جميلة - قصة من بغداد مدينة الاسرار بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية /الحلقة الثانية
كانت جميلة تتكلم كثيرا وتضحك وتبتسم للجميع فهي وشقيقتها الكبرى فريدة من قام بتربية أبناء اخيهما غير الشقيق الشيخ احمد كمال الستة وبناته الاثنتين وعندما كبروا وتزوجوا قامتا بتربية ورعاية أبنائهم وبناتهم كذلك وبعد ذلك قامتا بتربية ورعاية بعض من أبناء أبنائهم أي ان جميلة وفريدة قد قامتا بتربية ثلاثة أجيال وكانتا تعتبران الأجيال الثلاثة أبنائهما , لكن جميلة كانت متعلقة بهم اكثر من فريده لتقارب عمرها مع أعمارهم وهي التي جاءت من الموصل الى بغداد في سن العاشرة للعيش في بيت الشيخ احمد كمال , لذلك كان الجميع يناديها باجي جميلة وكلمة باجي كلمة تركية تعني الأخت الكبرى وكانت تستعمل في بغداد كثيرا واما فريدة كانوا ينادونها عمة فريدة لأنها اخت ابوهم وهي كبيرة بالسن , وكان لجميلة عدة القاب على عادة الناس في ذلك الزمن فقد كان يطلق عليها لقب توفيق اجانص لأنها كانت تنقل الاخبار بسرعة مثل توفيق اجانص , وتوفيق اجانص وتعني توفيق المحظوظ وهو شخصية بغدادية عاش في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي وهو رجل طيب كان يسكن في محلة الطوب وعمل في نهاية حياته مندوبا لرواتب المتقاعدين وكان يأخذ شارع الرشيد طولا وعرضا ماشيا على جانبيه يوميا وينقل الاخبار بسرعة فائقة فلو سمع خبر وهو في ساحة الميدان يقوم بنشر الخبر وخلال دقائق حيث يصل الخبر الى نهاية شارع الرشيد والناس كانت تتناقل ما يقوله توفيق اجانص بثقة تامة, جميلة لم تكن تزعل عندما ينادونها بذلك الاسم فهي متسامحة كالملاك بسيطة ببساطة وطيبة نساء زمان الخير.
كانت ابنة الشيخ احمد كمال الكبرى واسمها فرح تسكن الى جوار بيت ابيها مع زوجها وأبنائها الأربعة وبناتها الثلاثة , حيث قام الشيخ احمد كمال باقتطاع جزء من ارض الحديقة على الجهة اليمنى للبيت فباع نصفها وبنى بالمبلغ النصف الاخر بيتا لابنته الكبرى فرح المتزوجة من ابن خالتها لتكون قريبة على العائلة , جميلة التي كانت قريبة من فرح لتقارب السن بينهما حيث كانت تزورها يوميا وهي في طريقها للتسوق وتنقل لها اخر اخبار البيت الكبير وما حصل في اليوم السابق وعن الزوار من الاقارب وغير الاقارب وبين تلك الاخبار كانت تروي قصص وامثال قد تلائم الخبر مباشرة او غير مباشرة وقد ترمي لشيء لا تتمكن من ان تقوله مباشرة ، جمليه قد ساعدت ابنة اخيها فرح كثيرا في تخطي المشاكل والصعوبات وتربية أبنائها وكانت تحب ابنها الأصغر عمر الذي هو اخر العنقود حبا شديدا لذكائه وجماله وسرعته في تلبية طلباتها التي لا تنتهي من توصيل الأشياء او شراء ما تحتاجه من الدكاكين المنتشرة قريبا من البيت او ان يكون تحت يدها عندما يكون هناك حفل قبَول للنساء او للرجال ينقل الاكل والاشياء الى الضيوف بخفة واذا ما سالت جميلة الصغير عمر عن شيء يجيبها بسرعة وتلقائية وصدق ومن جانبه هو فقد تعلق بها كثيرا واخذ مع الوقت يسمع كلامها وينفذ طلباتها اكثر من والدته وكان يصحبها في بعض الأحيان للسوق او لإداء بعض طقوسها الروحية او يشترك معها في توزيع النذور الذي يكون دائما اطعمة على الفقراء والمحتاجين وغير المحتاجين من الجيران ولأنها لم تتزوج ولم تنجب فقد كان عمر الأقرب اليها في الوقت الذي تعتبر كل العائلة أبنائها وبناتها وتعتبر نفسها مسؤولة عن الجميع , لم يكن احد من العائلة الكبيرة يطلب منها خدمة لكنها كانت متطوعة تخدم الجميع بشكل دائم واي فرد من العائلة او من الضيوف يدخل الى البيت الكبير كانت جميلة تذهب مباشرة الى المطبخ وتحضر له الطعام والشراب واي فرد يتمرض تكون جميلة ممرضته فتاتي له بالأعشاب الطبيعية والأدوية التي تخزنها تحت سريرها او في علب مختلفة الاشكال والألوان في دولاب هندي خشبي جميل بالوان و ورود زاهية بجانب سريرها وكانت تطبخ الشوربة والاكل الذي يناسب لكل مريض من العائلة واذا لم يشفى المريض خلال أيام تدخل في عالمها الروحي فتصلي له وتقرأ له القران وتقوم بالنذر لله لكي شفي من مرضه وكان معظم نذورها هو الطعام لأنها لم تكن تملك مالا خاصا بها فقد كان لها الحق بالتصرف بكل الأطعمة الموجودة في البيت ومن نذورها المهمة :
هو خبز العروگ وهو عبارة عن عجينة مكونة نصفها من عجينة الخبز ونصفها الاخر لحم مفروم مع كمية وافرة من الكرفس والبصل والكاري يخبز في تنور الطين الذي يشتعل بالحطب وهو بنفس شكل وحجم خبز التنور العادي وكان ذلك الخبز لذيد ولماع لما به من زيت لحم الغنم الدسم
وقد يكون نذرها دولمة او معجنات او كليجة او حلويات حسب المتوفر او حسب ما تنذر , وعادة ما كانت جميلة توزع نذورها في فترة شاي العصر ذلك التقليد البغدادي العريق وهي الفترة من الساعة الثالثة والنصف ظهرا الى الخامسة والنصف عصرا , جميلة كانت حريصة على توزيع نذورها بيدها الى جميع الجيران القريبين من البيت واذا ما بقي فائض لديها مما توزعه على الجيران فإنها تقف في مفترق الطريق وتوزع النذور على المارة بفرح وابتسامة وقد ترسل الصغير عمر الى الجيران الذين في الشوارع القريبة من البيت لتوزيع النذور وتحرص على ان تضع نذورها في أكياس ورقية جديدة كأنها رزمة هدايا .
بيت الشيخ احمد كمال كان في كل غرفة من غرفه مدفأة تعمل على الحطب ولها مدخنه مربعة الشكل لتسريب الدخان خارج البيت تبدأ المدخنة من بيت نار المدفأة ليصل الى الطابق الثاني من البيت وكان البغادة يطلقون على ممر تصريف الدخان من بيت النار في المدفأة الى المدخنة التي تصل الى الطابق الأعلى في سطح البيت اسم (كُرخان) بضم الكاف والمدفأة عبارة عن فتحة داخل الجدار على شكل قبة من نصف قوس قد بُنيت بالطابوق الناري المقاوم للحرارة يحيط بها جدارين على الجانبين بنفس الطابوق الناري والجدارين يتقدمان متر الى داخل الغرفة للحفاظ على عدم تسرب النيران ومخلفات الحطب والرماد الى داخل الغرفة وسقف المدفأة من الطابوق الأصفر وعليه طبقة من الخشب السميك غامق اللون في الغالب وكانت توضع عليه مختلف الأشياء كالكتب او العاب الزينة والتماثيل والشموع وكانت المدفأة في الشتاء تستعمل للتدفئة وكذلك لشوي البلوط والكستناء وعمل أنواع الأعشاب والشاي على الحطب وتسخين الطعام لكل من يأتي متأخرا للبيت عن وجبة الطعام وكان يطلق على مدفأة الحائط صوبة الحائط وكلمة صوبا تركية تعني مدفأة , وكانت غرفة جميلة تقع في داخل الصالة الرئيسية للبيت في اقصى اليمين وكانت مزارا لمن يدخل البيت ولم يجد احد في الصالة فيأخذ اخر الاخبار من جميلة , في الشتاء كان الجلوس على الأرض حول المدفأة والنار مشتعلة فيها وتقوم جميلة بتقديم الطعام والشراب او شاي العصر وفي نفس الوقت لا تتوقف عن تقديم نشرة الاخبار اليومية لما حصل في البيت خلال النهار مع حكاية أمثال او قصص من مخيلتها لإيصال الخبر بطريقة تمثيلية وكأنها تستعمل وسائل إيضاح للمستمع وكانت تعمل فواصل بين الاخبار عبارة عن ضحكة قصيرة قد تستغرق عشرة ثواني لا احد يعلم لماذا ضحكت , ومن فرط بساطتها وحساسيتها فان دموعها قد تنزل بمجرد ان تتأثر بشيء او تسمع بحادث مؤسف فتتحول من الضحك الى البكاء.
جميلة التي بدأت حياتها في بغداد في محلة رأس الكنيسة والتي كانت مركز مدينة بغداد القديمة وقبل انتقالهم الى البيت الكبير في محلة العيواضية التي اطلق البرلمان عليها في بداية الثلاثينات تسمية المحلة الفيصلية تخليدا لاسم صاحب الجلالة ولكون معظم ساكنيها من الوزراء وقادة الجيش والاعيان والتي تبعد قليلا عن البلاط الملكي ,
لم تخرج جميلة من بيت رأس الكنسية الا عدد قليل من المرات أهمها والتي كانت تذكرها بفخر عندما تريد ان تتذكر أيام شبابها ومغامراتها تذكر زيارتها الى ميدان عبيد , ففي احد أيام الجمعة جاء أبناء عمومة زوجة اخيها السيدة أسماء وهم شباب الى البيت بعد صلاة الجمعة ودعوها الى الخروج معهم في نزهة قريبة من البيت لترى بعض معالم بغداد فخرجت معهم وهي تلبس العباءة البغدادية السوداء وتضع على وجهها البوشية والبوشية هي قطعة من الحرير الشفاف كانت سيدات بغداد يضعنها تحت العباءة من جهة الراس لتتدلى على الوجه وتغطيه بالكامل وتلبس نساء بغداد البوشية للتفريق بين نساء المجتمع وبين الخادمات والعبيد الاتي كن يخرجن للشارع وقد انكشفت وجوههن وقد استمرت النساء في بغداد بارتداء البوشية لغاية منتصف الاربعينات من القرن الماضي ثم انقرضت وبقيت المرأة البغدادية تلبس العباءة السوداء فقط,
وكان المكان المقصود لتلك النزهة قرب محلة الفضل القريبة من البيت وقبل وصولهم لمقصدهم سمعوا أصوات قرع طبول واغاني غير مفهومة وما ان وصلوا الى ساحة كبيرة في الهواء الطلق حتى تسمرت جميلة في مكانها لا تعرف ماذا تفعل , فقد كانت هناك حلقة كبيرة من الزنوج والزنجيات قد تجمعوا وهم يرددون أغاني ويؤدون حركات رقص ويتمايلون الى الامام والخلف وينشدون بنسق جماعي واحد تتوقف فيه الموسيقى لحظات فيرددون ( يا الله يا الله يا ربي توبة .... توبة) (يا الله يا الله يا ربي توبة ..... توبة ) بطريقة متكررة تم ترجع الموسيقى ويرجع الرقص , وفي وسط الحلقة كان هناك زنجي كبير الحجم يضع على خصره أظلاف حيوانات مختلفة مثل الغنم والماعز والبقر على شكل حلقات تمتد من خصره الى ما تحت الركبة ويقوم بهز خصره في الاتجاهين ويرتجف ويصدر صرخات مرعبة بين الحين والأخر ومع كل حركة خصر منه تصدر موسيقى من أصوات احتكاك الاظلاف مع بعضها البعض تتناغم مع قرع الطبول واصوات النقارات وكان الزنجي يستمر في هز خصره مادامت الطبول تقرع وبيده عصى غليظة يرتكز بها على الأرض بين قدميه ويشترك معه مجموعة من الزنوج والزنجيات و يضربون الأرض بأقدامهم فتصعد موجات من الاتربة ترتفع الى عنان السماء ثم يقفزون في الهواء بشكل متكرر ويعودون للرقص وكلما سقط احد الراقصين فاقدا الوعي بسبب اندماجه في الرقص يسحبونه خارج الحلقة ويدخل مكانه راقص اخر , اما عدد قارعي الطبول والراقصون من الزنوج والزنجيات الذين يدخلون الحلقة الكبيرة كل مرة بين ثلاثة الى سبعة الى تسعة الى احد عشر شخص يرقصون على الموسيقى ومن تقاليد ذلك المهرجان يجب ان يكون عدد الراقصين دائما في وسط الحلقة فردي وليس زوجي وكذلك عدد قارعي الطبول فردي وفي الوسط عازف واحد لموسيقى الاظلاف وسبب ان عدد الذين في داخل الدائرة عدد فردي ذلك تيمنا بان الله واحد لا شريك له وعندما يتعب الراقصون يخرجون ويدخل غيرهم وهكذا الى ان يسخن الجو ومع قرع الطبول وترتفع الحماسة فيزداد ذوي البشرة السوداء بسرعة الرقص وأداء حركات لتخرج من داخلهم مشاعر الحزن والخوف وتدخلهم في عالم روحاني لا نهاية له مادامت تلك الموسيقى الافريقية مستمرة وكان يطلق على ذلك المهرجان الأسبوعي الذي يقام في يوم الجمعة من كل أسبوع بعد صلاة الجمعة (ميدان عبيد) اما عندما تسخن أجواء الرقص ويصل احد الراقصين الى الانهيار فيأخذون بالارتعاش كأن بهم مسك كهربائي فيسقط من يسقط منهم ويسحب الى خارج الحلقة وتلك الحالة في الرقص تسمى (هنكيمة) والهنكيمة هي فقدان الشعور بالواقع وتصيب من وصل من الراقصين الى ذروة الاندماج وغالبا تصيب من كان به سنكيمة فيخرج من حالة السنكيمة , والسنكيمة هي حالة نفسية كانت تصيب الزنوج في بغداد في ذلك الزمن وهي موجه من الحزن او عدم الرضى والزعل فكان الزنجي لا يتكلم مع احد ولا يأكل ولا ينام او يشرب لعدة أيام ثم يرجع الى طبيعته بناء على رضاه او انتهاء الزعل او الحزن واذا صادف ان يصاب بالسنكيمة في نهاية الأسبوع فانهم يأخذونه الى ميدان عبيد فاذا وصل الى الذروة في الاندماج (الهنكيمة) فانه يخرج من حالة السنكيمة ويرجع الى طبيعته , وفي الموروث الشعبي البغدادي عندما يصاب شخص بالكأبة او الزعل من شيء ولا يتكلم يسالونه ماذا بك مسنكم وتلك الكلمة تصريف لكلمة السنكيمة وتلك التسمية مستعملة كذلك في الخليج العربي بساحليه الشرقي والغربي , في نهاية ذلك المهرجان وقد اندمجت جميلة صمت الجميع وقراءة سورة الفاتحة كما فعلوا عند بداية الرقص , وهذا المهرجان الأسبوعي تقليد قديم غير معروف تاريخ بدايته فقد توارثته بغداد عن الفترة العثمانية وقد يكون من تراث الدولة العباسية , غير ان ذلك التقليد قد انقرض من بغداد في بداية الاربعينات تقريبا بتطور مدينة بغداد وانتهاء ظاهرة الرق وخدم البيوت وتفرق ذوي البشرة السوداء بين الناس وحصولهم على وظائف خصوصا في بداية الخمسينات عند حصول النهضة العمرانية , كان يوما حافلا لجميلة حضورها ميدان عبيد عندما وقفت بين الجموع وشاهدت ذلك المهرجان والعدد الكبير من الناس فاندمجت مع الراقصين والموسيقى وتعرفت على احدى ظواهر بغداد الروحية وبقيت سنوات عديدة تتكلم عن ميدان عبيد وحركات الراقصين واغانيهم الصوفية ومنذ ذلك اليوم فقد اكتشفت بان هناك عوالم أخرى في بغداد غير عالم البيت الذي تعيش فيه.
والحادثة المهمة الثانية كانت تذكرها جميلة دائما هي زيارتها الى بيت محمد فاضل باشا الداغستاني عندما كانوا يسكنون في بيت راس الكنيسة وبسبب صغر سنها وعدم خروجها من البيت فأن اخوها الشيخ احمد كمال اخذها معه في احد الأيام لزيارة صديقه وزميله في حرب البلقان محمد فاضل باشا الداغستاني الذي يسكن في منطقة الباب المعظم القريبة جدا من محلة راس الكنيسة وقد كانت تلك الزيارة العائلية تحولا كبيرا الى جميلة باتجاه الانفتاح على العالم الخارجي والثقة بالنفس خصوصا وقد كانت أسماء زوجة الشيخ احمد كمال معهم في تلك الزيارة وقد شجعتها على التواصل مع عائلة الداغستاني وقبل انتهاء تلك الزيارة اخذهم السيد محمد فاضل باشا الداغستاني الى حديقة الحيوانات الخاصة به والتي أقامها في الساحة الكبيرة المقابلة لبيته وتفرجت جميلة على حيوانات قد سمعت بها ولم تراها من قبل وهي السباع والنمور والذئاب والثعالب والنسور والصقور والقردة والطواويس وقد قام مروض الحيوانات الأرمني بشرح مفصل عن تلك الحيوانات والاكل التي تتناوله وطريقه حياتها , وقد كان الباشا الداغستاني يفتح حديقة الحيوانات للناس يوم الخميس أسبوعيا وكان الدخول اليها مجانا وقد كانت تلك الحديقة في ذلك الزمن من أماكن الترفيه القليلة في بغداد ,
ومحمد فاضل باشا الداغستاني بالأساس كان يهوى الخيول العربية ثم تحولت تلك الهواية الى ان جمع حيوانات أخرى في اقفاص كان يطعمها بشكل جيد ويروض المفترس منها مروض ارمني متخصص في ترويض والعناية بالحيوانات , ومنذ تلك الزيارة لحديقة حيوانات الداغستاني أحبت جميلة الحيوانات وبقيت على علاقة قوية معها طوال حياتها بحيث انها كانت في بعض الأحيان تتكلم مع الحيوانات فينصتون اليها ومثلما كانت تتكلم مع الأطفال الذين بين عمر السنة والثلاث سنوات قبل اكتمال النطق لديهم وكان الأطفال ينصتون اليها ويهدئون واذا ما كانوا يبكون يتوقفون عن البكاء , وفي الشوارع اذا ما كان هناك كلب ضال فهي بمجرد ان تنظر اليه وتتكلم معه يهدأ الكلب وينصرف عنها , فقد كان في عينيها اللتين بلون البندق موجة غريبة من الحنان والحب وروحانية بقيت تلازمها طول حياتها.
علاقة جميلة بنهر دجلة كانت علاقة روحانية امتدت الى نهاية حياتها فقد كانت تلجأ الى النهر لإيفاء نذورها وعلى طريقة اهل بغداد فقد كان الناس يشعلون الشموع ويرسلونها تطفو في النهر كأقدس أنواع النذور وكانوا يعملون العطلات التي يسمونها (الكسلات) على النهر وهي التخييم على ساحل النهر الرملي أوقات الصيف القائظ وقد بدأت اول مرة علاقة جميلة بنهر دجلة عندما حضرت سنة 1932 سباق الكفف حيث شاهدت لأول مرة ذلك السباق الكفة ,
والكفة (القفة) هي واسطة النقل النهري المصنوعة من القصب والمطلية بالقار الأسود تستعمل كواسطة نقل الأشخاص والبضائع في نهر دجلة وهي قديمة منذ زمن السومريين وشكلها مدور وعمقها قد يصل الى متر ونصف ويصل قطر الكبيرة منها الى ثلاثة امتار يقوم بسياقتها شخصين يحملان عصي طويلة او مجاذيف حسب عمق النهر وقد حضرت جميلة سباق الكفف وشاهدت لأول مرة الكفف وقد وقفت على عرض النهر في خط واحد بانتظار اطلاقة البداية وقد امتلئ جانبي النهر بالمتفرجين وما ان بدأ السباق حتى اسرعت القفف في النهر تقذفها التيارات القوية وتتصادم بعضها مع بعض وسرعان ما برزت قفف اقل في المقدمة وسط صراخ المتفرجين.
المكان الذي كانت تحبه جميلة كذلك وهي في بيت محلة راس الكنيسة هي زيارة سوق اللحوم والخضروات مع الخدم في محلة الفضل القريبة وكانت تتعرف رويدا رويدا على مدينة بغداد وكانت تحب ان تجلس في السوق امام القرداتي لتتفرج عليه الى ان ينتهي الخدم من التسوق , والقرداتي هو رجل يحمل معه قردا مربوطا بسلسلة حديدية وبيده دفا يقوم بترقيص القرد على انغام الدف والقيام بحركات مضحكة والناس يرمون الطعام للقرد وفي نهاية العرض يدفع الجمهور بعض النقود للقرداتي وكان في بغداد عدد كبير من القرداتية يدورون في الأسواق وقد انقرضت تلك المهنة مع حلول النظام الجمهوري وانقطاع صلة العراق التجارية بالعالم الخارجي وخصوصا بالهند وتحول العراق للتجارة مع الاتحاد السوفييتي وقد استمرت التجارة محصورة بالاتحاد السوفييتي تقريبا منذ بداية العهد الجمهوري الى بداية الحرب العراقية الإيرانية
وحيث كان التجار الهنود يبيعون التوابل والمجوهرات والاخشاب والاقمشة والحرير وجوز الهند والرز للعراق ويشترون من العراق الحبوب والخيل العربية الاصيلة والقطن والصوف والجلود وكانت مدينة دلهي كانت سوق دولي كبير للخيول العربية القادمة من العراق , وكان التجار الهنود يصطحبون الى العراق معهم بعض الحيوانات ومنها القردة التي كانت مهنة القرداتي والتي كانت مهنة مربحة ورائجة في ذلك الزمن.
لقد كان زواج اخ جميلة غير الشقيق الشيخ احمد كمال من زوجته اسماء بناء على تقاليد واعراف كانت سائدة في ذلك الزمن فقبل ان يتأسس العراق الحديث خلال فترة الدولة العثمانية , كان والد أسماء قاسم العزاوي المنتمي الى قبيلة العزة العربية قائدا للجيش التركي في منطقة الحسا والقطيف التي كانت تابعة لولاية البصرة والتي كانت تضم كذلك شمال نجد غربا وشبه جزيرة قطر شرقا , وكان يتنقل هناك في سكنه بين بيتين ففي الشتاء كان يعيش في بيته في مدينة الاحساء ( الحسا ) وفي الصيف ينتقل الى بيت اخر في البحرين خصصه له ال خليفة شيوخ البحرين الذي كانت تربطه معهم صداقة قديمة , لكون البحرين تتمتع في فصل الصيف بجو لطيف مع كثرة النخيل والماء العذب , وكان لقاسم العزاوي ثلاثة أبناء وأربعة بنات من زوجته السيدة هند والتي هي بنت عمه , وقد خاض حملات عسكرية عديدة على الخارجين عن القانون من خلال قيادة الحامية التركية التي كانت تؤمن طرق التجارة والحج بين جنوب العراق والحجاز وساحل الخليج العربي والبحرين وقد توفى قاسم العزاوي فجأة لإصابته بحمى لم يتمكن الأطباء من إنقاذه منها نتيجة لجرحه في احدى الحملات العسكرية في شمال نجد في معركة مع خارجين عن القانون قطعوا طريق الحج , فما كان من أصدقائه من ال خليفة الكرام الا وان قاموا بدفنه في البحرين و بتجهيز قافلة لمرافقة عائلته مع ثلة من حرس الحامية العثمانية الى مقر الولاية في مدينة البصرة وقد نقلوا بواسطة الجمال حيث كانت النساء والأطفال يجلسون في الكجاوة حماية لهم من الشمس الحارقة ,
والكجاوة هي قبة خشبية مربعة الشكل مغطاة بقماش توضع على ظهر البعير حماية للراكبين من الاتربة واشعة الشمس وعند وصول العائلة الى البصرة فقد سكنت العائلة في بيت من بيوتهم التي كانوا يملكونها هناك , وانسل أبناء الشهيد قاسم العزاوي الى مدينة البصرة بعد ان خلا لهم الجو بوفاة والدهم وقد اثارت لديهم مدينة البصرة الفضول وهم القادمون من منطقة الحسا المعزولة عن العالم في حياة رتيبة مقارنة مع مدينة البصرة الميناء الكبير وملتقى تجار الخليج العربي وحياة اللهو وهم في فورة الشباب وغياب الاب العسكري الذي كان يحكم السيطرة عليهم فقد ضاعوا في حياة اللهو والطرب واخذت الأموال التي معهم تنفذ فباعوا الكثير من املاكهم في البصرة وكانوا يتحايلون على امهم السيدة هند والتي كانت لا تعرف القراءة والكتابة فيأتون بعقود البيع ويقولون لها انها عقود ايجار جديدة وتقوم امهم بوضع مُهرها ( بضم الميم ) على العقود فتصبح عملية البيع نافذة ورسمية , والمُهر كلمة تعني الختم حيث كان يستعيض عن التوقيع الشخصي في ذلك الزمن وكان الناس يلبسون المُهر في سلسلة او حبل يتدلى على صدورهم حفاضا عليه من السرقة او الضياع وقد كان الشيوخ والاعيان يعملون المُهر على شكل خاتم يرتدونه في أصابعهم وفي الخاتم حجر نقشت عليه كلمة او رمز بالمقلوب يغمسونها بالحبر ويضعونها على الورق فيظهر شكلها الصحيح , ومن اجل حرية التحكم بالأموال فقد قام الأبناء بعزل متولي املاكهم والذي كان شقيق احد متولي أملاك امير المحمرة الشيخ خزعل في البصرة وبالتدريج فقد تم بيع معظم املاكهم الى ان احست امهم السيدة هند بخدعتهم لها وان العقود التي وضعت عليها مهُرها للبيع وليست للإيجار وايقنت ان البقاء في مدينة البصرة بدون وجود رجل يسيطر على أبنائها الشباب يعني انهم سيفقدون كل شيء وسوف تخسر املاكها وأولادها فقررت الرحيل بهم الى بغداد حيث يعيش أبناء عمومتها اشقاء زوجها الأربعة والذين كانوا كذلك ضباطا ً في الجيش العثماني وبهذا يتمكن الاعمام من السيطرة على أبناء اخيهم الشباب وفعلا تم ادخالهم الى السلك العسكري كضباط , وخلال فترة تجهيز العائلة للرحيل من البصرة الى بغداد علم الشيخ خزعل امير المحمرة بقرارهم الرحيل وكان قد سمع بعائلة قائد الحامية العثمانية المتوفي في الاحساء والموجودة في البصرة وعن بناته الجميلات وكن في ريعان الشباب ولم تسنح له الفرصة للتعرف على العائلة خلال فترة اقامتهم هناك , فارسل من يطلب يد احدى البنات للزواج منه فردت عليه هند انها سوف تشاور اعمام الفتاة في بغداد , فتركت البصرة مسرعة الى بغداد متشائمة من الحياة التي عاشتها في البصرة بعد ان فقدت الكثير من الأراضي والبيوت والبساتين فيها .
الى اللقاء في الحلقة القادمة
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
https://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/57843-2023-03-04-16-26-55.html
1043 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع