الإعلامُ العربيُّ في الوقت الراهن - القسم الأوّل

                                                       

                              د. زكي الجابر

الإعلامُ العربيُّ في الوقت الراهن - القسم الأوّل

إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
حوارٌ أجراه عبد الرحيم العطري

- سعداء جداً بالترحيبِ بكم دكتور زكي الجابر بجريدة ’’الميثاقِ الوطنيّ‘‘. في البداية، حبذا لو انطلقنا من سؤالٍ ربما يمتلكُ راهنِيَّةً قُصوَى في ظلِّ هذه الثورةِ الإعلاميّةِ العارمةِ التي لم نَعُدْ بِمَعزِلٍ عنها. إذن كيف تَقيِّمون وضعَ الإعلامِ العربيِّ راهِناً؟
- الإعلامُ العربيُّ في وضعهِ الحاضرِ كما في وَضعهِ السابقِ الذي استمرَّ خلالَ العُقودِ الثلاثةِ أو الأربَعةِ الماضيةِ هو في موقفِ التَبَعِيَّةِ إلى السُلطةِ المركزيّةِ القائمةِ في الوطنِ العربيّ. إنّه يقوم على أساسٍ قُطْرِيٍّ مَحضٍ ويروِّجُ للسياساتِ القُطريّةِ ويرتبطُ بالنظامِ السياسيَّ، ولهذا سيبقَى على وضعِهِ القائمِ ما لم يجدْ استقلاليَّةً في التعبير.
نحنُ لا نطالبُ بالاستقلاليَّةِ التامةِ، ولكنْ إلى الحدِّ المَعقولِ الذي يجعلُه أداةً فاعِلةً في تَطويرِ العمليّةِ الاجتماعيّةِ ويجعله مُعَبِّراً عن احتياجاتِ ومُتطلَّباتِ المجتمعِ المدنيّ.
- إذَنْ على ما يبدو فالإعلامُ العربيُّ لم يَنحَزْ بعدُ إلى همومِ الشعوبِ، وما زال يتحرّك في دائرةِ ما هو رسميٌّ بامتياز، فكيف السبيلُ إلى إخراجِه من هذا المَأزَق؟
- التطوُّرُ سيفرِضُ نفسَه. ما دامتْ وسائلُ الإعلامِ تتطوَّرُ في بلادِ العالمِ إلى درجةِ أنّها أصبحتْ أداةً فاعِلةً في المجتمعاتِ فإنَّ العَدوَى، وهي صحِّيّةٌ، لا بُدَّ وأن تنتقلَ إلينا، وقد بدأنا نلاحظُ بعضَ الملامحِ الضعيفةِ لذلك.
وأنا أعتقدُ أنّ عمليّةَ التطوُّرِ سائرةٌ في طريقِها، ولكن لا بُدَّ من الإيمانِ أو الاعتقادِ بأنَّ هناكَ بعضَ الأمورِ التي هي في حُكمِ المُستحيلِ، ونحنُ كأُناسٍ نشتغِلُ في مجالاتِ البحثِ والعلمِ نؤمنُ بأنّ هناك أشياءً مستحيلةً، ومن هذه المستحيلاتِ هو أنْ يتصاعدَ الإعلامُ العربيُّ بشكلِه العامِّ إلى الدرجةِ التي نُؤمِّلُ أن يصلَ إليها كأداةِ تعبيرٍ عن هُمومِ الجماهيرِ وعَمّا يعتَلِجُ في الشارع.
ألنقطةُ الثانيةُ هي لا بُدَّ من التَكاتُفِ المِهَنِيِّ ذاتِه، أي أنَّ الصحفيّينَ العاملينَ في الإعلامِ يجبُ أن يلتَفُّوا حول مِهنَتِهم، أي أنْ لا تَغدو النقاباتُ والجمعيّاتُ والمُنظَّماتُ العاملةُ في مَجالِ الصحافةِ فقط قضايا نقابيّةً ومَطلَبيّة، وإنما أنْ تتحوَّلَ إلى أداةِ تطوِيرٍ مِهَنِيَّةٍ وتُحتِّمُ على الصحفيّينَ التزامَ المِهنةِ، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أُخرى هناك مسؤوليّةٌ قد تتحمَّلُها الدولة. وأنا أعتقدُ أنَّ الدولةَ من مَهامِّها – أيَّة دولةٍ كانتْ – أن لا تَرى في الصحيفةِ شيئاً هامِشِيّاً أو أن تَراها صدىً لإنجازاتِها. ففي كِلا الحالَيْنِ تتحوَّلُ الصحيفةُ إلى أداةٍ ثانويّة. ومن هنا أعتقدُ أنَّنا يجبُ أن نتعاونَ كمِهنيّينَ أولّاً وكمسؤولينَ في الدولةِ ثانياً وكمُنَظَّماتٍ في المجتمعِ المدنيِّ، لنُطالبَ بإعلامٍ غيرِ الإعلامِ القائمِ من حيثُ التوجُّهُ ومن حيثُ الإخراجُ ومن حيثُ معالجةُ همومِ المجتمع.
- هذا من حيثُ الطلبُ الداخليُّ، لكنْ هناك تحديّاتٌ خارجيّةٌ تؤثّرُ على إعلامِنا العربيِّ بشكلٍ أو بآخَر. هَلّا أبرزتُموها لنا دكتور زكي الجابر؟
- التحدِّياتُ القائمةُ هي أوّلاً على مُستَوَى ’’التكنولوجيا‘‘، فنحن لِحَدِّ الآنَ في الوطنِ العربيِّ لم نستطِعْ تصنيعَ ’’المَيْكروفون‘‘ فما بالُكَ بالأقمارِ الصناعيّةِ وأدواتِ الإرسالِ الأخرى. أمّا التحدّي الثاني، فهو ناجِمٌ من فهمٍ خاطئٍ لمَفهومِ السياسةِ الإعلاميّةِ داخلَ الوطنِ العربيّ. فالتحدّي الأكبرُ ليس خارجيّاً وإنَّما هو داخليٌّ. وكَمثالٍ على ذلكَ نحنُ بَدأنا بإطلاقِ أَحدِ الأقمارِ الصناعيَّةِ، وبدلاً من أن تُوحَّدَ الجهودُ العربيةُ بإنشاءِ قمرٍ صناعيٍّ يبُثُّ برامِجَ موحَّدةً ذاتَ نوعيَّةٍ متميِّزةٍ حدثَ العكسُ، فالقمرُ الصناعيَّ ’’عَرَبْسات‘‘ الذي كُنّا من أوائلِ المُنشِئينَ له كانتِ الفكرةُ الأولى من وراءِ إنشائِه أنّه أداةٌ ستوحِّدُ الوطَن العربيَّ إعلاميّاً وثقافيّاً، ولكنَّ الموضوعَ انعكسَ بعدَ ذلكَ، وتحوَّلَ ’’عَرَبْسات‘‘ والقنواتُ الفضائيَّةُ الجديدةُ إلى أدواتٍ لتَرسيخِ القُطريَّةِ بدلاً من تَوحيدِ الأمّةِ، فنحنُ نواجهُ تحدِّياً داخليّاً بالإضافةِ إلى التحدِّياتِ الخارجيّةِ القائِمةِ أساساً في تِقَنِيات الإخراجِ والإبداعِ الفنّيِّ والتي ما زالتْ عندَنا متخلِّفةً جداً.
وهناكَ في مِصرَ محاولةٌ جيّدةٌ وكذلكَ الأمرُ في بعض الأقطارِ الأخرَى، ولكنّها لا تَفي بحاجاتِ الوطنِ العربيّ. وبعبارةٍ أخرَى يُمكنُ أن نقولَ بأنَّ أيَّ مُسَلسَلٍ أمريكيٍّ مهما كان في مستَوى الرداءة من حيثُ المحتوَى فهو من حيثُ الإخراجُ ومن حيثُ التِقنِيَةُ يتفوّقُ على أيِّ مُسَلسَلٍ عربيّ. نحنُ الآنَ في حاجةٍ كبيرةٍ إلى كتُّابٍ ومُنتِجينَ ومُخرِجينَ، فهذه أمورٌ بدأْنا نُعانِيها الآن. فهُناكَ محطاتٌ مثلاً في منطقةِ الخليجِ تتوفَّرُ على إمكاناتٍ ماديّةٍ ولكنَّها بالتأكيدِ تُعوِزُها القُدراتُ الفنّيةُ القادرةُ على عمليّاتِ الإنتاجِ المُتَّصِلِ على مَدَى 24 ساعةً، فَمِنْ أينَ لها بهذا الطاقَمِ من المُعِدِّينَ والمُخرِجينَ والمُفَكِّرينَ الذين يُمَوِّلُونَ هذا العددَ الهائلَ من البرامج؟
نحن نقفُ أحياناً أمامَ حَجرِ عَثْرَةٍ، ولهذا أقولُ بأنَّ علينا أن نُؤمِنَ بالمُستحيل. ولو توحّدتْ هذه الجهودُ رُبما نصلُ إلى برامجَ جيّدةٍ على الأقلِّ لها صلةٌ بالأمورِ العامّةِ للشَعب.
فالسياسةُ الإعلاميّةُ الناجِعةُ يجبُ أن تُراهِنَ على الاقترابَ أكثرَ فأكثرَ من الهُمومِ الوطنيّةِ، ولكنّ الإعلامَ لدينا يتحدّثُ عَمّا يَجري في الولاياتِ المتّحدةِ وفي كوسوڤو وما يجري هُنا وهُناكَ ومع ذلكَ لا يعالِجُ هُمومَ المواطنِ الذي هو على قُربِ خُطوتَينِ منه. نحن لا نعرفُ ما يَجري في السُوقِ، ولا نعرفُ ما يجري داخلَ البيوتِ أو في دَواليبِ الدولةِ ونعتمدُ في ذلك على المصادرِ الخارجيّةِ. وإذا استمرَّ الوضعُ على هذا الحالِ فإنّ المواطنَ سيجدُ طريقَه إلى القَنَواتِ الأجنبيّةِ ويبتعدُ عن القنواتِ المحليّة. ولهذا أقولُ بأنّنا نحتاجُ إلى إعادةِ نظرٍ في الطبيعةِ المِهَنيَّةِ، فلا نكتفي بإلقاءِ اللومِ على الدولةِ أو على القوانينِ والمراسيمِ، وإنما لا بُدّ وأنْ نعودَ مرّةً أخرى إلى الناحيةِ المِهَنِيّةِ ونُحاولُ أن نكونَ مِهَنِيّينَ نُعالجُ مِهنَتَنا ونتفحَّصُ ما فيها من مشاكل.
- هل تَرَوْنَ، دكتور زكي الجابر، أنَّ الإعلامَ العربيَّ بمقدورهِ أن يتحوَّل إلى سُلْطةٍ رابعةٍ أو إلى سُلْطةٍ فوقَ السُلَط؟
- أنا لا أعتقدُ ذلك، فأنا متشائمٌ في هذه الناحيةِ لِثلاثةِ عواملَ وهي: العاملُ الأولُ أنَّ النُظُمَ السياسيّةَ في الوطنِ العربيِّ غيرُ مُستعدّةٍ في الوقتِ الحاضرِ، وبالعَقليّاتِ القائمةِ، أنْ تتقبَّلَ إعلاماً يتحمّلُ مسؤوليّتَه في النقدِ الواعي. العاملُ الثاني هو الفَقرُ الذي نُعانيه مِهَنِيّاً كما أسلفتُ الذكر. والعاملُ الثالثُ: في جوانبَ عديدةٍ، إنْ لم نَقلْ في كلِّ إعلامِنا، نحنُ نعاني تَبَعِيَّةً إلى الغربِ منذُ نَشأةِ الإعلام. إنَّ طابعَ الصحيفةِ، تِقنِيَةَ التحريرِ، المعالجةَ الإعلاميَّةَ، صياغَةَ الخبرِ لم تُؤَصَّلْ بعد، وإنما نحنُ اقتَبَسْناها أو أخذناها من الجانبِ الغربيِّ، ووجدناها مِثالاً لِما يَجبُ أن يكونَ عليهِ الإعلامُ صياغةً وإخراجاً، فلا نستطيعُ أن نقولَ إنَّ لدينا إعلاماً عربيّاً أصيلاً. ومتَى ما وجدْنا إعلاماً عربيّاً أصيلاً من حيثُ النظريةُ ومن حيثُ التطبيقُ حينئذٍ يمكنُ أن نقولَ بأنّنا سِرنا على الطريقِ القَويم. أمّا ونحنُ الآنَ في عمليّةِ التقليدِ والتبعيّةِ التي نخضعُ لها فلا أعتقدُ أنّنا سنسيرُ خُطُواتٍ إلى الأمام.
- رِهانٌ أساسيٌّ ينتظرُ الشعوبَ العربيةَ ألا وهو رِهانُ التَنمِية فأيُّ دَورٍ يُمكنُ أن يلعَبهُ الإعلامُ العربيُّ في بَلْوَرَةِ مَشروعٍ تَنمَوِيٍّ شاملٍ ومُستَديمٍ للأمّةِ العربيّة؟
- يأتي هذا السؤالُ في وقتٍ مُناسبٍ. في 20 كانون الثاني 1949، أيْ قبلَ ما يَقرُبُ من خمسينَ عاماً، استخدمَ الرئيسُ الأمريكيُّ ’’ترومان‘‘ Truman،(1) في حَفلِ تنصيبه أمامَ ’’الكونغرس‘‘ مُصطلحَ التنمية، وقالَ في مُجمَلِ خطابِه إنّ العالَمَ هو حَلَبَةُ تَنميةٍ نحنُ والعالَمُ نجري فيها، فهُناكَ دُولٌ تسيرُ في المُقدِّمةِ، وهي الدُوَلُ المتطوِّرةُ كالولاياتِ المتّحدةِ والدولِ الغَربيّةِ، وهناك دُوَلٌ تجري وراءَها، وهناك دُوَلٌ تَجري في المراتِبِ المتأخِّرةِ، ولكنّنا، كلَّنا، نجري في هذا الإطار. ومنذُ ذلك العهدِ وإلى الوقتِ الحاضرِ سارتْ عمليّةُ التَنميةِ وأُنفقتْ بلايينُ الدولاراتِ في هذه العمليّة.
وانقسَمَ العالَمُ وَفقَ المفهومِ الذي جاءَ به ’’ترومان‘‘ إلى دُوَلٍ مُتقدّمةٍ متطوِّرَةٍ وإلى دُوَلٍ في طَريقِ التطوُّر وإلى دُوَلٍ مُتخلِّفَةٍ، ونستطيعُ أن نقولَ إنّ التسميةَ الصحيحةَ هي وجودُ دُوَلٍ مُتقِّدمةٍ وأخرى مُتخلِّفةٍ، وإنّ تعبيرَ الدُوَلِ الناميةِ ما هو إلا تعبيرُ مُجاملةٍ لا أكثرَ ولا أقل.
أُنفِقتِ البلايينُ ولكنَّ مسألةَ إلحاقِ الدُوَلِ المتخلِّفةِ بالمتقدِمةِ يَدخُلُ في عِدادِ المُستحيلاتِ، ويُمكنُ تشبيهُ ذلكَ براكِضَينِ أو سيّارَتَينِ، الأولَى تسير بسرعةِ 150 كيلومتراً في الساعةِ والثانيةُ تسيرُ بسرعةِ كيلومترٍ واحدٍ في الساعة!
فالذي حدث أن الإعلامَ ومُسايَرَتَه لِعمليّةِ التنميةِ سواءٌ أكانَ في التوعِيةِ أو في واجبِه الذي شُخِّصَ له من الأوّلِ، وهو أنّه يقومُ بخَلقِ المَناخِ العامِّ للتَنميَةِ، فُهِمتْ هذه الأخيرةُ بالمِعيارِ الكَمِيِّ الاقتصاديِّ، أي مِعيارِ النموِّ، إنّنا نَنموُ ونزدادُ غِنَىً، وهذا الذي حَدَثَ على طولِ المدّة. إنّ هناكَ بالتأكيدِ زيادةً في الدَخلَينِ الفردِيِّ والقومِيِّ، ولكنْ مُقابِلَ ذلك على صَعيدِ الواقعِ زادَ التشرُّدُ والفَقرُ وتنامَتِ الأمراضُ والمُدُنُ الهامشيّةُ وحوادثُ الجُنوحِ والاغتصابِ، إذْ بدأتِ المُجتمعاتُ تعاني من أنواعٍ من المخدِّراتِ والتحلُّلِ الجِنسيِّ إلى آخره. إذنْ كلُّ ما طمحتْ إليه عمليّاتُ التنميةِ في ذلك الوقتِ مُنذُ عام 1949 إلى الآنَ قد أُصيبَ بالخَيبةِ لأنّه أهملَ الجانبَ الأساسيَّ وهو الإنسانُ لأنّه أداة ُالتَنميةِ ووسيلتُها. والذي حدثَ أيضاً أسوأُ من ذلك، فما دُمنا نستهلك ُ الطاقةَ ونستثمِرُ البِيئةَ فلا يُمكنُ لنا الفَلاتُ من الفَقرِ، والإعلامُ ساهمَ في ذلك.
فحينما نقرأُ أدبيّاتِ الإعلامِ، وخصوصاً تلك التي هاجمتِ المجتمعاتِ التقليديَّة وقالت بأننا يجب أن نستثمرَ المالَ الأجنبيَّ، حيثُ أصبحَ وجودُ المُستثمرِ الأجنبيِّ تقريباً من الأشياءِ المُقَدَّمَةِ، فقد بدأتْ مجتمعاتُنا تغوصُ في نِفاياتِ الدولِ الأخرى. فماذا نحتاجُ حسبَ ما يقولون؟
نحتاجُ إلى ’’تكنولوجيا‘‘ وهذه تُستورَدُ، نحتاجُ إلى رأسمالٍ وهذا يَنبغي أن يُستورَدَ، ونحتاجُ إلى أن نستأصِلَ العاداتِ القائِمَةَ بالتدريجِ لأنّها هي أساسُ التخلُّف.
وإذنْ فشلتِ التنميةُ الاقتصاديةُ لِحدِّ الآنَ، فجاءتِ المُنظماتُ الدُوَليَّةُ، والتي وراءَها الغربُ بالدرجةِ الأولَى، بمُصطَلَحٍ جديدٍ وهو التنمِيةُ المستَديمةُ أو المُستدامَةُ والتي تَعني أنّنا يجبُ أنْ لا نستهلِكَ كثيراً من الطاقاتِ القائمةِ ونُوَفِّرُ شيئاً للأجيالِ القادِمة. ولكنْ في واقعِ الأمرِ ما دامَ هناكَ نُموٌّ هناك استهلاكٌ للمواردِ، والتنميةُ المستدِيمة هي تقريباً عمليّةٌ شِبهُ خرافيّةٍ وهي أيضاً من ضِمنِ تَعابيرِ المجاملة.
ماذا طرحتِ التنميةُ المستديمة؟ طرحتْ علينا أن نضبُطَ السُكّانَ، وعمليّةُ الضبطِ السُكّانيِّ مرتبطةٌ بمفاهيمَ غربيّةٍ، فتحديدُ النسلِ أو ما يسمّونه بتَنظيمِ الأسرةِ ناجِمٌ عن تخوُّفٍ من تَزايُدِ عددِ سكّانِ الدُوَلِ الناميةِ، لأنَّ هناك في الدولِ الأخرَى هبوطاً في عمليةِ التناسُل. إذنْ هناكَ تخوُّفٌ من زَحفِ العالَمِ النامِي ببَشَرِه على العالَمِ المُتقدِّم، وهذه النقطةُ بالذاتِ تُغفَلُ دائماً في الأدبيّاتِ التي تتحدّثُ عن ضَبطِ السُكّان.
هُناكَ أيضاً البُعدُ الإِحيائِيُّ أو البِيئِيُّ. يَقولونَ يَجبُ أن نتوصَّلَ إلى بِيئَةٍ نظيفةٍ، لكنْ من الذي يُلوِّثُ هذه البيئة؟ إنَّ المسؤولَ عن ذلك ليسَ الدولَ النامِيةَ بل الأخرَى المُصَنَّعة بإنتاجاتِها. فإذنْ نحنُ نعاني، سواءٌ في البُعدِ البشريِّ أو البُعدِ الإحيائِيِّ السَيّئِ وحتَّى في البُعدِ ’’التكنولوجيِّ‘‘، من قُصورٍ في فَهمِنا لِهذهِ الجوانب. وأعتقدُ أنَّ الإعلامَ قد قَصَّرَ في كَشفِ ذلك، فالإعلامُ يجبُ أن يركِّزَ في الوقتِ الراهنِ على الجَوانبِ الإنسانيّةِ، على وَحدةِ الإنسانِ مع الطبيعةِ، لِأنَّ مصيرَ البشريّةِ مرتبطٌ بهذه الجوانب.
- إذَنْ هذا يَزيدُ من جَسامةِ المسؤوليّاتِ المُلقاةِ على عاتقِ الإعلامِ العربيّ.
- أنا بِصَراحةٍ لم أجدْ في الوقتِ الحاضرِ مقالَةً عربيّةً صريحةً تقولُ إنّ التَنمِيةَ المُستديمةَ مُستحيلةٌ، كُلُّنا نُرّحِّبُ بالتنميةِ المُستديمة، وأكَّدْنا عليها في مؤتمرِ القاهرةِ ومؤتمرِ البيئةِ، ولكنَّ التنمِيةَ المُستدِيمة بمفهومِها الحالي، لِأنّها مرتبطةٌ بالنُمُوِّ، تَنمِيةٌ مُستحيلةٌ لا يُمكنُ أن تُوجَدَ، وإنّما هناكَ عمليّةُ استهلاكٍ لِلطاقةِ ولِلمواردِ، والإعلامُ يجبُ عليه أن يَكشِفَ هذه النواحِيَ الخفّيةَ، وعلينا أن نَعرِفَ إلى أين نحنُ سائِرون، وأمّا أن نأتِيَ بالمفاهيمِ الأُخرَى دونَ وَعْيٍ نَقْدِيٍّ فإنَّ المسارَ سيكونُ عسيراً أمامَ شعوبِنا.
************
1- هاري ترومان Harry Truman (1884-1972)، الرئيس الثالث والثلاثون للولايات المتحدة، أشرف على إنهاء الحرب العالمية الثانية، كما أمر بإلقاء القنبلتين الذريّتين على هيروشيما Hiroshima و ناگاساكي Nagasaki.
نشرت في صحيفة ’’الميثاقِ الوطنيّ‘‘ (المغرب)، 6-2-1999.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1071 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع