رحلة مع المشحوف وصيد السمك في الأهوار

             

           رحلة مع المشحوف وصيد السمك في الأهوار

        

(في ملحمة جلجامش) خادمة الحانة أجرت محادثة طويلة مع جلجامش، الذي يتباهى بمآثره، ويضطر إلى شرح سبب ظهوره، عندما طلب المساعدة في العثور على أوتنابيشتيم، تشرح صعوبات الرحلة لكنها توجهه إلى أورشانابي صاحب المركب، الذي قد يمكن من مساعدته على عبور المحيط الجوفي ومياه الموت المشؤومة.

             

عرف إنسان وادي الرافدين القديم الزورق بأشكال مختلفة، وكان يستخدمه لنقل قوته، وبضائعه، وقواته ومؤنة والصيد، لذا صنع السفن الشراعية في عهد العبيد، دلالة ما وجد من نماذج في أور وأريدو وكان الزورق السومري شبيهاً بالمشحوف، المستخدم حاليا في جنوب العراق، فقد وجد زورق من الفخار في أريدو كما تم العثور على زوارق أخرى في الوركاء وتل بلا وقد نحتت من الحجر.
استخدم السومريين المجاديف وكذلك العمود (المردي) الذي يستخدم في جنوب العراق حتى الآن، ويظهر استخدام المرادي من قبل النوتي (اور شنابي) وهو يقود جلجامش الى سيده اوتانابيشتم ( نوح الطوفان) وأول ما تحدثنا الأسطورة عن سفينته ، فقد قطع أعمدة طويلة يدفع بها الزورق، كان النوتي لا يستعمل العامود إلا مرة واحدة في دفع الزورق، لذلك استعمل ما لا يقل عن مائة وعشرين عمودا لعبور مياه الموت.

        

كان القارب يحرك من قبل رجل أو رجلين، بمجاديف وحيدة، وهكذا يتحرك الى الأمام دون أن يدور حول نفسه، ويبدو أن الزوارق كانت تستخدم نزهات العشاق أيضا، فنجد في "أسطورة الاله انليل السومرية" (استشار انليل وزيره نسكو، واطلعه على رغبته في ننليل الساحرة، فصنع له نسكو زورقا، كان انليل ينخر عباب الماء برفقه ننليل)، فبلاد الرافدين بلاد الحب والعشاق، فيستحيل أن توجد مياه وخضرة وموسيقى وشعر ولا يوجد الحب، كان البطل في اغلب الحكايات والأساطير الحب والعشق، أنها أرض الحياة بكل ما فيها حلوها ومرها.
تشتهر مناطق الأهوار في جنوب العراق بصناعة الزورق الرشيق أو "المشحوف" كما يسمى، وهي صناعة قديمة توارثتها الأجيال منذ القدم، وأن صناعة المشاحيف انحسرت بشكل واضح منذ عمليّات تجفيف الأهوار في ثمانينيّات القرن الماضي من قبل الدولة، التي سعت الى إخراج المعارضين الذين يختبئون وسط غابات القصب والبردي في الأهوار، الأمر الذي اضطرّ الأهالي إلى الهجرة، ومع جفاف الكثير من الأهوار والأنهر في أنحاء العراق بسبب انخفاض مناسيب المياه، اختفى الكثير من الورش الخاصّة بهذه الصناعة التراثية.
ويعود تاريخ المشحوف السومريّ إلى الحضارة السومريّة، التي بزغت في العراق قبل نحو خمسة آلاف عام قبل الميلاد، حيث صنع صنّاع سكّان العراق القديم المشاحيف من مادّة القار.

     

ولازالت حتى الآن وسيلة سكان الأهوار الوحيدة للتنقل، كما تعتبر احدى اهم مصادر رزقهم، حيث يصطادون بواسطتها السمك والطيور، وينقلون بها منتوجات حيواناتهم الى الأسواق.
صنعها السومريون من القصب والبردي وأغصان الأشجار الطرية أما اليوم فالمشاحيف تصنع من الخشب المحلي مع الخشب المستورد المطلي بمادة القير، ومؤخرا صار بعض النجارين يصنعها من مادة الفايبر كلاس المستوردة، فان الحياة في الأهوار لا تكتمل إلا بوجود المشحوف، هذا المركب العريق الذي من دونه لا يمكن التحرك في الترع المائية المترامية الأطراف في أهوار العراق.
وكان الصابئة المندائيون من أهم صانعي هذه الواسطة المائية، في البسيتين والحويزة والقرى التابعة لهذه المدن الأحوازية، التي كان يعتمد اقتصادها على المنتجات الزراعية، والثروات الحيوانية والسمكية، ومنها هور الحويزة وهور الحمار. كما لا يوجد أحد في الأهوار لا يمتلك قاربا.
هناك أنواع عدّة من المراكب يميّزها الناس من خلال شكلها وطريقة صنعها، ومنها: "البلم المشحوف" لنقل الأغراض المختلفة. "الكعد" لنقل الناس. "السمكي" لصيد الأسماك. و"بلم الجلبوت" للنزهات النهريّة. وأن التسمية تكون بحسب الوظيفة التي تؤديها الزورق، فمنها (الطرادة) وهو زورق سريع الحركة، وتتسع لعدة أشخاص، وتمتاز بطول مقدمتها وانسيابيها. والـ (كعدة) طويل الحجم، وهي من المشاحيف التي يستعملها الشيوخ والوجهاء. والطرادة العادية تعمل بمثابة (التاكسي)، لسكنة الأهوار والأنهر الرافدة للأهوار. و(الشختورة) يكون كبيرا ومزودا بمحرك آلي، وهذا النوع ازداد الطلب عليه مؤخرا بعد عودة عدد من سكان الأهوار. وهناك مشحوف يتسع لشخص واحد (الهويري)، وهو سريع الحركة لصغر حجمه وممكن حمله بسهولة، وهو مخصص للقنص وخاص لصيادي الطيور. وأما البلم وهو أقصر من الطرادة وخاص للأنهر فقط وغير مخصص للأهوار.
وقيادة المشحوف في المياه المفتوحة، تكون بواسطة مجذاف خشبي (غرافة)، وخاصة عندما (تنحدر حدار) يعني تسير وفق حركة سير المياه، ولكن عندما (تغرب تغريب)، أي يكون تحرك المشحوف عكس اتجاه سير المياه يستخدم المردي، كما للمردي أيضا استخداما آخر عندما يحشر المشحوف بين الحشائش، أو بين الزوارق عند الضفاف يساعده المردي على الحركة الأولى، كما للمردي حضورا في التراث الشعبي والكثير منا سامع المثل الشعبي الأحوازي الذي يقول:(دفعت مردي، وبهوا شرجي)، والمردي وهو مجداف على شكل عصا طويلة تستخدم في تحريك القوارب الصغيرة، عن طريق ركز طرفه السفلي في قاع الماء، فيدفع الماء إلى الخلف لكي يتقدم القارب إلى الأمام، وقد ذكر في الملحمة التاريخية جلجامش، حين طلب أورشنابي ملاح بحيرة مياه الموت منه صناعة المئات من المردي، طول الواحد منها ستين ذراع، ويستخدم المردي بشكل كبير في الأهوار .
أما الدانك (الدانگ) هو أكبر المشاحيف، ومخصص لنقل الحمولة وحمل المنتجات الزراعية، ومنها الرز (الشلب)، وقيادته صعبة عندما يكون محمل، ويسير عكس اتجاه تدفق المياه (تغريب) في الهور، وفي هذه الحالة يكون الجر بواسطة الشاروفة، والتي هي حبل طويل وقوي يمسكه شخص يسير مشيئا على الأقدام على ضفاف النهر، ويجلس شخص آخر في مؤخرة المشحوف، ويضع المجذاف الخشبي (الغرافة) في الماء، ويتحكم باتجاه سير المشحوف حتى لا يصطدم بالجرف، ورد اسم المشحوف في الكثير من القصص والحكايات والأشعار والأغاني الأحوازية والعراقية وامتهن الكثير من أهالي البسيتين مهنة نقل الركاب(معیبرچي).
إنّ أخشاب التوت والسدر والجاوي المقاومة للماء، وملحقات القصب والبردي التي تنمو في الأهوار، تشكل هيكل المشحوف، بعدما يبطن بالقطن الذي يملأ الفراغات بين الألواح الخشبيّة المقوّسة، التي ترسم شكل المشحوف الانسيابيّ، لتطلى بعد ذلك بالقار والزيوت التي تحول دون تسرّب الماء والرطوبة إلى بطن الزورق.
للمشحوف أضلاع داخلية مقوسة، تتفرع من محور مركزي ينتهي ببوز طويل يسمى العنق، وهذا يشق الطريق عبر البردي والقصب، ويطلق هذا الاسم عموماً على قوارب الأهوار. وأكبر قوارب الهور (البرغش)، تليه (الطرادة) التي تحتضن روابط عرضية مقوسة من الخشب وضعت كي يتكئ عليها الجالسين على حصائر في قاع القارب، وتتسع الطرادة لـ 10-12 راكباً. وتفرش الطرادة بالقصب أو بالبواري أو بالحصير.
الطريقة الاعتيادية لتحريك قوارب الأهوار، هي التجذيف الذي يقوم به رجل، أو رجال جالسون في مؤخرة القارب، بينما يقوم رجل في قيادة القارب بدفعه بالمردي، تكفي لتسيير القارب من دون مجذافين إذا كان بيد عارف لمهنته، وكل سكان الهور يعرفون قيادة المشحوف.

       

وصيد السمك وهي حرفة قديمة منذ خمسة الأف عام، وهناك عدة طرق لصيد السمك في الهور منها (الهيالة)، من الوسائل الخاصة بصيد سمك الصبور المشهور، الذي يدخل شط العرب بشكل جماعات كبيرة مهاجرة في أوائل فصل الربيع، وأنات هذا السمك اكبر حجما وتمتاز بوجود (الثروب) ،والهيالة عبارة عن شبك طوله من 20-50 ذراع يربط فيه من الأعلى كرب على مسافات متساوية تقريبا، في حين يوضع الى الجانب الأخر ثقل يكون عادة من الرصاص وعلى مسافات متساوية أيضا.

   

توضع الهياله في بلم، ثم يبدأ الصياد بإلقاء رأسها في الماء، بشكل عمودي بفعل الثقل في أسفله، ويبقى الكرب طافيا فوق سطح الماء، ويبتعد تدريجيا وهو يلقي بها الماء، وبعد إكمال عملية إلقائها يأخذ بالسير في شط العرب، فيصطدم الصبور بالهيالة وهو يسير عادة على شكل جماعات، وعند اصطدامه بها يدخل رأس السمكة في عين الهيالة فيتعلق بها، وعندما تمتلئ بالصيد، يأخذ الكرب الطافي بالغطس تحت مستوى الماء، عندها يبدأ الصياد بسحبها وإخراج السمك منها. و(الشبج) (الشبكة) كثيرا ما يصنع محليا ويستخدم لصيد السمك، في فروع الأنهر المتفرعة من شط العرب، ويستخدم عندما يصل المد في النهر الى اعلى مستوى، وقبل ابتداء عملية الجزر، فتربط الشاروفه بشجرتين متقابلتين على النهر المراد(سكره) والشروفة تمر بين حبسات في احد جانبي الشبج، في حين يثبت الجانب الأخر منه في قاع النهر بواسطة (المشكاص)، بخط يوازي الشاروفة، ويبعد عنها الى الإمام بمسافة قليلة، وتتم هذه العملية بسرعة من قبل شخص يغوص بالماء، ويثبت في كل مرة مشكاص أو اكثر، ويختلف عدد المشاكيص حسب عرض النهر، ويمر اسفل الشبج وبموازاة الشاروفة وخط المشاكيص الميذب، ويبعد عنها حوالي نصف متر، وعند انتهاء عملية التشكيص يسحب الميذب ويربط بشجرة أو بوتد قوي، ويسمى الشبج في هذه الحالة مشيل، فتأخذ بعض أنواع السمك بالقفز وتسقط في الشبج، وبعد اكثر من ساعة يرخى الميذب ويسحب بين حين وأخر كلما دخله السمك الراجع مع ماء الجزر، وفي هذا الوقت يكون أصحاب الوهر متجهين نحو الشبج. و(السلية) عبارة عن شبكة دائرية الشكل يربط في مركزها خيط، عند تعليقها منه تبدو بشكل مخروط، وفي أطرافها تثبت قطع من الرصاص، يضعها الرامي على كتفه اليمنى، ويمسك جزءا منها في فمه وبطريقة خاصة، يرميها الى وسط النهر، إما أن يكون في بلمه أو واقفا على جرف النهر، فينفتح الشبك بشكل دائري ثم تغوص أطرافه بسرعة في الماء، بسب ثقل الرصاص، وبعد فترة يأخذ بسحبها تدريجيا وببطء وإخراج السمك منها. و(الكرفه) وهي عبارة عن شبكة صغيرة، عرضها حوالي متر واحد، وطولها من (1-2) متر، يوضع في جانبها قطعة من الخشب، يمسك في كل جانب منها شخص ويسيران وسط النهر، ويرفعانها من حين الى أخر، وهي كثيرا ما تستخدم في السكرة، وهناك طريقة الكركور وهي قليلة الاستعمال، وأيضا هناك طريقة الميلان وتستخدم في المناطق القليلة المياه. كانت ولاتزال مهنة صيد السمك يعيش عليها الكثير من سكان أهوار جنوب العراق.
وتبقى الآمال معلقة عند سكنه مناطق الأهوار، في إعادة الحياة إلى صناعة الحرف القديمة اليدوية ومنها صناعة المشحوف التي تعود إلى إصالة وحضارة الأهوار، دخلت الأهوار لائحة التراث العالميّ في 18 يوليو/تمّوز من عام 2016.
المصادر:
د. ثروة عكاشة، الفن العراقي القديم بيروت 1974
د. طه باقر كتاب مقدمة في تاريخ الحضارات لقديمة بغداد 1955
الرياضة بدأت في وادي الرافدين 3 بقلم ليلى طارق الناصري.
عادات وتقاليد أخلاقية تنظم سير القوارب وتصنف مجذفيها الأهوار العراقية د. جمال حسـين:
ناصر الشاوي

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

564 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع