تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة - ٨ ( ج١) اليهود في التجارة والمؤسسات المالية

     

تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة - ٨ ( ج١) اليهود في التجارة والمؤسسات المالية من كتاب: تاريخ يهود العراق المعاصر د. نسيم قزاز

   

نستمر بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020.

في الفصل الثامن (ج1) يتطرق الى المكانة المرموقة التي احتلها يهود العراق في التجارة والمؤسسات المالية منذ بداية القرن الثامن عشر الميلادي والى نهاية الاربعينيات من القرن المنصرم.
قبيل الحرب العالمية الأولى كان اليهود مسيطرين على جميع فروع التجارة والاقتصاد في البلاد، والرغم من وجود شركات ناجحة ومزدهرة عملت في ميدان الاستيراد والتصدير يملكها مسلمون لكن مديريها ومُستخدميها كانوا على الأغلب يهوداً. وعندما أنشئت غرفة تجارة بغداد عام 1926 شكل التجار اليهود أكثر من نصف هيأتها الإدارية، مما يدل على مكانتهم الراسخة في اقتصاد البلاد.
تمحورت التجارة اليهودية في الدرجة الأولى بصفقات التصدير والاستيراد مع إيران، إذ تواجد في مستهل القرن العشرين ما ينوف على عشرين شركة تعود ليهود عراقيين في مانشستر ولندن كانت لهم علاقات مع عدد مماثل من الشركات في كرمنشاه وهمدان.
لم يكن هناك، وقبل عام 1921، تنافس اقتصادي بين الأكثرية المُسلمة، وبين الأقلية اليهودية في العراق. وكان تعطيل التجارة في أيام السبت والأعياد اليهودية، على مر الأجيال، أمراً اعتيادياً ومقبولاً لدى الأكثرية المسلمة في البلاد، حتى أن التجار العرب فضلوا، كأمرٍ متعارف عليه، إغلاق حوانيتهم في الأعياد اليهودية.

الفصل الثامن - اليهود في التجارة والمؤسسات المالية
الوضع حتى نهاية الحرب العالمية الأولى
منذ بزوغ القرن الثامن عشر الميلادي تجلت سيطرة اليهود شبه المطلقة على تجارة البلاد، عندها تاجر يهود بغداد مع مدن وأمصار الإمبراطورية العثمانية - تركيا، حلب ودمشق ومع بلاد خارج نطاق حكم السلطان العثماني، كبلاد فارس والهند واليمن. وهناك وثيقة تعود لعام 1742 تحتوي على تحويل مبالغ نقدية من اليمن إلى الاراضي المقدسة بواسطة يهود بغداد والبصرة. اعتلى اليهود سُدة التجارة وتفردوا بها بلا منازع، حتى ان ممثل شركة الهند الشرقية البريطانية (East India Co.) اضطر لنقل مركز نشاطه عام 1793 ولمدة سنتين من البصرة إلى الكويت، بسبب خلافه وعجزه عن منافسة التجار اليهود.
بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مرحلة التطور وتقوية الأواصر التجارية مع أوروبا، وازدادت زخماً بعد افتتاح المؤسسة التجارية "داود ساسون وشركاؤه" في لندن. وساهم بذلك اليهود من أصل عراقي من الذين قطنوا الهند وخاصة فرع عائلة ساسون اليهودية والذي أثرى الكثير من الذين تاجروا معه وبواسطته.
إبان ولاية مدحت باشا على العراق (1869-1872)، طرأ تحسنَ ملحوظ للوضع الاقتصادي لليهود كما ساد شعور بالأمان في عهده وامتد لسنوات طوال من بعده، ورافق ذلك تغيير جذري في مناهج الدراسة والتأهيل بعد افتتاح مدرسة "الأليانس" عام 1864. وأدت هذه العوامل إلى توسيع التجارة مع دول أجنبية وخاصة مع الهند والمملكة المتحدة، وشجعت شباباً يهوداً على الهجرة إلى الهند والصين وبلاد أخرى غيرها وتأسيس محلات تجارية ومؤسسات مالية مزدهرة في تلك الدول.
استوطنت طوائف يهودية عديدة، غنية ومُتجذرة، من أصول عراقية في مختلف الاصقاع، كالهند والملايو (ماليزيا) وسنغافورة وهونغ كونغ وشنغهاي، وأزدهر بعضها وشكلوا، عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، طوائف كبيرة نسبياً. واصل اليهود هجرتهم من الهند إلى المملكة المتحدة. وحافظت أكثريتهم على روابط وعلاقات متينة مع أبناء جلدتهم في بلدهم الام بغداد كما حافظوا على اللهجة العربية المحكية الخاصة بيهود العراق، والتي كانت تُكتب بحروف عبرية قديمة المعروفة بــ "راشي" (רש"י)، واتخذوها لغة مُكاتبتهم التجارية والاجتماعية من اقصى الشرق وحتى مانشستر في بريطانيا.
وتفيد تقارير، تعود للعقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، أن سطوة يهود العراق على اقتصاد البلاد كانت بلا منازع. فمثلاً يصف لونكريك بغداد في مستهل العشرينات بقوله -: "...المدينة التي نصف سكانها من اليهود أصبحت مدينة تجارية ناشطة ومزدهرة ".
ووصف مماثل جاء في تقرير للقنصلية البريطانية في بغداد يعود للعام 1910:
"...إن الطائفة اليهودية في المدينة ديناميكية وفعّالة ذات خبرة واسعة وعلاقات مع العالم الخارجي بما في ذلك تواصل، له نصف قرن من الزمن، مع الهند والشرق الأقصى وفيينا ومانشستر. وعندما أنشئت غرفة تجارة بغداد عام 1926 شكل التجار اليهود أكثر من نصف هيأتها الإدارية، مما يدل على مكانتهم الراسخة في اقتصاد البلاد".
ومع ذلك، كان وضع شرائح واسعة من يهود بغداد هشاً، وبحاجة للمساعدة والدعم. ويقسم التقرير أبناء الطائفة اليهودية من حيث مستواهم الاقتصادي إلى أربع فئات:
1. 5% شريحة غنية، أغلبيتها من التجار وأصحاب البنوك.
2. 30% من الطبقة الوسطى، أغلبيتهم من الباعة والموظفين وما إلى ذلك.
3. 60% طبقة مُتعففة.
4. 4% متسولون.
ويقول حسقيل الكبير في مذكراته إن اليهود كانوا مسيطرين عام 1914 على جميع فروع التجارة والاقتصاد في البلاد، وأشار أيضاً إلى وجود شركات يملكها مسلمون ناجحة ومزدهرة عملت في ميدان الاستيراد والتصدير ولكن مديريها ومُستخدميها كانوا على الأغلب يهوداً:
يقول حسقيل الكبير "على الأغلب كان الدلال والصراف وحتى البائع والمشتري يهودياً، أما التاجر المسلم فقد كان فخوراً باليهود الذين أشرفوا على إدارة أعماله".

تأكيداً لما قاله حسقيل الكبير ورد في تقرير لقسم المخابرات في البحرية البريطانية لعامي 17-1916، جاء فيه:
"إن التجار المسلمين مجبرون على مشاركة اليهود في أعمالهم وإن التجار الأوروبيين المتواجدين في العراق لا يستطيعون منافستهم ".

بضائع الترانزيت عبر إيران - Transit Trade

تمحورت التجارة اليهودية في الدرجة الأولى بصفقات التصدير والاستيراد مع إيران، إذ تواجد في مستهل القرن العشرين ما ينوف على عشرين شركة تعود ليهود عراقيين في مانشستر ولندن كانت لهم علاقات مع عدد مماثل من الشركات في كرمنشاه وهمدان. كانت أغلبية بضائع الاستيراد غذائية أما التصدير بواسطة اليهود فكانت أغلبيته صوفاً وجلوداً ومطاطاً وسجاداً وغيرها.
تعود التجارة ببضائع الترانزيت عبر إيران إلى حقب قديمة، وكان للمسلمين الشيعة في مراحلها الأولى دور مهم جداً، وذلك نظراً لإلمامهم باللغة الفارسية والاواصر المذهبية والعقائدية الدينية الوطيدة التي تربطهم بالايرانيين. وعلى إثر ذلك، تم افتتاح شركات يهودية في المدن الآنفة الذكر، مما ساهم في تطور وازدهار هذه التجارة. توسعت هذه التجارة أكثر بعد افتتاح الملاحة النهرية بين بغداد والبصرة وتحسين الطرق التجارية بين بغداد وكرمنشاه، وسدت حاجيات القسم الجنوبي - الشرقي من إيران. وأقامت السلطات، نظراً لأهمية هذه التجارة، مستودعات في بغداد لتخزين البضائع القادمة من كلكتا قبل تصديرها شرقاً، فازداد حجم تجارة بضائع الترانزيت عبر إيران بصورة مضطردة وتجاوز حجم تجارة العراق العادية مع إيران.
لكن هذه التجارة تلقت، عند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، ضربة موجعة، لكنها لم تنقطع واستمرت حركة الاستيراد من مانشستر ومن أماكن أخرى دون عائق على الرغم من الحرب الدائرة رحاها بين الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا العظمى، فقد كانت البضائع ترسل عن طريق إنكلترا إلى إيران التي لم تخض الحرب مع أي من الجانبين. أما الحسابات فسُوِيت بعد أن وضعت الحرب أوزارها. ولم يكن من الممكن أن تتم هذه الإجراءات لولا الثقة المتبادلة التي كانت سائدة بين الأطراف، ولأن أعضاء كل شركة انتموا إلى عائلة واحدة تواجدوا في مختلف البلدان.
استُؤنفت تجارة بضائع الترانزيت بصورة مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عبر بغداد والبصرة وتوقفت نهائياً عام 1923، بعد افتتاح طريق مدينة خرمشهر التي رُبطت بسكة حديد مع داخل إيران، وكذلك نتيجة للسياسة التي اتبعها الشاه رضا خان بهلوي (1925-1941) في العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم، التي أنهت التجارة الحرة وفرضت رقابة على الاستيراد والتصدير وحصرت إصدار الرخص بالإيرانيين.
من الجدير بالذكر أن غالبية التصدير كانت بأيد غير يهودية وخصوصاً بأيدي شركات بريطانية وهندية أو بأيدي مسلمين سنة لسهولة وصولهم إلى المنتجين والمزارعين، بينما كان الاستيراد حكراً على اليهود تقريباً.

بعد الحرب العالمية الأولى

لم يكن هناك، وقبل عام 1921، تنافس اقتصادي بين الأكثرية المُسلمة، وبين الأقلية اليهودية في العراق. فحتى تلك الحقبة كانت القسمة معروفة لدى سكان البلاد: الخدمة العسكرية والوظائف الحكومية حكرٌ على المسلمين السنة وبيدهم مقاليد الحكم، بينما كانت أغلبية أعمال التجارة والمال بصورة عامة بيد اليهود وبعضها بيد المسلمين الشيعة الذين عُوملوا باستخفاف من قبل المسلمين السنة لأسباب عقائدية وارتباطهم مع الجارة إيران. اليهودي لم يتجاوز مجالات كانت حكراً على المسلمين كالزراعة، على اختلاف فروعها، والسلك الحكومي والعسكري، مع ما يرافقها من ترقيات وحوافز، وركز اليهود في القطاع التجاري. وليس من باب الصدفة أن في عام 1910 لم يتواجد في السلك الحكومي أكثر من عشرة أو عشرين يهودياً.
كان اقتصاد البلاد عند مجيء البريطانيين إلى العراق متيناً نوعاً ما، وخاصة بكل ما يتعلق بالاستيراد والتصدير اللذين هيمن عليهما رجال ذوو مقدرة وعالمون ببواطن الامور. ضخ الاحتلال البريطاني النشاط بالحياة الاقتصادية في البلاد حيث تمتعت بنمو وازدهار تجاري لم يسبق له مثيل، أغدق على التجار أرباحاً طائلة. ولم تظهر حينذاك بوادر الحسد عند الأكثرية المسلمة على ثراء التجار اليهود. ويقول سلمان شينا، وهو من الشباب اليهودي المثقف الذي عاصر تلك الحقبة، والذي أضحى زعيم من زعماء اليهود في الأربعينات، إن معاملة المسلمين لليهود آنذاك كانت جيدة ما عدا بعض الحوادث الاستثنائية. وكان تعطيل التجارة في أيام السبت والأعياد اليهودية، على مر الأجيال، أمراً اعتيادياً ومقبولاً لدى الأكثرية المسلمة في البلاد، حتى أن التجار العرب فضلوا، كأمرٍ متعارف عليه، إغلاق حوانيتهم في الأعياد اليهودية. وبعد مضي حوالي ثلاث عقود انقلبت الأمور وتحول ما كان مُسلماً به لحقب طويلة ماضية إلى التذمر من قبل الأوساط القومية المتطرفة التي ما فتيت تُحرض ضد اليهود.
اتسمت حقبة الانتداب البريطاني على العراق (1921-1932) بالأمن والازدهار الاقتصادي لجميع أطياف المجتمع العراقي بمن فيهم أبناء الطائفة اليهودية. ففي هذه الحقبة اتسع كثيراً حجم الاستيراد وتحسنت نوعيته. إذ أضيفت إليه مصنوعات وبضائع جديدة: ملابس، أدوات للمطبخ، أحذية، جلود، قطع ولوازم زراعية وصناعية، مكائن زراعية، مواد للبناء (أسمنت وفولاذ) وغيرها. ولم تكن هذه الأدوات معروفة في العراق قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنها نالت إقبالا ورواجاً في الفترة المذكورة.
وتميَّزت هذه الحقبة تجارياً بظهور السيارات ووسائل المواصلات بالمحركات على اختلاف أنواعها مما أدى إلى ثورة حقيقية في أرجاء البلاد. وكان هذا الفرع بكامله بيد شركات يهودية – لاوي، عدس، ساسون وغيرهم - التي اتصفت بنظام جيد وانتشار حسن وتكهنات صائبة وخدمات على مستوى عالٍ.
أدى توسع التجارة في كلكتا بصورة عامة إلى ازدياد الطلب على خدمات الشركات اليهودية ذوات الشهرة الذائعة والخبرة الواسعة لتأهيلهن ولمراعاة وتمثيل مصالح المُصدرين.
أُسند الدينار العراقي للجنيه الإسترليني في مستهل عام 1938، وأقيمت في أرجاء البلاد فنادق عصرية على النمط الأوروبي، وبُنِيت أحياء جديدة وفيلات عصرية، وتم استخدام الحافلات في المدن وازداد عدد السيارات الخصوصية. كما ازداد كثيراً حجم الصادرات وتوسع الاستيراد وشمل، بصورة خاصة، سيارات من بريطانيا والولايات المتحدة ومواد كيماوية من ألمانيا.
ويمكننا التعرف على مدى استحواذ اليهود على الحياة التجارية في العراق في الثلاثينات من القرن المنصرم من تقرير غرفة تجارة بغداد لسنة 38-1937 الموضح في اللائحة التالية-:
لائحة رقم 5
أعداد اليهود ونسبتهم في الاستيراد والتصدير 38-1937

      

وتشير اللائحة إلى أن أكثر من نصف المستوردين والمصدرين في حينه كانوا من أبناء الطائفة اليهودية، لكنها لم تتطرق إلى حجم الاستيراد والتصدير الذي كانوا يديروه. بينما يشير إلى ذلك تقرير آخر يعود إلى شختمان الموجود في أرشيف الدولة (إسرائيل)، يقول فيه إن سيطرة يهود العراق على استيراد البلاد قبل الحرب العالمية الثانية كانت شبه كاملة وإن نسبة المواد التي كانوا يستوردونها بلغت 95% بينما مواد التصدير لم تتعد الــ 10%. ويفيد نفس المصدر أنه بعد الحرب العالمية الثانية أخذت نسبتهم بالتضاؤل وبعد عام 1948 باتوا يتحكمون بــ 20% من الاستيراد و2% من التصدير.
لائحة رقم 6
نسبة اليهود في مجال الاستيراد والتصدير
قبل وأبان وبعد الحرب العالمية الثانية

     

انعكس تضاؤل حصة اليهود في التجارة بعد الحرب العالمية الثانية على تمثيلهم في الهيئة الإدارية لغرفة تجارة بغداد. فبينما كان عددهم فيها، في السنة المالية 36-1935، اثني عشر عضواً من مجموع 20 عضواُ أي 60%، أصبح في السنة المالية 47-1946 سبعة أعضاء من مجموع 19 عضواً أي 36.8%، وفي السنة المالية 50-1949 كان عددهم ثمانية أعضاء من مجموع 19 عضواً أي 42.1%، وتقلص في السنة المالية 51-1950 إلى عضويين اثنين فقط من مجموع 18 عضواً أي 11.1%.

تشير معطيات لائحة رقم 7 إلى تقلص نسبي لعدد التجار اليهود في إدارة غرفة تجارة بغداد ولكنها لا تبين ما هو العدد الإجمالي للتجار اليهود. فبعكس تقلص عددهم في هيئة إدارة غرفة تجارة بغداد فقد تصاعد عددهم مع توسع وانتعاش تجارة العراق كما ازداد أيضاً عدد التجار المسلمين.
لائحة رقم 7

نتائج انتخابات الهيئة الإدارية لغرفة تجارة بغداد بين عامي 1935-1950
      

اكتسب التجار المسلمون، بعد الحرب العالمية الثانية، الخبرة والمؤهلات التي مكنتهم من منافسة التجار اليهود والتموضع مكانهم. فحسب معطيات غرفة التجارة، ازداد عدد التجار اليهود الأعضاء في الغرفة درجة 1-3 على مدى 13 عاماً من 52 عضواً في السنة المالية 37-1936 إلى 501 عام 1949، بينما تضاعف عدد الشركات وعدد التجار من غير اليهود ومن نفس الدرجة في هذه المدة ﺒـ 16 ضعفاً تقريباً، من 58 إلى 932. بمعنى أن نسبة اليهود درجة 1-3 تقلصت من 47.2% في السنة المالية 37-1936 إلى 34.9% في عام 1949، وذلك بالرغم من ازديادهم العددي. - انظر اللائحة رقم 8.
دام التوازن في مجال الوظائف والاقتصاد حتى الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم حين بدأت ظواهر التصدع عليه. ففي الثلاثينات تبين للمسلمين أن اليهود حازوا على القسم الأكبر من الوظائف الحكومية التي عُدت من قبل "ملكية خاصة للمسلمين". وظهرت بعد الحرب العالمية الثانية المعارضة لاحتكار اليهود قطاع التجارة والمال. فحتى ذلك الحين لم يزاحم المسلمون اليهود في هذا المضمار وذلك لأنهم، على الأغلب، كانت تنقصهم الخبرة والكفاءة التي اتسم بهما التجار اليهود. وتجنبوا المس بهذه المعادلة توجساً من ضرر جسيم قد يحصل لاقتصاد البلاد. وبعد منتصف العقد الخامس من القرن العشرين لم يعد لمثل هذا الاعتبار من قيمة.
لا شك أن هذه التطورات شجعت التجار المسلمين، الذين ازداد عددهم ونفوذهم باستمرار، على بذل الجهود لمنافسة التجار اليهود وتحجيم نفوذهم وتمَيُزهم في المجال التجاري. وأدى هذا التصاعد إلى تشجيع السلطات العراقية على ممارسة سياسة تمييز وضغوط على التجار اليهود في النصف الثاني من أربعينات القرن المنصرم وبداية الخمسينات، إذ أنها أدركت أن التجار المسلمين يحبذون، ولديهم القدرة على أن يحلّوا محل اليهود، وخفف هذا التقدير من ارتيابهم وتوجسهم من أضرار قد تحصل لاقتصاد البلاد إذا ما اتُخِذت إجراءات ضد التجار اليهود. فمارسوا سياسة الملاحقة والتضييق وسلب الأموال، "ليصبحوا بائعي مكسرات في الشوارع" - كما تفوه أحد زعماء السلطة الكبار.
هناك أوجه خلاف وتشابه عديدة وموازاة كاملة بين مجرى وسياق منافسة الموظفين اليهود وعزلهم في ثلاثينات القرن المنصرم وبين مجرى وسياق الأحداث والإجراءات التي اتُخذت ضدهم في المجال الاقتصادي في النصف الثاني من أربعينات وبداية خمسينات القرن المنصرم. ففي العشرينات لم يكن في وسع السلطات الإقدام على عزل الموظفين اليهود من دوائر الدولة وذلك لانعدام ذوي الخبرة من بين شباب المسلمين تمكنهم من إشغال الوظائف التي ستصبح شاغرة بعد عزل اليهود. ولكن عندما تبين في الثلاثينات أن هناك "مخزوناً" من خريجي المدارس الثانوية والمتوسطة، يدعون أن لهم الخبرة الكافية ولهم حق الاولوية في اشغال الوظائف الحكومية، حينذاك أقدمت الحكومة على عزل الكثير من الموظفين اليهود العاملين في دوائر الدولة.
أما بعد منتصف الأربعينات من القرن المنصرم، وعلى الرغم من ازدياد اعداد المسلمين في ميدان التجارة والاقتصاد، لم يكن في مقدورهم ملئ الفراغ الوظيفي الذي خلفته هجرة اليهود الجماعية أو تلك التي اُرغموا على التخلي عنها. فاضطرت الحكومة إلى استقدام موظفين وإخصائيين من الباكستان لشغل الوظائف التي تركها اليهود في مجال البرق والبريد والسكك الحديدية. لم يكن الوضع مختلفاً في ميناء البصرة وفي وزارة الأشغال العامة ووزارة الاقتصاد، وخاصة في القطاع المصرفي الذي كان، على الأغلب، تحت أدارة اليهود وإشرافهم، وتكبد هذا القطاع خسائر جسيمة. وتسببت هجرة اليهود في تراجع الطلب على الكتب والصحف والتي القت بظلالها السلبية على قطاع الإعلان والنشر. كما أصاب ضرر بالغ الأموال الغير منقولة، إذ أن أسعار الأراضي والأموال الغير منقولة كانت قد ارتفعت عالياً خلال عام 1948 جراء تصاعد حركة البناء والإعمار التي كان اليهود لولبها، ثم بدأت بالتراجع عام 1949 جراء تمادي سياسية الإجحاف بحق اليهود وإرغامهم على التوقف عن ممارسة أعمالهم في ميدان التجارة والاقتصاد، حتى انخفض سعر الأراضي عام 1950 بنحو 30% مما كان عليه من قبل.
في ميدان المال والمؤسسات المالية
لم تقتصر هيمنة اليهود على تجارة البلاد فحسب بل تعدتها ومنذ أمد بعيد إلى المؤسسات المالية. ولم يعترض المسلمون على ذلك وسمحوا لليهود بتعاطي الفوائد المالية بصورة شبه احتكارية. نتيجة تحريم القرآن الكريم للربا وتعده الشريعة الإسلامية من كبائر الذنوب، مما حصر المعاملة بالربا بيد أهل الذمة.
يتضح من التقارير التي وصلتنا أن في حقبة حكم المماليك في العراق (1750-1831) أن منصب "الصراف باشي" (رئيس صرافي الوالي) كان يتقلده يهودي ثري من علية القوم، وعلى الأغلب كان "الصراف باشي" يشغل، وظيفتين في آن واحد، منصب "رئيس الطائفة" (نسي – נשיא). وإذا ما استعرضنا الترجمة الذاتية لرؤساء الطائفة اليهودية في تلك الحقبة لوجدنا أن سبعة من أصل تسعة رؤساء تقلدوا منصب "الصراف باشي". حافظ الصيارفة اليهود على مقامهم ومنزلتهم طوال القرن التاسع عشر والعقود الخمسة الأولى من القرن العشرين. وكان الصيارفة في بغداد جميعهم تقريباً من اليهود، بينما كان صرافو الموصل مسيحيين والصرافون في المدن المقدسة الشيعية مسلمين شيعة.
قدر موريس كوهين، معلم اللغة الإنكليزية في مدرسة "الأليانس"، في رسالة بعث بها إلى "جمعية الإخوان" (אגודת אחים) في لندن عام 1884، عدد العائلات اليهودية التي ارتزقت من الصيرفة في بغداد بــ 40 عائلة. وفي تقرير نشرته غرفة تجارة بغداد عام 1936 بلغ عدد الصيارفة في بغداد، المسجلين في قسم التجارة، 39 صرافاً، 35 منهم يهود، 3 مسلمون شيعة وواحد مسيحي.
وعند افتتاح فرع البنك العثماني عام 1889 وتنظيم العمل بالقرض والاعتماد، استحدث مجال مصرفي كان لليهود فيه اليد الطولى، إذ بدأ بعض الصرافين بفتح "حساب جارٍ" وجباية ديون وسندات دين - كمݒيالات - وخدمات مصرفية أخرى. وهكذا قامت وتأسست مصارف ومؤسسات مالية تحمل أسماء مؤسسيها، وأهم هذه البنوك: بنك زلخة، وصيون عبودي، وأدور عبودي، وعبدالله حاي، وباروخ شماش، والياهو توفيق، والياهو اسحيق، وحوكي اسحيق، وعزرا اسحيق، وعزرا چيتايات، وحوكي توينا، و أبراهام ناوي وغيرهم.
والطريف، أن تجار بغداد لم يقدروا في بادئ الأمر قيمة الأعمال المصرفية، فكان البنك يأتي إليهم بدلاً من أن يذهبوا إليه. حيث كان البنك يُرسل صباح كل يوم أحد موظفيه بصحبة الفراش حاملاً صندوق النقود والأوراق، ليمر بالخانات التجارية واحداً واحداً (وكانت كلها مُركزة في رقعة ضيقة داخل منطقة الأسواق) لينجز معاملتهم.
وهنا تجدر الإشارة إلى تهديد وابتزاز تعرض لهما بعض أصحاب المال اليهود في العشرينات من القرن المنصرم. فمثلاً يقول بطاطو-:
"إنه في عام 1924 توجه رجال باسم "الحزب السري العراقي" إلى رجال اعمال يهود بارزين وطلبوا منهم، تحت تهديد السلاح، آلاف الروبيات. وجاء هذا التهديد باسم "اللجنة العليا للحزب" وهذا لسانه: لم نر حتى الآن عملاً مثمراً للبلاد قام به الأثرياء، بالرغم من أنهم يتمتعون أكثر من غيرهم من خيرات الوطن المسكين- وقد اعذر من انذر".
وإثر هذه التهديدات، يقول بطاطو، "غادر بعض أثرياء العراق إلى لبنان". فمثلاً ترك العراق في عام 1926 خضوري عبودي زلخة صاحب بنك زلخة، إلى لبنان بعد أن تسلم رسالة تهديد بهذا المعنى "الموت أو النقود". وفي لبنان أسس بنك زلخة وجعل له فروعاً في بغداد ودمشق والقاهرة والإسكندرية وجنيف واتسع نطاق أعماله بعد انتقاله إلى نيويورك سنة 1942.
بادر الصيارفة اليهود وهيأوا الأموال والتسهيلات المالية للتجارة والصناعة والزراعة في وقت كان الاقتصاد العراقي في بدء مراحل تطوره. يُضاف إلى ذلك أن التجار اليهود أعدوا جدوى اقتصادية وتحرّوا الأسواق العالمية وجلبوا البضائع الجيدة بأثمان مُتهاودة، خلال الأزمات والحروب، ولا سيما أبان الحربين العالميين الأولى والثانية، حين بذلوا جهودهم لتموين البلاد وسد حاجاتها من البضائع الاستهلاكية والضرورية، لذا لم يُلمس شعور بالشحة والضيق.
افتتح في بغداد عام 1912 فرع لــ "البنك الشرقي المحدود" Eastern Bank Ltd)) الذي أُسس في لندن عام 1909 وكان أحد مؤسسيه يعقوب صالح حسقيل، يهودياً من أصل عراقي، افتتح هذا المصرف فروعاً عديدة في معظم أقطار الشرق الأوسط والهند، وكان حتى نهاية الحرب العالمية الثانية يطبع اسمه على الصكوك بالحروف العبرية إلى جانب الإنكليزية. ثم افتتح عام 1918 فرع لــ"البنك الشاهنشاهي الإيراني". وكانت أغلبية الموظفين في المصارف التي افتتحت في العراق من اليهود لإتقانهم اللغة الإنكليزية.
تأسس عام 1941 "بنك الرافدين" الحكومي، وكان أحد مؤسسيه إبراهيم الكبير الذي شغل فيه منصب معاون المدير إلى أن أحيل على التقاعد في تموز/يوليو عام 1948، وكانت أغلبية الموظفين فيه من اليهود، مما أثار حفيظة القوميين المتطرفين فحرضت جريدتهم ضد اليهود ونادت عام 1949 بتطهير اقتصاد البلاد من اليهود شاكيةً أن نصف موظفي البنك هم من اليهود، وأن اليهود هم الذين يديرون شؤونه عندما يغيب عنه مديره.
ساهم إبراهيم الكبير في تأسيس "البنك المركزي العراقي"، الذي افتتح في أواخر عام 1948 وعُين عضواً في هيئة إدارته، وأصابه شيء من الإحباط وخيبة الأمل لعدم تعيينه محافظ ومدير للبنك لكفاءته وجدارته العاليتين. ومع ذلك كان على علم أنه في تلك الحقبة، التي عم بها التحريض والسخط والغضب على اليهود، لم يكن ليهودي أن يتوقع تعيينه لمنصب عالٍ كهذا. وكانت مدة تعيينه لهيئة إدارة البنك اربع سنوات فقط وهذا ما يقتضيه القانون، ومع ذلك جُدد تعيينه لدورتين إضافيتين بصورة استثنائية - في عام 1952 وعام 1956 - ويقول بمذكراته إنه فوجئ ليس لأنه يهودي فحسب، وكذلك لأن القانون لا يسمح بتعيين عضو لهيئة الإدارة لأكثر من دورة واحدة.
كانت هيمنة اليهود على قطاع البنوك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية هيمنةً شبه تامة. ولم يكن بوسع الحكومات والسلطات المعادية لليهود والموالية للنازية الاستغناء عن خدماتهم في هذا المجال، فمثلاً حينما كانت تدور رحى الحرب بين الجيش البريطاني والجيش العراقي في شهر أيار/مايس 1941، عينت الحكومة العراقية ثلاثة محافظين لثلاثة المصارف الأجنبية وهم كرجي لاوي لــ "البنك العثماني"، وعبد الله بطاط لــ "البنك الشرقي المحدود"، وكرجي الترمباغ لــ"البنك الشاهنشاهي الإيراني".
ولم تبدأ مزاحمة اليهود وأقصائهم من قطاع المصارف إلا بعد الحرب العالمية الثانية حين برز مسلمون ذوو كفاءة في هذا المضمار.
يظهر أن البنوك في العراق لم تكن بحاجة لخدمات اليهود كموظفين ومدراء لكفاءتهم فحسب، بل أيضا لأن سكان البلاد ائتمنوهم على ودائعهم. فعامة الناس لم تكن آنذاك تثق بالبنك وكان الريب يخالجهم من إمكانية "هروب البنك بالنقود"، ولكن تواجد اليهود في البنك اضفى عليه نوعاً من الثقة والاطمئنان، إذ أن مدراء البنوك وموظفيهم المسلمين كانوا بنظر الزبائن أشِداء وأقوياء بالنسبة إليهم وبالتالي لن يتمكنوا من محاسبتهم او اتخاذ أي اجراء ضدهم فيما إذا اختلت الامور. بينما اليهودي لا يفلت بالأموال ولا يسمح للبنك بالهرب، وفي الإمكان محاسبته وحتى مضايقته حتى إرجاع النقود، أو قتله حين لم يبق في القوس منزع، فمن غير الممكن أن يدور في الخلد اتخاذ إجراء كهذا، إذا ما كان الموظف أو المدير مسلماً. وفي هذا الصدد يقول حسقيل الكبير:
"على هذه الخلفية يسهل علينا أن ندرك سبب تعيين أخي إبراهيم عضواً لهيئة إدارة البنك المركزي عام 1948، في ظرف مارست الحكومة العراقية فيه سياسة معادية وسافرة ضد اليهود. لقد تم إلحاق يهودي لهيئة إدارة البنك كي يضفي عليه هيبة واستقامة في نظر الناس ".
لائحة رقم 8
تصنيف أعضاء غرفة التجارة حسب ثروتهم المالية وحجم أعمالهم

   

لائحة رقم 9

أعضاء غرفة التجارة من الصنف الأول لعام 39-1938
الذين يتراوح حجم أموالهم 000،75-500،22 دينار

    

لائحة رقم 10
أعضاء غرفة تجارة بغداد لسنة 39-1938
حسب انتمائهم القومي والديني والعرقي
   

أ. الواحد بريطاني - فرنسي، والثاني شركة النفط العراقية (ملكية بريطانيين وفرنسيين وأمريكان وأرمن).
ب. يهودي فرنسي وبريطانيان يهوديان.
ج. بما في ذلك شركة مختلطة، سنية - شيعية.
د. بما في ذلك شركة مختلطة، يهودية - مسيحية.
ه. بما في ذلك تاجر من أصل مختلط، سوري - -تركي.
و. إيرانيون وأربعة هنود.
ز. هندي.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/51274-2021-10-25-12-44-37.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

563 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع