عُنف ودماء وطقوس شيطانية .. تعرف على عالم نظريات المؤامرة التي لا ينجو منها أحد

           

الجزيرة/شادي عبد الحافظ:بعد عصر الرابع من ديسمبر/كانون الأول عام 2016، دخل إدجار ماديسون ويلش، وهو مواطن أميركي يبلغ من العمر 28 عاما، إلى مطعم بيتزا شهير يُدعى "كوميت بينغ بونغ" في مدينة واشنطن الأميركية، حاملا في يديه بندقية عسكرية ثقيلة من طراز "AR-15″، أطلق رصاصة لفتح أحد الأبواب المغلقة، دلف من الباب باحثا عن أطفال مُقيدين لغرض الاستغلال الجنسي كان يعتقد وجودهم، ولمّا لم يجد أحدا، قرَّر إطلاق مجموعة من الرصاصات الأخرى على أحد الجدران للتأكُّد من أنه لا توجد حجرات سرية في الخلف، لكنه لم يكتشف شيئا أيضا.

لم يكن ويلش والد إحدى الفتيات المخطوفات، ولا هو ضابط شرطة، ولا يملك أي صفة إلا أنه يؤمن بنظرية مؤامرة لاقت رواجا واسعا في تلك الفترة، تسمى "بيتزاجيت"، تقول إن هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية في الانتخابات الأميركية آنذاك، تقود طائفة سرية تُتاجر بالأطفال، ليس فقط لأغراض جنسية، بل أيضا لأجل قتلهم وشرب دمائهم ضمن طقوس شيطانية، وأن هذه الطائفة تعمل من أجل السيطرة على كل العالم.

خاطفو الأطفال
"يُصمِّم منظرو المؤامرة النظريات لتكون قابلة للتصديق ويمكن الاعتماد عليها"، هذا ما قاله الدكتور شادي شاهسفاري ورفيقه الدكتور بيهمان شاهبازي، من جامعة كاليفورنيا الأميركية، في حديث عبر البريد الإلكتروني مع "ميدان"، مُضيفين: "يُحفَّز الأشخاص الذين يقعون في غرام مثل هذه النظريات للعمل وفقا لها، لتأمين حريتهم ومستقبلهم ومستقبل أحبائهم".

يحاول هذا الثنائي، مع فريق متعدد النطاقات البحثية في الجامعة نفسها في دراسة(1) نُشرت عام 2020 بدورية "بلوس وان"، الإجابة عن سؤال بات غاية في الأهمية، الآن أكثر من أي وقت مضى، وهو كيف تنشأ وتزدهر نظرية المؤامرة المعاصرة بالشكل الذي قد يُفسِّر تطوُّرها لسلوك عنيف في بعض الأحيان؟ في الواقع، فإن نظرية "بيتزاجيت" نشأت وازدهرت في الفضاء الإلكتروني، ثم انطلقت للعالم الواقعي لكي تؤثر على قرارات الناس وميولهم السياسية والاجتماعية على حدٍّ سواء، الأمر الذي مَكَّن هذا الفريق من رصد خطوط سيرها الافتراضية.

استخدم شاهسفاري ورفاقه التعلُّم الآلي، وهو شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي، لتحليل المعلومات التي تنتشر عبر الإنترنت حول نظريتَيْ مؤامرة، إحداهما خيالية وهي "بيتزاجيت"، والأخرى حقيقية وسُمِّيت "بريدجيت"، وفي كلتا الحالتين -سواء بالنسبة لنظرية المؤامرة أو القصة الإخبارية الفعلية- ينشأ الإطار السردي من خلال العلاقات بين جميع عناصر القصة، بشكل يشبه حل أُحجية الصور التي يجب أن تقوم بجمع أجزائها الصغيرة.

يقول شادي وبيهمان في حديثهما لـ "ميدان": "نظريات المؤامرة، على عكس المؤامرات الحقيقية، تعتمد على اتصالات مشبوهة بين نطاقات متباينة، لتقديم ادعاءات غير مؤكدة حول قصة أكبر". يمكن أن تلاحظ هذا الفارق ببساطة، فمؤامرة سياسية حقيقية ما لها علاقة بالسماح ببناء أحد المصانع التي تُخلِّف نواتج ضارة في منطقة سكانية سيتطلَّب وجود علاقات واضحة بين أصحاب المصنع ورجال البرلمان مثلا.

لكن على الجانب الآخر، فإنَّ الناظر إلى "بيتزاجيت" سيجد تباينا شديدا في نطاقات المؤامرة المفبركة. كانت البداية حين اختُرق حساب البريد الإلكتروني الشخصي لجون بوديستا، رئيس موظفي البيت الأبيض السابق، ومُرِّرَت رسائله لويكيلكس لنشرها، بعد ذلك بحث مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي عن أدلة على ارتكاب مخالفات لكي تُستخدم للترويج ضد حملة كلينتون الانتخابية.

ربط مجموعة من مرتادي مواقع مثل "ريدت" و"فور تشان" بين كلمة "بيتزا"، التي وردت في الرسائل، وجنس الأطفال، وبعد ذلك أُدخلت هيلاري كلينتون للقصة قسرا، حيث كانت هناك رواية أخرى تزعم أن كلينتون سافرت إلى جزيرة سرية من أجل السياحة الجنسية على متن طائرة خاصة يملكها رجل أعمال أميركي اتُّهم من قبل باستدراج عاهرة قاصر لممارسة الجنس، بعد ذلك أشارت منشورات أخرى إلى أن مطعم بيتزا في واشنطن، يُدعى "كوميت بينغ بونغ" (Comet Ping Pong)، يرتبط مالكه، جيمس أليفانتيس، بشخصيات ديمقراطية بارزة، هو مركز عمليات جنس الأطفال، وبرَّروا صدق ادعائهم بأن اسم الرجل يشبه الجملة الفرنسية "أنا أحب الأطفال" ( J’aime les enfants)، كما أن شعار المطعم يتضمَّن نجمة وهلالا (شعار عبدة الشيطان)، أما الخطوات التالية فتضمَّنت الربط بين مجموعة مطاعم بيتزا تصنع جغرافيا شكل نجمة الشيطان!

هل تلاحظ ذلك؟ نتحدث هنا عن تقاطع أماكن وشخصيات ووظائف متباينة جدا، ليس ذلك فحسب، بل يخبرنا الباحثون في الفريق في حديثهم مع "ميدان" أنه دائما يكون هناك رابط واحد ضعيف بين كل نقطة ونقطة في تلك القصة، بهدمه تنهدم المؤامرة كلها، بالإضافة إلى ذلك فإن الهياكل السردية حول نظريات المؤامرة المفبركة تميل إلى التشكُّل والاستقرار بسرعة، في حين أن الأُطر السردية حول المؤامرات الفعلية قد تستغرق سنوات حتى تستقر، في حالة "بيتزاجيت" فإن الخطوات السابقة كلها أخذت فقط بضعة أيام كي تنمو وتزدهر.

ملوك الريبة
في الواقع، فإن أحد الملامح الرئيسية لنظريات المؤامرة هي فكرة "تجميع النقاط"، حيث تجد هوسا لدى البعض بربط كل شيء ببعضه، وعادة ما تسمع من روّاد نظريات المؤامرة قولهم: "لا يوجد شيء يحدث مصادفة"، وإنه يمكن لك أن تربط نقاطا مختلفة ببعضها بعضا، كلٌّ منها قد تكون حقيقية بالفعل، لكن الروابط بينها ضعيفة جدا، في تلك النقطة تنشأ التناقضات الداخلية لهذا النوع من المؤامرات، التي عادة ما يتجاهلها الشخص العادي لأنه يكون مأسورا بالقصة المعروضة أمامه التي عادة ما تكون مثيرة جدا للانتباه.

لذلك ستجد أن أحدهم قد يكون مقتنعا أن هناك طائفة مكونة من مئات الآلاف إلى ملايين الأفراد، تضم طيارين ورواد فضاء وعاملين في كل الحكومات وشركات الطيران، تتفق جميعا على سر واحد، وهو أن الأرض مسطحة، لكن هذا الشخص لن يُكلِّف نفسه أن يسأل: هل يمكن إحصائيا أن يكون هناك سر واحد يُخفيه مئات الآلاف من الأفراد؟

هذا النوع من التحيُّزات مثير للانتباه حقا، ولأجل فحص أكثر عُمقا له لجأ محرر "ميدان" إلى الدكتور جوشوا هارت، أستاذ علم النفس المساعد من جامعة يونيون الأميركية، الذي يهتم بدراسة نظريات المؤامرة من ناحية سيكولوجية، يقول هارت لـ "ميدان": "هؤلاء الناس يميلون إلى أن يكونوا أكثر ريبة، وأقل ثقة، ويحتاجون إلى شعور أكبر بالتميُّز، مع ميل إلى اعتبار العالم مكانا خطيرا بطبيعته، ومن المُرجَّح أيضا أن يكتشفوا أنماطا غير حقيقية على أنها ذات مغزى".

قام هارت وفريقه بعمل مسح(2) لأكثر من 1200 من البالغين الأميركيين، طُلِب منهم إجابة سلسلة من الأسئلة المتعلقة بسماتهم الشخصية وانحيازاتهم الحزبية وخلفياتهم الديموغرافية، كما سُئلوا أيضا عما إذا كانوا يتفقون مع المقولات التآمرية العامة، مثل وجود جماعات سرية غير معروفة تتحكَّم حقا في السياسة العالمية، ومجموعات من العلماء تتلاعب بالأدلة أو تُلفِّقها أو تقمعها لأجل خداع الجمهور.

قال هارت في حديثه مع "ميدان": "أظهرت الأبحاث السابقة أن الناس ينجذبون نحو نظريات المؤامرة التي تؤكد أو تُثبت وجهة نظرهم السياسية"، مُؤكِّدا: "نحن جميعا أكثر عُرضة لتصديق ما نعتقد أنه صحيح، خاصة عندما تكون هويتنا على المحك وتكون العواطف مشحونة"، لكن على الرغم من ذلك، فإن النتائج البحثية الخاصة به تُشير إلى أن هناك كوكبة من خصائص الشخصية التي يُشار إليها مجتمعة باسم "النوع الفصامي" (Schizotypy) توجد في المؤمنين بنظريات المؤامرة.

لا يُعَدُّ اضطراب الشخصية الفصامي تشخيصا مَرَضيا، ولكنه يُعرف على أنه "ميل بعض الأشخاص الطبيعيين، أكثر من غيرهم، للحكم على العبارات غير المنطقية على أنها عميقة وذات غرض"، تذكَّر أننا نتحدث هنا عن هؤلاء الذين يميلون لاستنتاج المعاني والدوافع من أشياء تحدث مصادفة أو عشوائيا، فلو عرضت عليهم فيديو لمجموعة من المثلثات التي تتحرك عشوائيا فإنهم غالبا ما يتوصلون إلى قصة لها علاقة بتلك المثلثات، وكأنها تتصرَّف عن عمد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع