصول إلى تحليل واقعي لأحوال المجتمع.
التأثير على العقل الجمعي:
تحدثنا عن جوهر العقل الجمعي كظاهرة اجتماعية ، فوجدنا ؛ أنه مجموعة المعتقدات المشتركة والأفكار والتوجهات الخلقية التي تعمل جميعها كقوة واحدة من داخل المجتمع. وفي النهاية فإن العقل الجمعي ينشأ متأثرا بالتربية والتشريع في الدولة والدين والثقافة والعلوم.. إلا أنه يتأثر ، وربما ينحرف عند التلاعب به لاستخدامه لأغراض سلطة استبدادية. فالعقل الجمعي ليس ضميرا أخلاقيا ،بل هو فهمٌ مشترك للقيم والمعايير الاجتماعية التي حددها دوركايم . إن العقل الجمعي يمكن أن يكون ذا طبيعة ديموقراطية ، وبعكسه يكون استبداديا عندما يتلاعب بعناصره حاكم دكتاتور، ولنا أمثلة في ألمانيا النازية هتلر ويوغسلافيا والإتحاد السوفيتي وإيطاليا موسوليني.. ففي تلك النظم الفاشية لا مجال للمعارضة التي يُسجن أو يبعد أو حتى يُعدم رجالها. وهنا يبرز دور الصحافة ووسائل الإعلام التي تملك القدرة - إن صلحت - على تشكيل وعي لدى الجماهير، فالإنسان يتصف بالتفرد والوحدة ، والاستثناء فيه يكون التجمع والاندماج بالمجتمع. فعندما يجتمع أكثر من شخص، يتشكل هنا عقل جمعي فيه أفكار تسيطر على أذهان الأفراد لتسلبهم نعمة التفكير المنطقي السليم بوقوعهم تحت تأثير الأفكار المنتشرة ،عن تصميم ودراية ، من حكام فيضطر على الإيمان بتلك الأفكار أسوة بالآخرين.. وتلك نظرية التقليد Imitation التي قال بها عالم اجتماعي فرنسي آخر هو J.Tarde الذي وضع لها قوانين فحواها أن سلوك البشر قائم بالأساس على التقليد أو المحاكاة.
يقول دوركايم عن نشأة العقل الجمعي عند الشعوب البدائية بأنها كانت تقوم على الالتفاف حول الجماعة أو العائلة ومن ثم العشيرة، وكانوا يجتمعون على رمز ديني يشدهم إليه سموه Totomic أي الدين البدائي ، فذلك خلق لدى الجماعة ضميراً عاماً أمام هذا العامل الحاكم Determinate .
وما دمنا في الحديث عن العقل الجمعي لدى الشعوب، بدائية كانت او متقدمة فالمبدأ واحد؛ أي أن يصار إلى تعميم هذا المفهوم المعرفي ليشمل العالم الخارجي بما يدعى العقل الكوني ……Cosmic conscience. وقد أقدم البعض على هذا المشروع، ربما باستحياء ، ولكن ألم تكن للعالم قيم مشتركة كالميل إلى السلم والميل الغريزي إلى العدالة وإلى معايير الشرف ولو بدرجات مختلفة.!. ألم نر أن جائحة الكورونا-19 قد وحدت المعايير الصحية لدى الشعوب فآمنت باللقاح بمختلف مسمياته، ألم نر كيف أن الأمم المتحدة ممثلة بمنظمة الصحة العالمية WHO أدارت العملية كأنها ضابط إيقاع لفرقة موسيقية أو رئيس دولة !
بلى، فان هناك الكثير مما يجمع شعوب العالم لخلق عقل جمعي كوني، فلو تحقق ذلك لكانت البشرية قد تقدمت الى الامام فعلا لا قولا .
الخاتمة:
ربما يتساءل سائل عن العقل الجمعي في بلدي العراق.. كيف حاله؟
أقول نعم هو موجود في العراق، ولكنه للأسف ضميرٌ موجعٌ .
ضميرنا الجمعي في العراق لم يكن سليما معافى، عدا في فترات متقطعة من تاريخه السياسي و.الاجتماعي، أقول أن أوجاع هذا الضمير بدأت بشائره مع تنفيذ خطة الفوضى الخلاقة التي بَدأ تطبيقها، بالتجربة والخطأ ،قُبيل وبعد احتلال القوات الأمريكية للعراق عام 2003.
لا مناص من الاعتراف بأن المخطِط المسيطر حينئذٍ كان قد حقن في عقلنا الجمعي مفاهيم مدروسة خاطئة كلها مغلفة بالديموقراطية التي قال عنها (شومسكي ) بحق ، بأن بلاده وإن كانت تملك أشكالا ديموقراطية فإنها تعاني من عجز ديموقراطي خطير يجرد مؤسساتها الديموقراطية الرسمية من أي جوهر حقيقي.
إذا كان هذا الوصف يصدق عن أمريكا، فماذا عساي أقول عن العراق ،غير أن المحتل مزق النسيج الاجتماعي لبلادي، مُعْتَقَدًا وعِرفاً ، فأفلح في تغييب عقيدة المواطنة التي تؤمن بالوطن وبالمساواة بين أبنائه وباحترام دولته وحسب، فلو أن هذا الأمر قد تم لقلت أن لنا ضميراً جمعياً ، نعمل جميعا على إحيائه والتفاخر بالانتماء إليه و الالتفاف حوله .
و الامل بالتغيير للافضل ، بالله ،وبالمواطنين الشرفاء ، وبالجيل الجديد ، جيل تشرين الذين استوعبوا مقاصد و اهداف لعبة الامم و فوضاها اللاخلاقة و اسقاطاتها السلبية على العراق .

والله من وراء القصد .
_________

Sociology . A graphic Guide **
Richard Osborne & Borin Van Loon

***الظاهرة عموما Phenomenon تعني انها عبارة عن حقيقة أو حدث قابل للرؤية او الإدراك.. يقول ارسطو ؛ ان الظاهر جيد، دلالة على ما يبدو جيدا للإنسان ، و حتى ان لم يكن جيدا في الحقيقة .

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

792 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع