بقلم احمد فخري
عطر ساحر بالسوق الحرة
إذا كنت مثلي كثير الترحال جواً فانك لا محال ستؤيدني بما سأقوله لك الآن. دعني اشرح التفاصيل لو سمحت لي:
في عام 1963 اي قبل حوالي 53 عاماً عندما كان عمري 9 اعوام دخلت الى مطار بيروت الدولي مع والدتي في طريق العودة من رحلة الاستجمام بمصايف لبنان الجميلة، كانت اقامتنا في مصيف يدعى بحمدون في الجبل حيث مكثنا هناك 30 يوماً، خلاصة الحديث، لاحظت وانا اتجول بالسوق الحرة ان هناك عطر جميل مميز لم يسبق له ان مر على انفي وقد سحرني لدرجة كبيرة. عطر له حلاوة وقوة كما لو كان قد صنع للتو من زهور الجنان الفواحة. استفسرتُ من والدتي عن هذا العطر فاجابت بانها هي الاخرى تجهله تماماً لكنها ايدتني بانه عطر اخاذ. طلبت منها بالحاح كبير باني اريد ان اقتني هذا العطر لنفسي فهل لها ان تشتريه لي؟ اجابت بانها لا تعرف اسمه لكني بقيت بحالة الحاح شديد وانتم تعرفون كيف يلح الطفل على شيء ولا تخبو طاقته الا ويحصل على ما يريد. كانت والدتي رحمها الله من عشاق العطور. فقد كان والدي يجلب لها الكثير من الاصناف الفرنسية كلما خرج في رحلة الى خارج العراق. لذلك كانت معلوماتها عن العطور لاتضاها. بحَثَت قليلاً بين اكشاش العطور وصارت تشم الواحد تلو الآخر، وبآخر المطاف سرخت بانفعال وقالت "وجدته يا احمد وجدته" دفعت ثمنه وانطلقنا الى الطائرة على عجال.
عندما وصلنا الى بيتنا ببغداد قمت بفتح الزجاجة وشممتها، لكني اصبت بخيبة امل كبيرة. انه لم يكن العطرالذي شممته بمطار بيروت. كيف تغلطين يا امي وتشترين لي العطر الذي لم اطلبه منك؟ بدأت الصراخ والعويل. الا ان والدتي كان لديها صبر محدود وبدأ الغضب يتطاير من عينيها وقالت، "لقد تحدثنا كثيراً عن هذا العطر اللعين، اغلق فمك الآن وكفاك بكاءاً وعويلاً فقد طفح الكيل والمحطة التالية ستكون امور لا تعجبك"
علمت وقتها ان امي لا تمزح بمثل هذه الامور وان عقابها يتناسب طردياً مع نوع التهديد الذي كانت تطلقه بين الفينة والفينة. تركت العطر الجديد على سريرها ورجعت الى غرفتي كي لا اتلقى العقاب الذي هددتني به.
بعد مرور سنة كاملة على هذه الحادثة شائت الظروف ان قرر والدي اخذنا جميعاً (انا ووالدتي واخواتي الكبار) بجولة في لبنان ومصر وانكلترا وبلجيكا ثم العودة الى بغداد. كانت هذه الرحلة مخطط لها كي تدوم 3 اسابيع. وكما حصل معي في العام الذي قبله فقد وردت الى انفاسي نفس الرائحة التي عشقتها بمطار بيروت قبل عام كامل الا اني كنت بصحبة والدي هذه المرة وهو لا يهدد بمثل هذه الحالات كما كانت تفعل والدتي بل كان ينزل اقصى العقوبات فور حدوث الحادث. لذلك علمت ان من الحكمة اتخاذ الصمت كملاذ آمن وان لا اثير غضبه خوفاً من عقابه الذي لا يرحم. بقيت اشم هذا العطر كلما دخلنا الى سوق حرة باي مطار وصلنا اليه او غادرناه الا ان صوت العقل والمنطق كانا يحرسانني من تبعات دلع الاطفال.
وبعد ذلك بسنين طويلة بقيت اشم هذا العطر كلما دخلت مطاراً جديداً. ولحد يومنا هذا بقي ذلك العبق يقلقني لاني لم اقتنيه، وسألت نفسي لماذا هذا العطر بالتحديد؟ ولماذا لم يتغير او يندثر عبر السنين؟ قررت وقتها وبعد عشرات السنين ان اصرف الكثير من الوقت والجهد كي احقق رغبة الطفولة. وحرصت في رحلاتي الموالية ان اصل الى المطار مبكراً بعض الشئ قبل موعد الرحلة علني احصل على حلمي الذي راودني منذ الصغر. كل مرة كنت اسأل بائعات العطور عنه فيقمن بكل جهد لارضائي.
ولكن دون جدوى وكن دائماً يعرضن علي عطوراً بديلة ويقلن ان هذا عطر جديد نريدك ان تجربه. ولكن هيهات يصل الى ذاك العطر الرائع الذي بقي طوال نصف قرن يؤرق فضولي.
في يوم ما من العام الماضي 2015 كنت جالساً امام حاسوبي اقرأ مقالة عامة عن ادوات التجميل، حينما وصلت الى نقطة تسمى بالانكليزية
Perfume layering or Fragrance cocktailing
وهي تعني خلط العطور مع بعضها البعض. كانت المقالة تحكي كما يلي:
ان خلط العطور والخروج بعطر مميز لا يمت للعطر الاصلي باي صلة هو فن اتبعته النساء عبر مئات بل الآف السنين. سألنا السيدة لوريس رهمي مؤسسة ومديرة لشركة عطور كبرى تدعى بوند رقم 5
(Bond No. 5)عن هذه العملية اي عملية خلط العطور فاجابت ان النساء دائماً يرغبن بان يكون لديهن عطراً خاصاً ومميزاً يختلف عن العطور لدى باقي النساء. لذلك يقمن بعمل التجارب وذلك بخلط اثنان او اكثر من العطور المتاحة لديهن وبنسب متفاوتة كل مرة حتى يصلن الى عطر مميز تفتخرن بانهن هن من اكتشفنه وان النساء الباقيات لا يستطعن ان يضعن ايدهن على سره. انتهى الاقتباس.
هنا دق الجرس في رأسي. لقد وصلت الى اللغز الذي كنت اطارده لاكثر من نصف قرن. كيف اني لم افكر بذلك؟ علمت يقيناً وقتها ان العطر الذي ابحث عنه هو عطر خيالي ليس له وجود بالحقيقة. بل هو رائحة مختلطة تتكون من روائح تتطاير من جميع العطور الاخرى التي تقوم البائعات برشه على الزبائن كي يقمن بتجريبه. اذاً انا كنت اشم كوكتيل من روائح العطور وليس عطراً واحداً محدداً. بعد ان بقيت اضحك على نفسي ومدى سذاجتي لان فكرة الخلط هذه لم تراودني وهي فكرة بسيطة ومنطقية. والسبب في انها مميزة هي ان جميع اسواق الحرة في جميع انحاء العالم يبيعون نفس العطور العالمية الاصلية لذلك وكحصيلة نهائية يخرج منها عبق واحد مميز لهذا الاتحاد الجميل.
بعد ان اكملت قراءة هذه المقالة فتحت الانترنيت كي اقرأ الاخبار واذا بخبر يستوقفني ويشدني من ذقني مفاده ان عدد النازحين المسيحيين بالعراق يصل معدلات كارثية. انتهى الخبر
هنا طرحت على نفسي هذا السؤال: ماذا لو خرج جميع المسيحيون من العراق؟ ثم تذكرت ان العرب السنة يتهجرون هم الآخرين فاضفت الى سؤالي والسنة ثم اضفت والصابئة ثم اضفت والتركمان ثم اضفت والشيعة ثم اضفت والاكراد ثم اضفت والايزيديين ثم اضفت والفيليين. فماذا سيحصل؟ هل سيبقى العراق عراقاً؟ هل ستبقى جمالية هذا البلد تتلألأ لتميزه عن باقي بلدان العالم؟ وسرعان ما ربطت العطر المميز بالسوق الحرة مع تميز الخليط الموجود ببلادي. وعلمت وقتها ان العراق سوف لن يبقى عراقاً. سوف يتجزأ الى ملايين الاجزاء على عدد الطوائف والاحزاب والمذاهب والاديان المتناحرة بالبلد. وسوف يفقد عبق الجنة التي خصها الله به منذ الاف السنين.
ابكيك يا عراق.
احمد فخري
879 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع