قصة قصيرة / في قبضة الموت

                                           

                         بقلم أحمد فخري

         

      قصة قصيرة /في قبضة الموت

خرج الطبيب من حجرة عبد الحليم مطأطئاً رأسه ومثقلاً بالهموم، فقد كان الحزن بادياً عليه بشكل واضح. جلس على اريكة في صالة الجلوس ووضع رأسه بين يديه. لحقه عبد الحليم وجلس الى جانبه وقال،

- عزيزي دكتور لؤي، انت صديقي منذ الطفولة، فقد عشنا حياتنا على الحلوة والمرة، لذا ارجوك اخبرني ماذا وجدت في التقارير والتحاليل المخبرية هذه المرة؟
- سوف لن اكذب عليك يا اخي عبد. كما اخبروك الاطباء في المانيا واكدوا ذلك اطباء العراق، انت مصاب بسرطان الدم اللوكيميا وبمرحلة متقدمة جداً. التحاليل التي عملتها هذه المرة تؤكد ذلك، ليس هناك ادنى شك.
- ولكن بالتأكيد يجب ان يكون هناك علاج، اليس كذلك؟ فقد تقدم العلم ووجدوا دواءاً لكل داء الم يجدوا حلاً لمرضي بعد؟ ارجوك اخبرني؟
- انا جداً آسف عزيزي. لو كان مرضك بمراحله الاولى لكان هناك امل. الا انه في مرحلة متقدمة جداً وقد نال منك بشكل لا يقبل الشك ابداً. ارجو ان تتمالك نفسك فانت إنسان مؤمن وتعرف ان كل شيء يسير بارادة رب العالمين وبالاخص مسألة الحياة والموت. فلا تيأس من رحمة الله.
- وكم لدي من الوقت؟
- شهر واحد على اقصى تقدير.
- شهر واحد واغادر هذه الحياة؟ هل هذا معقول؟ لقد مررت بايام عصيبة جداً في الآونة الاخيرة، فانا لازلت اذكر نوبات الحمى التي كانت تلازمني والشعور بالارهاق والتعب ونزيف الانف الذي عانيت منه كل يوم الا يكفي ذلك؟ والآن جاء المرض ليقضي عليّ بالضربة القاضية؟
- قلت لك اخي عبد، يجب ان تتقبل حالتك هذه وان تترك امرك لخالقك. ما عليك سوى ان تستمتع بما تبقى لك من وقت، فكل يوم يمر عليك ثمين جداً. ولا تستسلم للحزن واليأس فهما لن يعوضاك عن خسارة تلك الايام الغالية. حاول ان تعمل اشياء طالما كنت تتوق لانجازها، حاول ان تسافر الى اماكن جميلة لم تزرها سابقاً. ما رأيك إذا خرجت في رحلة الى مصر أو المغرب أو الاردن؟ يقولون انها اماكن جميلة جداً وبها معالم اثرية فريدة من نوعها؟
- انها فكرة رائعة. سافكر بالامر وساخبرك لاحقاً ولكن على شرط ان ترافقني بالرحلة.
- هذا شيء صعب جداً فانا لا استطيع اغلاق عيادتي والذهاب معك، انت تعلم ذلك جيداً، ولمن ساترك مرضاي؟
- لكني مريضك ايضاً واعز صديق عندك واريدك ان تكون معي بأسوأ حالاتي. ارجوك لا تتركني وحدي، ارجوك.
- حسناً اعدك باني ساحاول ان اجد حلاً للعيادة. يجب أن اتصل بالدكتور فاروق، علّه يوافق ان يستلم عيادتي في فترة غيابي.
- بالتأكيد عزيزي لؤي. ففاروق انسان طيب وسوف لن يمانع إذا اخبرته عن حالتي.
- استأذنك الآن، يجب ان اذهب للعمل فقد تأخرت كثيراً.
- رافقتك السلامة دكتور، ولا تنسى ان تتصل بفاروق.
بعد ان خرج دكتور لؤي من منزل عبد الحليم. بقي صاحبنا جالساً بالصالة وهو يفكر بما دار بينه وبين طبيبه و صديق عمره لؤي. فكر ملياً بما قاله وهو يعلم تماماً انه إذا مات بين ذراعي صديقه فستكون اهون عليه بكثير من ان يموت وحيداً. لذا استبشر خيراً وقرر ان يتوجه الى حاسوبه كي يجد وجهة يسافران اليها. تنقل عبد الحليم من موقع لآخر ومن اعلان لآخر حتى وقعت عيناه على اعلان يقول، "سوف لن تجد بقعة اجمل من سوسة فهي تعدك بانها تجعلك تستمتع بالحياة"
تستمتع بالحياة؟ وكيف لي ذلك؟ هل ستعالجني بالكيمياوي ام الاشعاع؟ حسنا ساقترح على لؤي الذهاب الى تونس والى سوسة بالتحديد. بذلك المساء اتصل عبد الحليم تلفونياً بالدكتور لؤي وقال له،
- لقد وجدتها يا لؤي، ما رأيك بسوسة؟
- ماذا؟ ما هي سوسة؟ ماذا تقصد؟
- انها اجمل مدينة ساحلية بتونس لقد قرأت عنها كثيراً اليوم، تصور يا لؤي، يطلق عليها لؤلؤة الساحل وفيها اجمل واحدث الفنادق. يقصدها ملايين السواح كل سنة وفيها ميناء يدعى القنطاوي و...
- حسناً حسناً كما تشاء وانا ايضاً لدي خبر جيد سيفرحك كثيراً. لقد اتصلت بالدكتور فاروق وقد وافق ان يحل محلي في العيادة اثناء فترة غيابي.
- متى تعتقد ان علينا ان نحجز للرحلة؟
- باسرع وقت ممكن. لانك... لانك...
- لا تكمل. اعلم ذلك، ليس لدي وقت كثير وسأموت قريباً.
- اعلمني عن التواريخ حالما تحصل على كل المعلومات.
باليوم الثاني توجه عبد الحليم الى مكتب سفريات بالقرب من داره يدعى شركة النجف العالمية للسياحة والسفر. هناك التقى باحد اصدقائه القدامى، حياه بحرارة وقال له،
- كيف حالك يا عبد الزهرة؟
- انا بخير والحمد لله. وانت، هل انت بخير؟ الا زلت تعاني من امراضك؟
- الامراض لا تفارقني ابداً عزيزي عبد الزهرة لقد عقدت معها عقداً طويل الامد. المهم، اليوم جئتك كي ابحث عن رحلة الى سوسة لشخصان. وباسرع وقت ممكن.
- هل تقصد سوسة بتونس؟
- نعم هي بعينها. ما رأيك؟
- انها اجمل بقعة بالعالم العربي اهنئك على خيارك، انتضر معي لحظة واحدة لو سمحت.
فتح عبد الزهرة حاسوبه وصار ينظر اليه بامعان ثم بدأ يكبس الازرار فيكتب ملاحظاته على ورقة صغيرة بجانبه. ثم بعد حوالي خمسة دقائق نظر الى عبد الحليم وقال،
- هناك رحلة بعد ثلاثة ايام، اعتقد انها مناسبة لكما. تنطلق بك الطائرة من مطار بغداد وتتوقف بالقاهرة لمدة ساعتين ثم تتوجه مباشرة الى مطار قرطاج الدولي بتونس. ومن هناك تغيران الطائرة الى رحلة داخلية من مطار قرطاج الى مطار المنستير. والمنستير تبعد مسافة قصيرة عن مدينة سوسة والرحلة من ضمنها فندق اربعة نجوم بمدينة سوسة. ما رأيك؟
- انها ممتازة، ارجوك احجزها الآن. وسادفع لك المبلغ فوراً.
خرج عبد الحليم من شركة النجف حاملاً معه حزمة من الاوراق والتذاكر والابتسامة العريضة مرسومة على وجهه. جلس بسيارته واتصل بهاتفه المحمول على صديقه الدكتور لؤي، وعندما رفع لؤي السماعة قال له،
- أبشر يا لؤي، لقد اشتريت التذاكر وحجزت الفندق كذلك. سنذهب الى سوسة بعد ثلاثة ايام.
بعد ثلاثة ايام وفي الطائرة جلس عبد الحليم جنب شباك الطائرة وجلس الدكتور لؤي بجانبه فربطا احزمة المقاعد. اقلعت بهما الطائرة بعد خمسة عشر دقيقة وصارا على ارتفاع 33500 قدم. وبعد مضي 8 ساعات اعلن القبطان ان الطائرة ستهبط بمطار قرطاج الدولي بتونس العاصمة. نزل الراكبان من الطائرة وفتشا عن الرحلات المحلية. من هناك ركبا طائرة اصغر بكثير من الاولى متجهة الى مطار المنستير. وبعد 45 دقيقة حطت طائرتهما فغادرا مع باقي الركاب من الطائرة حاملين معهما حقائبهما. وفي خارج مبنى المطار سمعا مناديا ينادي "باص الى الفندق بعشرين ديناراً فقط" ركب كثير من السواح الاجانب بتلك الحافلة وتبعهما عبد الحليم ودكتور لؤي. سارت بهم الحافلة لمدة نصف ساعة حتى مرت بمزارع نائية فتوقفت هناك. وسأل عبد الحليم صاحبه،
- لماذا توقفنا هنا؟ هل هناك عطل في الحافلة ؟
- لا اعلم، دعنا ننتضر قليلاً وسوف نرى.
انفتحت باب الحافلة وصعد رجلان ملثمان وبيدهما بنادق كلاشنكوف، صرخ الاول بصوت مرتفع،
"بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله، تحيى الدولة الاسلامية. انا اسمي الامير ابو ذر وانتم الآن بقبضتنا ايها الكفار الزناديق. سوف نأخذكم عندنا حتى يأذن الله لنا كي نبعثكم الى جهنم وبئس المصير. اريد منكم جميعاً الهدوء التام والا فانكم ستلاقون مصيركم مبكراً. سوف اقوم باعدام اي واحد منكم حالما يفتح فمه."
هم الارهابي الثاني بربط خرق متسخة على اعين الركاب الواحد تلو الآخر حتى وصل الى عبد الحليم فهمس عبد الحليم باذنه وقال،
- هل تأذن لي بالحديث؟
- اسكت ايها الاحمق والا قتلك الامير.
اراد عبد الحليم ان يعلق شيئاً الا انه تراجع من شدة الخوف فالرجل لم يكن يمزح بتهديده، والآن ليس الوقت المناسب كي يخبرهم بمرضه. بقت الحافلة واقفةً لفترة من الزمن بينما بقي جميع الركاب معصوبي الاعين حتى حل الظلام واصبح كل شيء معتم حولهم. ابتدأت الحافلة بالسير ببطئ شديد اولاً ثم بسرعة عالية. بقي الجميع مسمراً بمقعده والصمت كان سيد الموقف. كل الرهائن كانوا من الاجانب ما عداه هو وصديقه الدكتور لؤي. قدر عبد الحليم الاجانب بانهم على ما يبدو 30 او 40 راكباً. خفض رأسه وابتدأ بترتيل الآيات من القرآن الكريم بسره.
وبعد حوالي 4 ساعات توقفت الحافلة بمنطقة صحراوية نائية. صرخ الارهابي بصيغة الأمر قائلاً "الجميع يزيل عصاب عينيه وينزل" فلم يفهم ما قاله السواح فسأل الامير، "هل هناك من يفهم الانجليزية؟"
فرفع الدكتور لؤي يده وقال،
- انا اتكلم الانجليزية.
- إذاً اخبرهذه الخنازير ان عليهم النزول من الحافلة .
- The man said, you must leave the bus now
انتفض جميع الركاب وغادروا الحافلة بشكل منتضم وبهدوء تام وهم يرتعدون من شدة الخوف. طلب الارهابي من الدكتور لؤي ان يتقدم الى الامام ويبقى الى جانبه ففعل. صار الجميع يمسك بيد من بجانبه ويسيرون بخط واحد حتى بلغوا مكاناً فيه رائحة نتنة كما لو كانت مقبرة. صرخ احد الارهابيين على الجميع كي يجلسوا على الارض. فترجم لؤي ذلك بالانجلزية، فجلس الجميع على الارض. صار الجميع ينظر حوله بذهول تام. وجد عبد الحليم نفسه على مسافة خمسة امتار او اكثر من صاحبه الدكتور لؤي. بعد ان دعك عينه جيداً نظر حوله فوجد انها مغارة كبيرة تبدو بداخل تل مرتفع ووجد السواح بحالة يرثى لها. فهم يرتعدون من الخوف لعلمهم انهم سوف لن يخرجوا من ورطتهم هذه احياء. حاول ان يبعث باشارات لصاحبه، الا ان صاحبه ادار رأسه بعيداً عن عبد الحليم كي يتلافى العقاب.
- اليوم ستنامون هنا وسنقرر ماذا سيحل بكم في الغد. وقبل ذلك اريد ان ينفصل الاناث عن الذكور. فالذكور ينامون هنا اما الاناث فيتبعونني.
كان لدى احدى السائحات طفلاً يبدو ان عمره خمس او ست سنوات فنطقت وقالت،
- ابني يريد ان يذهب الى المرحاض، فهل تأذن لنا بذلك؟
وقبل ان يتمكن الدكتور لؤي من ترجمة ما قالته المرأة، سحب الارهابي اقسام بندقيته واطلق وابلاً من الرصاص على السائحة وابنها فارداهما قتيلين. نظر الارهابي الى الدكتور لؤي وقال،
- اطلب من اثنان من الكفار كي يخرجوا هذه العاهر وابنها الى خارج المغارة، هل فهمت؟
اومأ الدكتور لؤي برأسه وترجم ما قاله الارهابي، فوثب اثنان من السواح وقاما بنقل القتيلة وابنها الى خارج المغارة.
بعد ان خلد الجميع الى النوم بتلك الليلة زحف عبد الحليم نحو صاحبه الدكتور لؤي وقال له،
- ما هذا الذي يجري؟ أهذه حقيقة؟ انا لا استطيع ان اصدق كل ذلك، فقد كنا نقرأ عن داعش وعن جرائمهم وكأنها خرافة لن نشاهدها في حياتنا ابداً. وها نحن اليوم نعيشها بابشع صورها. كيف حصل ذلك؟ وهل ساقضي الايام القليلة الباقية من عمري وانا اتألم بهذه المغارة النتنة؟
- عليك ان تتماسك اخي عبد، فليس هناك من يستطيع ان يتنبأ ما سيفعله هؤلاء المجرمون. اذهب واغمض عينيك الآن وسنرى ماذا سيضمر الغد.
رجع عبد الحليم الى مكانه واستسلم للنوم وهو خائف مرعوب. باليوم التالي استيقض الجميع على صلية من بندقية احد الارهابيين فنظروا واذا به يقول، "استيقضوا ايها الكفار". فوثب الجميل واقفاً بعد ان ترجم لهم الدكتور لؤي ما امر به الارهابي. قال بصوت مرتفع، "اليوم سوف نخرج جميعاً ونجني بعض من الزلاميطا". لم يجرؤ احد ان يسأله عن ماهية هذه الزلاميطا التي يتحدث عنها فتبعه الجميع. خرجوا خارج الكهف واذا بهم يشاهدون صحراء قاحلة لا فيها انس ولا جان. مشوا قليلاً حتى وصلوا الى كتلة صغيرة من عشب لونه وردي يميل الى الاحمرار فيه اوراق صغيرة مدورة تشبه عود الثقاب. امر الارهابي كي يبدأوا بقطف العشب وقال،
"خذوا اوراق الزلاميطا فحسب، لا تقطفوا العشب كله"
نظر دكتور لؤي الى العشب لكنه لم يعرف ما هو فهو لم يشاهد مثله في حياته. لكنه لم يكن ينوي ان يرفض للارهابيين طلباً فقام بالقطف مع زملائه الرجال. بعد ان عادوا جميعاً الى المغارة قال احد الارهابيين،
- كلوا من الزلاميطا الآن. انها رزق من الله.
ترجم الدكتور لؤي ما قاله الارهابي فقام الرهائن بوضع القليل من العشب بفمهم ثم ابتدأوا بمضغه بتردد الا انهم وجدوا ان طعمه لم يكن سيئاً، لذلك صاروا يمضغونه بشكل اعتيادي. اما الارهابي فاحضر حاوية كبيرة من الماء من سيارته ووضعها في وسط المغارة وقال، "بامكانكم توزيع الماء على الباقين" فتطوع رجلان من الرهائن وقاما بمهمة توزيع الماء على الجميع. اما النساء فلم يسمع عنهما اي شيء منذ ان غادرا مع الارهابي في الليلة السابقة.
شعر عبد الحليم ولؤي بالشبع بالرغم من انهما كانا يأكلان ذلك العشب بتقزز. قال عبد الحليم،
- هل تعتقد ان العشب مسموم؟
- لا اعتقد ذلك، لانهم لو ارادوا قتلنا لفعلوا ذلك منذ ليلة الامس.
- برأيك لؤي، من اين جائوا بهذا الاسم الغريب لهذا العشب.
- لا اعلم.
فجأة سمعا احد الرهائن يصرخ بصوت عالٍ وهو يتألم. وثب دكتور لؤي بشكل تلقائي دون ان يفكر كي ينقذ الرجل. تبعه عبد الحليم وهو يقول،
- الم اقل لك ان العشب مسموم. لقد سممونا هؤلاء الوحوش.
تفحص دكتور لؤي ذلك الرجل ونظر الى عبد الحليم ثم قال،
- انه لا يعاني من تسمم. بل ان زائدته الدودية قد انفجرت وعليهم نقله الى اقرب مستشفى.
وبهذه الاثناء دخل الى المغارة مسرعاً احد الارهابيين وهو يصرخ. ابعد عنه، ابعد عنه.
- انا طبيب يا اخي. لا تقلق.
- انت لست اخي ايها الفاجر. ماذا حل به؟
- انه يعاني من انفجار الزائدة الدودية، ويجب علينا نقله الى اقرب مستشفى والا فانه سيموت لامحال.
- بل سيموت الآن.
سحب الارهابي اقسام بندقيته واطلق عليه رصاصتين فارداه جثة هامدة. صرخ بالرهائن مشيراً باصبعه الى خارج المغارة،
- انتهى الامر. اخرجوه جميعاً خارج المغارة.
تسمر جميع من في المغارة من هول عمل الارهابي. وبعد بضع ثوانٍ قال الدكتور لؤي بالانجليزية "علينا اخراجه الى الخارج ". فوثب اثنان من الرهائن وسحبا جثة المقتول الى خارج المغارة تاركين ورائهم خطاً معفراً من الدم.

بعد فترة من الزمن اعتاد الرهائن على معاملة الارهابيين لهم بتلك القسوة المفرطة فقد قتل منهم اربعة عشر رجل. اما النساء فلا يعرف احد مصيرهن. وفي احد الايام سأل عبد الحليم صاحبه قائلاً،
- كم مكثنا في هذا المكان المشؤوم يا ترى؟
- اعتقد اننا هنا منذ اكثر من شهر ونصف. لماذا تسأل؟
- الم تقل لي باني لا املك اكثر من شهر واحد بسبب مرضي ثم اموت؟
- نعم ولكن ذلك رقم تقديري. فقد تطول المدة او تقصر ولكن ليس هناك وقت مضبوط أومحدد. وارادة الله هي العليا.
- تبدو لي أن جميع الاعراض التي كانت تلازمني سابقاً قد اختفت.
- هاهاها هذا شعور نفسي فقط. ولا تؤمل نفسك بامور خيالية فانت خائف والاعراض الاخرى بدت غير مهمة بالنسبة لك. اتفهم ذلك؟ كن واقعياً يا صديقي وتقبل مصيرك. وبينما هما يتحدثان دخل عليهم احد الارهابيين وقال موجهاً حديثة للدكتور لؤي،
- جهز حالك فوراً، سوف تأتي وجبة جديدة من الكفار اليوم، وعليك ان تترجم لهم اوامرنا، مفهوم؟
- اجل مفهوم، لا تقلق.
وبعد نصف ساعة سمع دوي محرك حافلة متجهة نحو مغارتهم فخرج الامير ابو ذر رئيس الارهابيين وبعد نصف دقيقة عاد مسرعاً وهو يصرخ. "انها خدعة، لقد حاصرتنا قوات الدرك التونسي. تجمعوا ايها الخنازير في مركز المغارة"
لم يرغب دكتور لؤي ان يترجم للاسرى ما قاله الامير ابو ذر لانه يعلم يقيناً انهم إذا ما تجمعوا فان الارهابي سوف يفتح عليهم نيران بندقيته ويرديهم قتلى جميعاً. بل قال بصوت مرتفع بالانكليزية، "ليهرب الجميع بكل الاتجاهات"
بدأ دوي الرصاص يسمع بشكل مرتفع من كل الجوانب ومن الواضح ان قوات الدرك قد تغلبت على الارهابيين عدة وعدداً. لكن دوي الرصاص مازال يصم الآذان. سحب الدكتور لؤي صاحبه واتجها نحو صخرة كبيرة في زاوية من زوايا المغارة واختبئا هناك حتى توقف دوي الرصاص ودخل بعض الجنود بحذر وببطئ شديد. علم الصديقان انهما في امان الآن لان الارهابيين قد خسروا المعركة وقد قتلوا جميعاً. وقف الصديقين رافعين ايديهم الى الاعلى خوفاً من ان يخطئوهم فيرموهم الا ان آمر قوة الدرك توجه نحوهم وهو يبتسم وقال،
- لا تخافا مني واخفضا أيديكما. اتفهمان العربية؟
- نعم انا وصديقي عبد الحليم من العراق. اما بقية الرهائن فهم اجانب ولا يتكلمون الا الانجليزية. وكنت انا من يترجم لهم ما يقوله الارهابيون.
سأل احد الرهائن الاجانب الضابط التونسي بالانكليزية وقال،
- هل قمتم بانقاذ نسائنا؟
- للاسف لا يا سيدي. فقد قام الارهابيون بقتلهن جميعاً بعد اغتصابهن، تعازيي الحارة. لدينا اوامر من القيادة العليا ان نتحفظ عليكم جميعاً الآن ثم سنقوم بنقلكم الى مستشفى قريبة لاجراء الفحوصات الطبية كي نتأكد من سلامتكم. احضرنا لكم معنا كمية وافرة من الطعام والشراب. الآن نرجو منكم ان تتغذوا جميعاً حتى تأتينا الاوامر كي نتحرك الى المستشفى.
ابتدأ الرهائن بتناول الطعام والشراب بشكل ملفت للنظر، فقد كانوا محرومين منها لمدة شهر ونصف ولم يتناولوا سوى العشب الذي كان الارهابيون يسمحون به. وبعد ان اتموا وجبة الطعام امر ضابط قوة الدرك بركوبهم حافلة الشرطة فركبوا وسارت بهم الحافلة. حال وصولهم المستشفى وجدوا طاقماً طبياً كبيراً في انتضارهم فادخلوهم وصاروا يجرون عليهم الفحوص الطبية بشكل مكثف. وعندما وصلوا الى عبد الحليم تبسم وقال،
- لا داعي للكشف علي، فانا اعرف حالتي.
- ومع ذلك سيدي، يجب علينا فحصك كما فعلنا مع باقي الرهائن.
سلم امره لله ودخل مع الفريق الطبي الى غرفة كبيرة حيث اجروا عليه كل انواع الفحوصات ثم اخرجوه كي يجلس في الخارج مع باقي الرهائن لينتضر نتائج الفحص.
- سوف يستدعيكم الطبيب المختص، كل واحد على حدة كي يخبركم عن حالتكم الصحية. الشخص الاول جون بيير لا بيير.
دخل جون بيير لا بيير مع الطبيب واغلق الباب. وبعد نصف ساعة نادا المنادي، فرانسيس سوفاج. فدخل فرانسيس سوفاج وقابل الطبيب وبعد ذلك صاروا ينادون الرهائن الواحد تلو الآخر حتى وصل الدور الى عبد الحليم. فدخل وجلس امام الطبيب وقال له،
- تفضل سيدي. هل وجدتم علاجاً لمرضي؟
- اي مرض هذا يا سيد عبد الحليم؟ انت بصحة جيدة وكل المؤشرات توحي بانك افضل من اي واحد من الرهائن الباقون.
- لكنك مخطئ يا دكتور. فانا عندي اللوكيميا وكان يجب ان اموت قبل اسبوعين.
- اي لوكيميا هذه استاذ؟ انت معافى ولا تشكوا من اي شيء.
- هل انت متأكد يا دكتور؟ فان سبب حضوري الى تونس هو ان ارى سوسة للمرة الاخيرة بحياتي قبل ان اموت. علماً ان طبيبي وصديقي عمري معي هنا حالياً وقد كان واحداً من الرهائن هو الآخر، وهو مطلع على حالتي منذ البداية. هل تأذن له بالدخول.
- بالتأكيد، ارجوك نادي عليه.
خرج عبد الحليم الى خارج ردهة الطبيب ثم عاد بعد ثوانِ ومعه صديقه الدكتور لؤي.
- السلام عليكم، انا الدكتور لؤي. طبيب الاستاذ عبد الحليم وصديقه منذ الطفولة.
- وعليكم السلام سيدي، مرحباً بكم وباهل العراق. حسناً، عن ماذا يتكلم صاحبك؟ هل حقاً اكتشفتم ان عنده مرض اللوكيميا؟
- نعم كل الفحوصات التي اجريت له في المانيا وفي العراق تؤكد ان لديه مرحلة متطورة من هذا المرض.
- حسناً يا دكتور، اريدك ان تطلع على نتائجنا التي اجريناها عليه قبل قليل. انظر الى هذه الجداول وهذه الصور.
نظر الدكتور لؤي فاحصاً النتائج بدهشة تامة وصار يراجع الصفحات ثم يعود الى ما قبلها ويتفحصها ثانية ويقول،
- هذا مستحيل، انه شيء لا يصدق! لا يمكن ان تكون هذه النتائج صحيحة الا تمكنتم من اعادة الفحص الثاني والخامس لو سمحتم؟
- بكل تأكيد.
نادى الطبيب التونسي ممرضته وقال لها بالفرنسية ما معناه خذي السيد عبد الحليم واعيدوا اجراء الفحص رقم 2 و رقم 5. خرج عبد الحليم مع الممرضة بينما جلس الدكتور لؤي على كرسيه يترشف الشاي الاخضر الذي طلبه له الطبيب التونسي. وبعد نصف ساعة عادت الممرضة ممسكة بحزمة من الاوراق يتبعها عبد الحليم. اعطت الاوراق الى الطبيب التونسي، فالقى عليها نظرة خاطفة ثم دفعها الى الدكتور لؤي الجالس امامه.
- هذا مستحيل. لا اصدق ابداً. كيف تعافى منها. هذا لا يعقل ابداً!
- يا دكتور لؤي. دعني اسألك سؤالاً مهماً: ماذا كان السيد لؤي يتناول اثناء فترة الاسر؟
- كنا جميعاً نتناول اعشاب نقطفها من المناطق الصحراوية المحيطة بالمغارة التي كنا محتزجون بها.
- هل تذكر اسم ذلك العشب؟
- نعم كان الارهابيون يطلقون عليه اسم زلاميطاً.
- باللغة الدارجة زلاميطا هي زلوميت les allumettes وتعني عود ثقاب.

         


- نعم، نعم كانت اوراق العشب تشبه عود الثقاب. وهذا ما كنا نتناوله طوال فترة احتجازنا.
- إذاً فان العشب هذا هو من عالج صاحبك وقتل الخلايا السرطانية بجسمه. سبحان الله.
- سبحان الله ولا حول ولا قوة الا بالله.
نظر الدكتور لؤي الى صاحبه وقال. رب ضارة نافعة. لقد اراد الله لك الشفاء وجعل هذه الرحلة سبباً كي تعيش ايامك المستقبلية مشافى معافى، ربما كان سبب نجاتك بدعاء الوالدين. دعنا نعود الى بغداد ونحن محملون بفضل الله علينا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1231 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع