كيف كنّا نفكر عندما كنّا صغارا؟

                                            

                       اسماعيل مصطفى


كيف كنّا نفكر عندما كنّا صغارا؟

لاشكّ أن حياة الطفولة، هي من أجمل وأحلى مراحل حياة الإنسان، وإن كنّا لانشعر بها في حينها، لكن عندما كبرنا وعبرنا سنّ الخمسين، بدأنا نحنّ لتلك السنين الخوالي ونتمنى أن تعود، ولكن اقتضت سنّة الحياة وحكمة الباري تعالى أن الماضي لا يعود مهما فعلنا وهذه حقيقة تكاد تكون مرّة وهو ما يتفق عليه الجميع إلّا ما ندر.

ومن الأمور التي كنّا نتعاطاها ونحن صغار في مرحلة الابتدائية أو بعدها بقليل إننا كنّا نتعجب عندما نرى مثلاً شخصاً يظهر على شاشة التلفزيون ونشاهده في وقت آخر يمشي في السوق أو في مكان عام آخر، وكأن هذا الشخص نازل من كوكب آخر أو قادماً من بلدٍ لا نراه إلّا في خرائط الجغرافية.

وأنا أتذكر جيداً كيف تعجبت عندما رأيت لأول مرّة لاعب كرة قدم عراقي مرموق وهو يلعب ضمن فريق شعبي في منطقتنا، لأني لم أكن أتصور يوماً أن أراه أمامي في الواقع، وكأن إمكانية رؤيته مقتصرة على شاشة التلفزيون. والطريف في الأمر أن هذا اللاعب نفسه كان يشعر بنا من حوله إننا متعجبون لأننا نراه أمامنا وليس من خلال التلفزيون.

الأمر الآخر الذي كنّا نتعجب منه هو عندما يأتي أحد معلّمينا في المدرسة إلى منطقتنا أو يحضر أحد مجالسها سواء في فرح أو حزن، لأننا كنّا نتصور أن المعلم ليس مخلوقاً مثلنا وعلينا أن نراه في المدرسة فقط وهو يلقي علينا المنهج الذي أقرته وزارة التربية والتعليم للمراحل الأولى من الدراسة.

ومما كنّا نتعجب منه أيضاً أن بعض الناس الذين يكبروننا سنّاً كانوا يسلّمون علينا في بعض الأحيان أو نرى أحدهم في غير المكان الذي اعتدنا أن نراه فيه، وكأن هؤلاء الأشخاص مخلوقون ليعيشوا في مكان واحد فقط، وكأننا أيضاً مخلوقون للعيش في ذلك المكان فقط. وهذا الأمر شعرت به عندما رأيت في إحدى المرّات معلم مادة اللغة الانجليزية في مدرستنا وهو يدخل إحدى المحلات في منطقة بعيدة عن منطقتنا، وعندما سلّمت عليه أخذتني الرهبة، لأني تفاجأت به كما تفاجأ هو بي أيضاً عندما رآني في ذلك المكان وأنا ماسك بيد المرحوم والدي لشراء بعض الحاجات من ذلك المحل.

                

            صورة المرحوم والدي قبل حوالي 50 عاما

وأتذكر جيداً كيف كنّا نتعجب ونحن صغار من رؤية حيوان لايعيش في أوساطنا عادةً مثل القرد أو الحيّة لأننا كنّا نظن أن هذه الحيوانات وأمثالها لا يمكن رؤيتها إلّا في "القراءة الخلدونية" أو أي كتاب آخر في المراحل الأولى من الدراسة.

والآن مرّت في ذهني خاطرة وهي أني رأيت في إحدى المرّات خليّة نحل يخرج منها عسل في بيت أحد الناس الذين التقيت بهم بالصدفة فتعجبت في حينها، لأني كنت أتصور أن النحل والعسل لايوجد إلّا في الكتب المدرسية أو المجلات أو عند العوائل الراقية مادياً لأننا كنّا نعيش في منطقة شعبية وفقيرة وذات كثافة سكّانية عالية، وفيها لم يرَ معظم الناس طيلة حياتهم - حتّى الكبار- نحلاً ولا عسلاً وإنّما كانوا يسمعون به أو يرونه، مثلما نراه نحن الصغار في الكتب الدراسية فقط.

ومن الأمور التي كنت أتعجب منها هي عندما أرى أحد المعلمين وهو يشتري الخبز أو أي شيء آخر لعائلته، وكأن المعلم ليس إنساناً مثلنا، أو لا يحتاج إلى الأكل هو وعائلته، والسبب في هذا التفكير - كما هو معلوم- هو الأفق الضيّق الذي كان يهيمن على عقولنا عندما كنّا صغاراً وتحديداً في المرحلة الابتدائية من الدراسة.

ومن الأمور التي أتذكرها الآن وأنا في العقد السادس من حياتي أنني كنت أتصارع مع ابن عمٍّ لي عندما كنّا صغاراً لأن الخبّاز في منطقتنا واسمه عثمان وهو تركي الأصل ولهذا يسمّونه "عصمان" كان يعطي لمن يفوز في المصارعة قرص رغيف صغير، يطلق عليه الناس اسم "الحِنّاية" بعد أن يضحك علينا وهو يرانا نتصارع ويدمي أحدنا الآخر من أجل الظفر بـ"الحنّاية".

هذه الخواطر أحببت أن أذكرها في هذه السطور، لأقول مرّة أخرى أن الطفولة لايمكن أن تمحى من الذاكرة ما لم يصبنا الزهايمر، كما لايمكن أن تعود، وحتماً لكل منّا خواطر لازال يحملها في ذهنه قد تتشابه مع ما ذكرته أو تختلف عنه، لكنها في كل الأحوال تؤكد أن الطفل يرى الأشياء بغير ما يراها الكبير، ولهذا يتعجب منها، وهذه حكمة الله سبحانه التي تريد أن تقول للإنسان أنك كنت جاهلاً في الصغر وعلمّك الله من علمه عندما كبِرت، فلا تغتر بما عندك من علوم ومعارف وتواضع للناس كما تحب أن يتواضع لك الآخرون. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

924 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع