طريق إلى الحرية ... هاينز كونزاليك / الجزء الثالث

          


             طريق إلى الحرية الفصل الثالث

                 رواية : هاينز كونزاليك

                                                      

العنوان الأصلي للرواية باللغة الألمانية  Strasse in die Hölle :


        


المؤلف Heins G. Konsalik  :

صادرة عن  Wilhelm Heyne Verlag , Mümchen :  
 الطبعة:18  
السنة : 1989

                    

على الضفة التي كانت تحيط بها الخضرة، كان طاقم أربعة زوارق يحاولون عبثاً أن يسحبوا ستة رجال من الماء، وعلى الشاطئ كان يقف ستة رجال من عمال المقدمة وهم الوحيدون الذين يسمح لهم بحمل السلاح، كانوا يطلقون النار على التماسيح المقتربة، وقد تمكنوا من قتل بعضها، وبذلك فرت الأخريات هاربة من النهر الذي تعكر ليس من أجل الخلاص من الرجال الذين كانوا يطلقون النار ويصرخون فحسب، بل ومن أسماك البيرانا المنطلقة كالأسهم في أسراب مهتاجة، ولم يكن بالامكان إيقافها، انقسمت، حيث مضى سرب منها إلى التماسيح المقتولة وسرعات ما بدأت بتقطيع أوصالها، في حين أنطلق القسم الآخر من هذه الأسماك القاتلة صوب ضحاياها من البشر الذين كانوا يصرخون، فاستحال الماء إلى زبد وفقاعات ودوامات، كما لو أن زوبعة ساخنة قد هبت في قعر النهر.
بعيون مفتوحة هلعاً، كانت نورينا التي مكثت جالسة جامدة ترقب المنظر الفضيع، صرخ الدكتور سانتالوس معطياً أوامره التي لم يكن أحد ليسمعها، جبهارت ركب أحدى الزوارق ومضى يطلق الرصاص من مسدسه دون فائدة ترجى على أسراب البيرانا، والعمال في الزوارق الأخرى، وعلى الضفة كانوا يطلقون النار على التماسيح من أجل أن يمنحوا أسماك البيرانا المفترسة وجبات دموية من التماسيح بدلاً من التهام زملائهم. ومن الخلف كانت إحدى سيارات الحمل التي تم تحويرها إلى عربة إسعاف تطلق صوت زمور (منبه) حالة الطوارئ.
كان صراخ الرجال الستة من الزورق المصاب، لم يعد صراخاً بشرياً، كانت أجسادهم تتمزق قطعاً لا تزيد عن حجم قبضة اليد، فأنتشر الدم في بقع عريضة على صفحة النهر، وهذا ما زاد جنون ووحشية أسماك البيرانا القاتلة. " جهزوا أكياس الدم .! " صرخ سنتالوس وأضاف " وطاولات الطوارئ ! بسرعة ... بسرعة ..! هنا على الأرض، اللعنة، أطلبوا الآلات والأجهزة هنا يا حمير ..! ".
قام الممرضون أولاً بفتح طاولة العمليات، وبعد ذلك الصناديق التي تحتوي على الأدوية، اللفافات (الرباطات) والعدد وكل ذلك لما يزل بعد مرزوم في العلب كما وردت من ريو، داخل علب في السيارة. وبضربة فأس، فتح الدكتور سانتالوس صندوقاً ومزق الكرتون من أجل الوصول سريعاً إلى الرباطات وقام الممرض بتمزيق الرزم وتهيئة المنضدة التي ركبت على عجل.
وما كادت الطاولة الأولى تصبح جاهزة حتى جلب إليها الجريح الأول الذي كانوا قد سحبوه من الماء إلى الضفة، وقد نجحوا بطرد أسمالك البيرانا التي كانت تنهال عليه بالعشرات كالموجة وعلى التماسيح المقتولة، ولم يعد هناك رجال في المياه التي اصطبغت باللون الأحمر من الدماء، كان الرجال الجرحى يزعقون بأجسادهم الممزقة ويهرع زملائهم بهم إلى سيارات الإسعاف ليرقدوا بالقرب من الدكتور سانتالوس، وقد فرشت شراشف مطاطية الكبيرة على أرض الغابة.
كان المصابون قد جرحوا بشكل وحشي وقد اقتلعت الأسماك القاتلة أجزاء من أجسادهم، والآن فإن هؤلاء البشر قد أقلعوا عن الصراخ، فقد كانت الإصابات والآلام غير محتملة، أفقدتهم الوعي وكانت أجسادهم الممزقة قد تلطخت بطين النهر الأخضر وفتات اللحم والدم.
ساهم دورياس بانديرا بالمساعدة فرفع أحد الجرحى إلى طاولة العمليات، وفي غمرة ذلك لم ينتبه إلى بدلته الرسمية التي تلوثت بالدم والطين.
" ماذا تريد أن تفعل بعد دكتور ؟ " سأل بصوت هادئ، فقد كان هو الآخر متأثراً بآلام الجرحى " أعطهم حقنة الرحمة ..".
" إذا كنت تقصد " وبالنسبة للدكتور سانتالوس كان ذلك شيئاً مستحيلاً في الطب، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يعمل وفق قياسات الدراسة: فقد قام بسكب عدة جرادل من المساه على الأجساد الممدة أمامه من أجل شطف الطين من عليها لكي يستطيع العمل في الأجساد المقطعة، وبغير ذلك كان مستحيلاً. ترى هل أن الأجساد سوف تتلوث بالبكتيريا ؟ . " أنت لديك مسدس أيها النقيب، أطلق النار، في حقنتي توجد الحياة وليس الموت ".
" وهل هذه حياة ..؟ " هتف بانديرا بحرارة " كيف ترى هذا الرجل المسكين ".
" لا يختلف كثيراً كما لو أنني أركض في حقل ألغام ..".
دعك بانديرا عينيه السوداوين، وتطلع إلى الدكتور سانتالوس بإمعان، وقد بدأ بالعمل في الأجساد المقطعة، يزرق المضادات الحيوية فيها، وفي نفس الوقت حقن للدورة الدموية والقلب وقد بدا وكأن لدية عشرة أيادي.
" ماذا تفهم عن حقول الألغام يا دكتور ؟  " سأل بانديرا.
سانتالوس كان يعمل بسرعة بما يقرب من السحر، وفي غضون ذلك كانت الطاولة الثانية قد أخرجها الرجال من الرزم، وركنت جانباً، هناك وقفت سامارينا بقميصها القصير، وكانت قد خلعت السترة، وشرعت تعمل في الجريح الآخر حيث سكبت بعض جرادل المياه عليه، وكان يساعدها أحد الممرضين ولكن يبدو عليه عدم الثقة بنفسه، ولم يكن يفعل شيئاً إلا ما كانت نورينا تصدره له من أوامر هي أشبه بالصراخ. ومن سيارة الإسعاف جلب العمال صناديق أخرى على غطاء أحداها كتب باللون الأحمر: بلازما. ركض باولو الجيرا إلى هناك وهو يزمجر " من يتبرع بالدم  ؟ ".كل المتبرعين بالدم قفوا هنا صفاً، نحن بحاجة إلى دم، تعالوا هنا، أيها الرفاق نحن بحاجة إلى الدم ..! ".
في صفوف طويلة، وقف الرجال ينتظرون، منهم الأبيض، الأسود، الخلاسي(الخليط)، وفجأة لم يعد هناك أعراق... الدم هو الدم. بضعة مثقفين من بينهم أدركوا نكهة الموقف، كانوا يبتسمون بهدوء، بل أن الهنود الذين يقومون بأقذر الواجبات والأعمال في المعسكر، تقدموا للتطوع. الهنود القادمين من الغابات الذين كانوا يقتلون بدم بارد إذا ما صودفوا في الغابات دون وخز للضمير وبأقل مما يحس المرء عندما يذبح ثوراً.
" بشر ..؟ ". هكذا كان يتساءل الصيادون البيض " كيف يكون هؤلاء بشراً ..؟ أليسوا هنوداً ؟ ". هاهم الآن يقفون جنباً إلى جنب جميعاً، إن دماء الهنود هي دماء بشرية كما هي دماء البيض تماماً.
" حقل ألغام  ..؟ " سأل الدكتور سانتالوس وألقى لمحة سريعة، تطلع لبانديرا الذي كانت نظرته قوية كالفولاذ " آه لقد قرأت عنها ".
" آه ... هكذا " قالها بانديرا وتراجع عن طاولة العمليات، ثم تطلع ببصره إلى الطاولة المجاورة حيث كانت نورينا تعمل في جسد أحد العمال الذين تعرضوا إلى تشويه فضيع، وكان الممرضون الآن قد أتموا تهيئة زجاجات الدم، ومعدات سحب الدم، ولكن كانت تنقصهم الإبر التي يتم بها سحب الدم من المتبرعين، والأنابيب المطاطية مع القراصات (المشبكات)، ترى في أي كارتون وفي أي صندوق هي ..؟ كما كان نقل الدم من شخص إلى آخر غير ممكن بعد، والآن تنقصنا الأنابيب المطاطية.
" افتحوا جميع الصناديق ..! "هتفت نورينا، والتفتت برأسها إلى الخلف، كان يقف ورائها كارل جبهارت يتطلع إليها باستغراب " لا تتطلع إلى هكذا كالأبله " صرخت " من الأفضل أن تهتم بالمواد، أوعز لرجالك أن يمزقوا كافة علب الكارتون ! ". كان وجهها الرائع يبدو وكأنه يحترق، عيناها الغامقتان تشعان بالنيران " نحن نحتاج إلى أنابيب النقل بسرعة .. بسرعة ".
ركض جبهارت حيث قالت نورينا، ومع مجموعة من عشرة رجال أفرغ حمولة سيارة، فتح الصناديق وأخذ يفتش بين جبل من المواد.

على النهر، عاد العمل يتواصل كالمعتاد، وكانت الخسائر: زورق واحد. حسناً ..! ولكن الطريق هو الأهم، فقط الأيام  كان يجري حسابها وستكون هناك جوائز أبلغ عنها جبهارت وأريراس، بأن المجموعة التي تنجز عملاً يفوق عما هو مخطط ليوم واحد، ستنال الجائزة. بضعة قروش، ولكنها تعني للعمال: التبغ، الكحول، نساء وقبل كل شيئ النساء والعاهرات في المواخير المتجولة يتعاملن بأسعارهن الثابتة. ولنصف ساعة أكثر، يتعين على المرء في هذه الحالة أن يضع ورقة نقدية، ولكن عليك أن تحصل على هذه الورقة النقدية أولاً. وهنا في وحدات المقدمة لشق الطريق عند مجموعات قطع الغابة كما يسمونها هنا الرجال الأقوياء، فقد كان الأمر عبارة عن عمل مرهق إلى حد أللعنة.
والآن يعوم على صفحة النهر اثنا عشر زورقاً، وكانت يقع الدم لما تزل ولم تجرفها التيار بعد، ولم يحملها بعيداً، والتماسيح التي قتلت بالرصاص، لم يبق منها سوى جلودها الصلبة متفرقة على صفحة النهر، فيما كانت ألاف من أسماك البيرانا ذات الأسنان الحادة قد التهمت البقية.
كانت سيارة خاصة قد أنزلت ألواح الجسر الأولى، قطع جاهزة طويلة لإقامة جسر خشبي ذات حجيرات هوائية للتعويم، كانت قد ربطت سوية بعرض خمسة أمتار ثابتة وقوية بما يكفي لكي تحمل سيارة حمل (لوري)، هنا نجح التنظيم، فمن أجل الطريق كان كل شيئ متوفراً، ولكن للبشر كان نادراً.
وجد جبهارت ما كان يبحث عنه، فقد عاد راكضاً إلى سرير العمليات وبيده علبة كارتون تحتوي على الأنابيب المطاطية، ونجحوا بتركيب أربعة قطع، وكان الممرضون يعملون بأفضل ما يستطيعون، كانوا يبعدون فتات اللحم المقطع، وينظفون أجسام الجرحى، وكان ما يزال هناك أثمان من الجرحى يرقدان على الملاءة المطاطية المفروشة على الأرض، وكان يعمل من أجلهم زنجي أسود عملاق، واثنان من الهنود، واثنان من الخلاسيين، واثنان من البيض، ولم تكن لديهم معلومات البتة عن الإسعافات الأولية، ولكنهم كانوا يفعلون غريزياً ما هو صحيح ... فقد ربطوا اللفافة حول ساق أحد المصابين، فيما كان اثنان منهم يضغطان بالتناوب على الشريان السباتي.
" دم ! " صرخ سنتالوس من الطاولة الأولى.
" أين هي قناني الدم المنقول ؟ " ويلعب الحظ دوره ففي ريو كانوا قد رزموا المواد غير معزولة عن بعضها، والأنابيب المطاطية كانت داخل وعاء التعقيم، ضغط جبهارت الكارتون على صدره وأنطلق راكضاً صوب نورينا سامارينا.
" وأخيراً " قالت ذلك بقوة، كان العرق يسيل بوضوح على وجهها المحمر وقالت " ساعدني سيد كارلوس " ومرة أخرى التقت عيناها به كشعاع البرق " ولكن حاذر أن لا تسقط ".
فهم جبهارت ما قالت نورينا وشعر بالخجل، وندم الآن على أوامره عندما طلب من نورينا العودة والبقاء في مكانها وأن لا تنظر إلى الأحداث الدموية التي جرت في النهر، وها هي الآن تظهر له كيف أنه أبخس قدرها، ها هي تعمل في الأجساد الممزقة بهدوء في ظروف صعبة وخطرة، فيما كان الممرضان اللذان يقفان إلى جانب طاولة العمليات، كانا على العكس من ذلك، إذ لا فائدة ترجى منهما.
وضع الكارتون على الأرض، مزق بعض العلب وأخرج منها الأنابيب المطاطية، وعدة الزرق من مشبكات وأبر، ووضعها إلى جانب الجريح على طاولة العمليات، فيما كان زنجياً عملاقاً يقف ونصفه الأعلى عار يلمع وكأنه قطعة من الخشب البراق، كان يقف على أهبة الاستعداد وبيده زجاجة نقل الدم.
مد جبهارت جيبه وأخرج منها منديله وأخذ يمسح العرق من وجه نورينا.
وقفت بهدوء ويداها على الجسد الجريح الممزق، العينان مغلقتان، وعندما أنتهي من ذلك قامت بحركة بجسدها تنم على الفخر، ألقت فيها بشعرها المنسدل إلى الوراء وقالت " دعك من هذا سيد كارلوس، الأفضل أن تهتم بأن لا تتعرض نصف مواد المستشفى للسرقة ".
لم تكن الجهود الطبية المبذولة مع اثنان من الجرحى الستة ذات جدوى، إذ كانت جروحهما بليغة بحيث أن أسنان البيرانا كانت قد اقتلعت الكثير من اللحم من جسديهما لدرجة لم يعد ممكناً ربط الشرايين الممزقة، وكيف يمكن استبدال تلك الشرايين التي فقدت أجزاء كبيرة منها.
لكن ذلك لم يكن يعني الكف عن النضال من أجل إنقاذ الجريحين، بينما كان يجري الإعداد لنصب معدات نقل الدم، وفيما كانت الحقن المختصة بالدورة الدموية وحقن تنشيط القلب. وكان الجرحى راقدين على الملاءة المطاطية المفروشة على الأرض وإلى جانبهم معدات الدم، حيث كان من الضروري معرفة فصيلة الدم، ولكن ذلك لم يكن ممكناً هنا، كما يجري في الأحوال العادية، فإذا كان الدم من فصيلة (O) أو (A) أو (B)، كان الأمر على ما يرام.
أسند الدكتور سانتالوس ظهره متعباً على إحدى الطاولات الفارغة الملوثة بالدم، فيما كانت نورينا والممرضان يراقبون عملية نقل الدم، كان الدم الناقل للحياة يسيل ببطء إلى الأجساد المهدمة، ولبضعة دقائق ساد الهدوء.
" هل نعتبر أن العناية الإلهية والقضاء والقدر قد أوصلكم في هذه الساعة بالذات ؟ " قال جبهارت بصوت هادئ " تعلمون ماذا كان سيحدث إذا كنا نحن كما كان الحال عليه قبل عدة شهور، حيث لم يكن لدينا أية خدمات طبية ".
" نعم كان الرجال المساكين سينزفون حتى الموت ".
" بل أسوء من ذلك، لم يكن بوسعنا انتشالهم من الماء أساساً، البيرانا كانت ستقوم بواجبها على أحسن ما يرام ".
مسح جبهارت وجهه الوسخ بكلتا يديه " حتماً أن اريراس يعلم الآن، أن شطب ستة رجال من جداوله أرخص من استخدام معدات طبية ".
" أليس محقاً في ذلك ؟ " سأل سنتالوس بصوت منخفض.
" أحقاً ما تقول دكتور ..؟ ".
" إنني أفسر فقط منطق أصحاب الأموال، من هم الرجال الفقراء هنا ؟ .. القضية الرئيسية أنهم يعملون سواء كان لديهم عوائل، زوجة وأطفال، أو أين يعيشون فعلاً، لماذا يقبلون القيام بهذا العمل القذر.. من يعلم ذلك .. من يهتم بذلك ؟ إنهم مجرد أرقام في قائمة، وبالإمكان شطبهم، إنه فعلاً شيئ رخيص ". أنحنى الدكتور سنتالوس مبدياً امتنانه عندما قدم له جبهارت سيكارة، واستدرك وسأل " ومن هو هذا اريراس ..؟ ".
" ألم تؤشر قدومك لديه ؟ ". سأل النقيب دورياس بانديرا الذي أنظم إليهم وكانت بدلته العسكرية غارقة بالدماء.
" كلا .. لقد أبلغنا عن مجيئنا بواسطة أحد مساعدي بأننا هنا ثم توجهنا على الفور إلى جبهة العمل في المقدمة ".
" سوف لن ينسى لك ذلك " وضحك بانديرا بقوة " وسيطلق عليك بأنك ثائر مقنع، وقد أبلغ الآن حتماً المعسكر الرئيسي كيرس ".
" ولماذا أنت هنا أيها النقيب ؟ ".
تطلع بانديرا إلى الطبيب متأملاً " من أجل المعلومات " هكذا أجاب باختصار.
" ولمن تخبر ؟ ".
" لي " .
" الشرطة غير محبوبة هنا " قال جبهارت " الناس لديهم فقدان ثقة ضد سلطة الدولة، هنا تسود نظرة بأن الدولة لا تحمي الفقراء، بل تستخدمنا كحيوانات عمل لإرادة ورغبات البنوك الكبرى ".
" هل ذلك صحيح ؟ " سأل بنديرا مبتسماً.
" نعم ".
" لاحظ ذلك .. إنني هنا لهذا السبب " قال ذلك وابتسم، أرجو أن لا تخطئ بسبب ارتدائي الزي الرسمي، فأنا لا أستطيع التجوال عارياً ".
قذف سيكارته بعيداً وعاد إلى السيارة المستوصف حيث كان عشرة رجال معينين من قبل جبهارت يقومون بالحراسة كي لا يسطو أحد على المواد الطبية من الصناديق التي فتحت على عجل، تطلع إليه الدكتور سنتالوس وسأله " هل تتصوره ذكياً يا سيد كارلوس ؟ ".
" ليس بعد دكتور ".
" وإلى أي جانب يقف ".
تطلع جبهارت إلى الطبيب بريبة وقال " إنه فعلاً سؤال يستحق التفكير ".
أبتسم الدكتور سنتالوس " إنك عديم الخبرة، أو أنك تنتهج سياسة (فوكل ـ شتراوس *) أخرج رأسك من الرمال سيد كارلوس ".
" إنني أعلم بأننا نعيش على الدوام فوق بركان بشري، ومنذ أشهر وأنا أحاول أن أهدئ الناس وأن أتحدث معهم بعقلانية، وأن أحقق لهم طلباتهم، وأن أسهل انطلاقتهم، ولكن ما يستطيع المرء تحقيقه قليل "  ثم القي جبهارت لمحة قصيرة إلى نورينا، كانت راكعة قرب الجرحى تبدل الرباطات التي امتلأت بالدماء، كان هناك هندياً صغيراً ممدداُ فوق الملاءة المطاطية، ثم استطرد جبهارت " عندما يظهر هنا محرض يهيج الجماهير ..! فذلك يشبه الشرارة في كومة من الديناميت ".

" هذه الشرارة سوف تتوهج ذات يوم يا سيد كارلوس " قال الدكتور سانتوس برزانة.
" إلى جانب من ستقف ..؟ " سأل جبهارت .
" إلى جانب الفقراء والمستضعفين المستغلين، إنني لست طبيباً فقط ..".
" وماذا أيضاً بعد ..؟ " سأل جبهارت وسحق سيكارته " إنني أرى الأهوال..".
" أحتفظ بمآثرك لنفسك كارلوس، أنت ألماني، ضيف في بلادنا، انك تساعدنا بأفضل ما تستطيع وأنت تفعل ذلك بقصد سليم، إنك تشاهد التكنيك، الورش، الطريق من كيرس حتى كوكالينهو على الريوغوارغوايا، إنه مشروع كبير، إنك تساهم في جعل الأغنياء أكثر ثراء، وترسيخ أعظم للسلطة، وإرساء قواعد استغلال هذا البلد. هذه هي العناصر الجانبية التي لا تلاحظها أنت، وليس بوسع المرء أن يهملها، كيف تستطيع أن تستوعب مشكلات هذا البلد الغريب ؟ لقد عينوك ووظفوك من أجل أن تقوم بالعمل، وهذا ما تفعله ! عمل ألماني ممتاز، صنع في ألمانيا Made in Germany .
" أهكذا تراني دكتور ؟ ".
" نعم ".
" وأنت تعتقد أنني أعمى عما أشاهده من حرق لقرى الهنود وطرد سكانها أو قتلهم ؟ هل تعتقد أنني لا أشاهد هنا كيف يستغل الإنسان إلى أقصى حدود القدرة على التحمل ".
" آه.." ورفع سانتالوس حاجبيه وأضاف " لماذا إذن تعمل معهم ..؟ ".
" أنت لا تعرف عن التقرير الذي أرسلته إلى ريو دكتور ".
" تقرير ..! إنهم سيمسحون به مؤخراتهم فقط "
" أنتم تريدون انتفاضة، ثورة، قتال ؟ " وهنا أدرك جبهارت فجأة لماذا جاء سانتوس مع مستوصفه السيار إلى هنا، لقد آمن دوماً بالتأكيد بأن تقاريره تفيد بدرجة ما، وفي ريو وبرازيليا وكيرس، تعرف المسئولون أخيراً على مساوئ الوضع، نعم هذا يبدو أنه خاطئ، وقد تعرف عليه الآن، سنتالوس جاء إلى هنا مع مستشفاه ليس من أجل القيام بالأمور الطبية، من الذي أمر بتشكيل هذا المستشفى السيار، من الذي يجلس في خلفية الأمر ويسحب الخيوط، هذا ما لا يستطيع المرء معرفته، أنه على أية حال ليس الألماني الغريب الذي يمثل القليل من التكنيك الأجنبي الموجود هنا، قطعة صغيرة في ماكنة كبيرة.
" إنني أدرك من أنت " قال جبهارت ببطء " إنك نوع برازيلي من تشي غيفارا ".
" كثير على هذا الشرف يا سيد كارلوس " ضحك سنتالوس وأضاف " أنا أكون مثل تشي ..! أنا ليس بوسعي أن أكون حتى مشرط قياساً له، أو مسدس رشاش ".
ولم يكن قد لاحظ أن إحدى سيارات المستشفى الجوال تحتوي على ترسانة من الأسلحة موضوعة في صناديق مكتوب عليها بالأحمر " جهاز أشعة ".
توفي رجل ثالث خلال نقل الدم إليه، فهناك جروح لا يستطيع القلب تحملها، أو أن يعافى منها، ولكن الرجال الثلاثة الآخرين اجتازوا الأمل الصعب وأمكن إنقاذهم، وفيما إذا سيكون بوسعهم يوماً تقديم الشكر إلى سنتالوس ونورينا، فذلك أمر آخر، وبحفر وثغرات بحجم قبضة اليد في أجسادهم، سيكون من الصعب تحقيق السعادة في الحياة.
جاء دورباس بانديرا من ضفة النهر وأشار إلى جبهات أن يأتي معه إلى سيارة الجيب، وتبعه باولو الجيرا ومعه اثنان من وحدات الزوارق، وعلى النهر حيث كان العمل يتواصل، كانت القطع الخشبية قد أنزلت وربطت بعضها ببعض، ومنها إلى الماء فيما بعد.
كانت نورينا ما تزال تناضل من أجل إنقاذ حياة أحد الجرحى، وكان الرجل قد ابتدأ يرتعش بصورة وحشية، وقد استفاق لتوه من غيبوبته يصرخ بصوت فضيع، وحقنته نورينا بجرعة مورفين، فغطس مرة أخرى في هناء عالم اللاألم.
" هل تسمع هذا يا سيد كارلوس " قال بانديرا بجدية، ثم أردف قائلاً " هل الجيرا شخص موثوق ..؟ ".
" إنه من أفضل رجالي " قال جبهارت، وتطلع إلى الجيرا وأضاف " وهل أظهر لك شيئاً ".
" بالعكس، هيا، قل لي باولو، ماذا يقول الرجال العاملين على النهر ..؟ ".
صر الجيرا على أسنانه وقال " انه لم يكن حادثاً قضاء وقدر، يا سيد كارلوس، لقد شاهد ثلاثة رجال كيف أن الزورق قد دفع بقضيب من زورق آخر فانقلب ".
كان الصمت المفاجئ مؤثراً، وجبهارت كان لديه الشعور بأن قلبه سوف يتوقف، دفع ...؟ إذن فهذا قتل عمد، بانديرا الذي كانت بدلته الرسمية لما تزل بعد ملطخة بالدماء، تنحنح بصوت منخفض.
" هذا غير ممكن " أنتفض جبهارت هاتفاً .
" ولدي شاهد على ذلك " قال الجيرا بحرارة.
" إننا هنا في جبهة العمل الأمامية جميعاً رفاق، نحن هنا نحتاج لبعضنا في السراء والضراء هنا لا يوجد مجرمون ".
" عدا إذا كان الأمر يتعلق بالنساء " تدخل بانديرا قائلاً " ولكن ذلك ليس جديداً، فقد كان الأمر هكذا دائماً في مجتمع الرجال حيث يحلم كل فرد بالأجازة، والآن لا توجد نساء في الملعب كارلوس، ليست هناك غيرة حمراء التي تفجر حالات القتل، لقد حدث مثل هذا وهذا القتل سياسي ".
هذه الكلمة قيلت بوضوح تام، بانديرا أشار إلى كلا العاملان، اثنان من رجال الغابات كانا واقفين خلف الجيرا كأنهما يبحثان عن الحماية وراء ظهره العريض.
" إذا كان الأمر كذلك أيها النقيب " قال جبهارت بتأثر " إذن قم بواجبك هنا، هل تعرف القتلة ".
" طبعاً الزورق الثالث، ولدي الأسماء، ولكن ماذا ينفع ذلك ..؟ إنهم سيكذبون وسيلجأون إلى أريراس والتحقيق في كيرس سيكون في المقر الرئيسي لإدارة المشروع، هل تعلم ماذا سيسفر عن ذلك..؟ " دس بانديرا يديه في جيوب سرواله " سوف يرحلون إلى برازيليا، وهناك سيختفون. إنني أريد بذلك فقط أن أوجه أنظاركم، كيف تجري الأمور هنا في معسكرات ومستعمرات العمل، هل تعلمون لماذا ينبغي على الرجال أن يموتوا ..؟ ".
" إني أفهم ذلك " قالها جبهارت بصوت باهت.
" كان القتلى أصدقاء الجيرا، أليس كذلك ..؟ ".
" نعم " أجاب الجيرا .
" لقد فتحت فمك للحديث عن الاستغلال والعبودية، لقد شتمت السيد بولو، بولو الكبير، وقمت بالشغب بين الرجال، وعملاً كهذا سيتم إبلاغه فوراً إلى العاصمة، كما يتم الإبلاغ عن كل شيئ، إن استخبارات هؤلاء القوادين تعمل بصورة رائعة.. ! ".
" وماذا سنفعل نحن كشرطة ..؟ ".
" لا شيئ " وأشار بانديرا لكلا الشاهدين أن يبتعدا قليلاً" إنه يكفي عندما يعلم المرء، وعلينا الآن حماية الشاهدين فقط، فالمرء هنا يسقط بسهولة في النهر ..! ولكن كيف نبدأ بالعمل مع هذين الشاهدين ..؟ الجيرا قاتل قد نال عفواً، والآخر هو فلاح سابق أخذ منه أرضه، والثالث هو شخص ظهر هنا فجأة، من أين جاء ..؟ لم يفصح عن ذلك، هل هو شاهد يمكن تصديقه ..؟ ها .. إذن فقط أنا أصدقكم وأنت سيد كارلوس ..؟ ".
إنني أصدقهم أيضاً " أجاب جبهارت بتأثر.
" إذن فنحن نعلم كيف يقف أحدنا حيال الآخر " بانديرا أعطى يده إلى جبهارت " إنني سعيد بالتعرف عليك في هذا الجحيم حيث يعد الإنسان الواحد بمئة من الملائكة ".
في المساء كان الجرحى الثلاثة ما يزالون على قيد الحياة، وقام الدكتور سانتالوس ونورينا بإجراء العمليات مرة أخرى، عالجوا الجروح الفضيعة بالمضادات الحيوية، وزرقوا بحقن البنسلين ونقل الدم إليهم، والآن يرقد الجرحى على فرش نظيفة داخل خيم، تحميهم شبكتان من الناموسيات لحمايتهم من الأسراب الهائلة للبعوض التي كانت تهاجمهم من اتجاه النهر. وفي داخل الخيمة يجلس الممرضان ويقومان بخدمة المرضى بالمواد الحامضية الطازجة (ماء مغذي) ويحافظون على وضع القناع على الوجه ويضبطون ضغط الدم على جهاز قياس الضغط وعلى وضع زجاجة الماء المغذي، وكان الدكتور سانتالوس قد فكر لكل شيئ عند إقامة مستشفاه المتجول بحيث تغطي حاجاته في هذه الغابة البدائية التي يبدو فيها أي شيئ وكل شيئ، أمراً عجيباً.  
لم يعد المرء يسمع شيئاً عن إدارة المشروع والرجال الذين يعملون حول لويس جيزوس اريراس وقد سجل الحادث ببرقية عبر اللاسلكي وردوا على ذلك بأنهم أحيطوا علماً بالأمر دون تعليق آخر. والآن كان الطعام الوارد إليهم من المطبخ المتجول قد أنقلب. وحدة العمل الليلة كانت تواصل العمل بعد أن وضعت الجسر فوق صفحة النهر، وكانت مولدات الكهرباء التي تعمل بالديزل تضئ المنطقة بأنوار كشافة.
واصلوا ... واصلوا ... الأمر يدور عن مكافأت كم هي بعيدة المسافة حتى ريوارغوايا ....!  

ـــــــــــــــــــــــــ
* سياسيان مشهوران في ألمانيا الاتحادية

للراغبين الأطلاع على الجزء الثاني ...

http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/16951-2015-05-31-19-41-10.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

822 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع