"" شعوبي إبراهيم متعدد المواهب، الشاعر ، والعازف الموسيقي، والظريف،يبقى في الذاكرة""
أساس الحياة هو اكتساب الذكريات، فالذكريات هي اليوميات التي نحملها معنا، فلها نكهة خاصة وشعورا جميلا عند استرجاعها، حيث كانت تجمع بين سخرية الحياة من عقولنا الصغيرة وبين احلامنا العريضة، ونحن على أبواب موسم الصيف، التقيت احد الأصدقاء في احدى المقاهي الجميلة في الشارقة، لم اره منذ سنوات طويله، في دفاترنا أصدقاء الماضي الذين عايشنا معهم طفولة حالمة بريئة وحميمة، تطرقنا مما تيسر لنا من طرائف ومواقف وذكريات عزيزة سطرت قلوبنا بأسمى معاني الوفاء وأصدق المشاعر الإنسانية، دواخلنا دموع أفراح عمر مضت بسعادتها وبساطتها واحزانها، لحظات، نتذكرها بتفاصيلها للتخفيف من وطأة الظروف الطاحنة للغربة وضغوط الحياة، وقد صادف اننا كنا نسمع بعض من الموسيقى والأغاني التراثية، وحينها داعبت سطور
مخيلتنا الفنانين والادباء الذين كانت تزدهر بهم بغداد ومدن العراق، فما أحلاها وما أحبها الينا، وما اعمق ذكراها في رؤوسنا، وهي التي اخذت حيزا كبيرا في سرد مكانتها في المجتمع العراقي، اقترح ان نكتب عن احد فرسان الموسيقى الفنان وعازف الجوزة الاستاذ شعوبي باعتباره ابن الاعظمية التي نشأنا وتربينا وعشنا فيها، حيث من النادر ان يجود الزمن بمثله، وهو الشاهد على القرن العشرين منذ ولادته وحتى موته، وبدأ القلم يشق طريقه عن الفنان الذي ملأت امكانياته المتنوعة ربوع العراق عاشق الموسيقى والمقام واحد جهابذتها، فالكتابة عن سيرة الأستاذ شعوبي له نكهة لما تميز به من عطاء فني متألق.
مولده ونشأته وتعليمه:
ولد شعوبي في محلة الشيوخ بالأعظمية سنة 1925، وهو ابن الحاج إبراهيم خليل اسماعيل العبيدي الاعظمي ووالدته الحاجة ماهية غدير قدوري النعيمي الاعظمي، كان ابوه يعمل بالعطارة، نشأ في بيئة الاعظمية التي تحب المقام وتسمعه بكل انواعه، كما نشأ هاشم الرجب وحسين الاعظمي، اكمل شعوبي دراسته الابتدائية في مدرسة الاعظمية الاولى ثم اكمل الدراسة المتوسطة فيها ايضاً واكمل دراسته الاعدادية في ثانوية بيوت الامة المسائية الاهلية في مدينة الكاظمية، واشتغل بوظيفة مراقب في امانة العاصمة، ثم موظفاً في الزراعة..، كان في شبابه جسورا يحب مجالسة الكبار وفي حضور المناقب النبوية والتمتع بالاستماع الى قراء المقامات، و حلقات الذكر، وتلاوة القرآن في جامع الامام أبو حنيفة النعمان بصوت الحافظ مهدي العزاوي والحافظ محمود عبد الوهاب، وكان يرعاه ويشجعه السيد جواد السيد قطب.
دخل الى معهد الفنون الجميلة المسائي وتخرج منه في العام 1952 على آلة الكمان ثم انظم بعدها الى معهد اعداد المعلمين في الفنون الجميلة الصباحي، حيث درس على يد الأساتذة غانم حداد ومنير الحكيم وجميل ومنير بشير حتى تخرج في العام 1956م على آلة العود، دخل الفنان شعوبي ابراهيم الاذاعة عام 1948 عازفاً على آلة الرق مع الفرقة الموسيقية، أسس مع الحاج هاشم الرجب فرقة الجالغي البغدادي عام 1951م.
تولى بعد تخرجه عدة وظائف، جرى تعينه معلما للنشيد والموسيقى في المدارس الابتدائية، منها الكميت والاعظمية الأولى والتطبيقات، بعد ذلك مشرفا على الاناشيد المدرسية في ثانوية الحريري للبنات و وزارة التربية، ثم مدرسا في معهد الفنون الجميلة، واخيرا مدرسا للمقام والجوزة في معهد الدراسات النغمية.
الفنان المتعدد المواهب وآلة الجوزة:
الأستاذ شعوبي بحقيقته فنان يجيد المواهب في مجالات عديدة ومتنوعة، فهو مولع بالموسيقى، وكان يستمع منذ شبابه الى قراء المقام عن طريق الاسطوانات والاشرطة، فأصبح ملماً لجميع المقامات عزفا وغناءً وتدريساً، ومطلعا على مدارس أدائه، بارع واصيل على آلة الجوزة، كانت آلة الجوزة من أهم الآلات الموسيقية في أجواق المقام العراقي، ولم يحسن صنع الجوزة في تلك الأيام غير اليهود وبعد رحيلهم، وحينها اقدم المبدع شعوبي على الاتيان بجوزة هند واخذ يأكل لبها وشرب حليبها ومن بعد استخدم ادوات النجارة والاوتار، وصنع خلال أيام آلة جوزة كالتي اتقنها اليهود فصاح وبفرح كبير "انا گدها وگدود"، وبهذا استطاع المعظماوي الموهوب ان يتدرب العزف عليها، حتى أصبح من أشهر العازفين وبها اشتهر، الموسيقى تنساب من أصابعه وهي تلاعب الجوزة التراثية وتحس من خلالها أنك تنتقل الى عالم الروحيات والتأملات الوجدانية بشكل رومانسي حتى بقيت علامة مميزة من علامات عطائه الخالد.
ابدع العزف على الكمان والعود والقانون والسنطور، واجادها بشكل محترف، كما انه يجيد الضرب على الدف في حلقات الذكر والمنقبات النبوية وأخيرا انه يحسن الشدو بالناي والمزمار.
هو اول من اوجد فنون المنلوج المدرسي مثل منولوج (استاذ الجبر والهندسة) ومنولوج (الكسلان مومنا) وغيرها التي كانت تهدف الى تقويم المسيرة التعليمية من خلال النشاط الموسيقي في وزارة التربية،، كما انه الف بعض البستات البغدادية والتي تتبع المقام ومنها:
مشيني دبي دبي مشيني وخذ عيني.
نورة نورة يا نورة وما ينوشة الرمان.
الماي زورة الخان عمرة خسارة.
طفي طفي الكهرباء حبي بيضوي بدالة.
منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي كان خان مرجان، مطعماُ سياحياُ يقصده السائحين وعامة الناس لقضاء ساعات في هذا الجو البغدادي الأصيل، شهد الخان اجمل الامسيات الغنائية، صدحت أصوات مغنين بين ارجائه لكونه مطعما راقيا يقدم اشهر المأكولات البغدادية .
وقد ارتبط اسم خان مرجان بانغام المقام العراقي والجالغي البغدادي بمطرب العراق يوسف عمر والفنان وعازف الجوزة شعوبي إبراهيم، كما تنوعت المشاركة تباعا وشملت مائدة نزهت وصلاح عبد الغفور ورياض احمد وعباس جميل وغيرهم، بعد الاحتلال اهمل هذا المطعم اسوة بمعالم بغداد التاريخية و التراثية وأصبحت عرضة للاندثار والانهيار والإزالة.
شارك مع الفنانين محمد القبانجي وعلاء كامل وروحي الخماش وحسين قدوري بتأسيس معهد الدراسات النغمية، وهو اول من درس المقام شامل المجاميع في بداية السبعينات، الذي تخرج على يده العديد من الطلبة في مجال المقام والعزف على آلة الجوزة.
النجارة: منذ صغره كان يهوي النجارة وكيف لا وقد صنع آلة الجوزة، اتقن مهنة النجارة ، وكان في شبابه وكهوية بدأ بصنع (الزوارق) الصغيرة، من شرائط الخشب والقماش المشمع، وكان يحمل زورقه فوق رأسه من بيته في محلة الشيوخ الى (الشط)، وكان يمارس هذه الهواية في أوقات متفرقة، عمل الأثاث الخشبي لبيته من اسرة النوم وغرف الاستقبال والمكتبة وغيرها.
في كل مجتمع هناك من يسلي المجتمع بطرائف ومقالب فالظريف او الفكاهي او المنكت ان يكون صاحب ذكاء يجعله يبحث عن الحيلة ويتدبر الخطط وينسج خيوطها، ويمتاز بنظرة الثاقب وبموهبته الاصلية التي تضفي عليه خفة ولطفا فتأتي النكتة او الفكاهة لبقه غير مصطنعة تفيض بالعذوبة، كما ان هناك مقولة مقتبسة من ''هنري برغسون'' تقول لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر "وهتاف الصامتين" إنها نزهة في المقهور والمكبوت" والمسكوت عنه''، يمتاز شعوبي بالدعابة والمزاح وصاحب نكتة ويحفظ الكثير منها، اذ يعتبر احد ظرفاء الاعظمية وبغداد، قلما تراه جالساً المقهى وحده، وحتى اذا جلس وحده، فسرعان ما ترى محبيه ينتقلون اليه، ويستمعون الى حديثه وتعليقه، وشعره وغنائه، وهو ينسجم بسرعة ويستغرق في الفن حتى يستولي عليه الموضوع، فهو شمعة جلساء المقاهي والمجالس التي يرتادها، وكان في الوقت نفسه واسع الاطلاع عميق الغور، وتروى عنه قصص ظريفة ومقالب متنوعة، منها مجالسته مع جاسم أبو تقي "الزعيم هتلر"، الذي كان له مقعد مفضل في مقهى شهاب توشه وكان حين جلوسه تنهال عليه عبارات التمجيد والتفخيم إشلونك زعيم الله بالخير زعيم حساب الزعيم واصل عليه إلى آخر عبارات الاستحسان والتمجيد، وأصبح موهوما بالزعامة وتقمصه لشخصية هتلر حتى فقد شخصيته الأصلية في تلك المقهى كان شعوبي إبراهيم يجلب له مسجل للمقهى قد سجل عليه (بصوت شعوبي طبعا) تسجيلات من إذاعة برلين باللغة العربية وبصوت مذيعها المشهور يونس بحري (هنا إذاعة صوت العرب من برلين الفوهرر يعني هتلر بالألمانية يرسل تحيته وسلامه الحار إلى جاسم أبو تقي في بغداد) ويختمها شعوبي بالنشيد النازي الألماني.
شارك الفنان شعوبي إبراهيم العديد من بلدان العالم في المهرجانات الفنية المقامة فيها ومنها طاجكستان، أذربيجان، سوريا، دول الخليج، إيران، تركيا، بلغاريا (مهرجان سالزبورغ النمسا) فنلندا، مصر، تونس والجزائر وغيرها، كما شارك عام 1964 في مؤتمر الموسيقى العربي الثاني في بغداد.
وفي عام 1976 وفي احتفال فني قدمت له دائرة الفنون الموسيقية وساما وشهادة تقديرية لكونه من رواد الموسيقى والغناء في العراق في فترة الأربعينات والخمسينات، كما قدمت له نقابة الفنانين عام 1992 وسام الفن وشهادة تقديرية بمناسبة مرور عام على وفاته لدوره المتميز في إحياء المقام العراقي، وفي فنلندا منحت أكاديمية سيلبوس الفنلندية شعوبي إبراهيم شهادة تقديرية اعترافا منها بفنه وتقديرا لموهبته وعطائه الفني.
الفنان شعوبي لا يكتب قصائده، ولا يحتفظ بها، بل ينشدها في المقهى او (الجرداغ) او المجالس، ويعطي القصيدة لمن يطلبها، له مؤلفات وكتب مازالت تقرا في المكتبات منها:
كتاب المقامات - اصدار عام 1963 ، الف كتابه (في (مقهى عباس) بالأعظمية، كان يؤلف كل يوم مقامة او مقامتين، يمليها املاء، فيها سجع ادبي، وفيها معلومات قيمة عن الانغام والالحان والمقامات العراقية،
كتاب دليل الانغام لطلاب المقام - الطبعة الاولى 1982
كتاب دليل الانغام لطلاب المقام - الطبعة الثانية 1985
وفي عمر الستين أصيب الفنان القدير شعوبي بداء السكر مما أدى الى فقدان البصر، كما أصيب بعدها بكسر في عظم الفخذ، وهو على فراش المرض كانت الجوزة ملاذا وانيساً له بالعزف والغناء، يحتضنها برفق وتحتضنه بحنان، غادر الحياة ووافاه الاجل الأثنين الموفق 9/9/1991.
قال عنه الموسيقار الراحل "روحي الخماش"، في اربعينية الفنان في قاعة الرباط عام1991إن الفنان شعوبي "حجة في المقام العراقي، أنه علامة مضيئة موسيقياً وتراثياً عراقياً وعربياً بل حتى دولياً"، وقال الموسيقار منير بشير "رحيل شعوبي خسارة كبيرة لا تعوض" كما نعاه الفنان داود القيسي نقيب الفنانين والأستاذ حبيب ظاهرالعباسي، وكتب عنه الأستاذ وليد الاعظمي والأستاذ خالد القشطيني واخرين...
الفنان شعوبي من الفنانين الذين، صنعوا أنفسهم بجهدهم العقلي، واستحقوا شهرتهم الواسعة، ومن الذين أثروا الموسيقى في العراق، وهو واحد من أولئك الذين تركوا بصمة واضحة في كل ما يخص الفن الموسيقي سواء في الجانب الجماهيري أو الإعلامي، واستطاعوا بإبداعهم ومهارتهم أن يدوِّنوا أسماءهم في صفحات تاريخ الموسيقى، وهو من طينة الموسيقيين الذين قلَّ أن يجود بهم الزمن وخاصة في أيامنا هذه، اذاً هو مدرسة وركيزة من ركائز البيت الثقافي ولون من الوان رجال العراق الموسيقيين، أنه علامة مضيئة موسيقياً وتراثياً عراقياً وعربياً بل حتى دولياً،، هو من الرواد الذين يستحقون ان نخلد اسمه في احدى شوارع الاعظمية في محلة الشيوخ.
هكذا كانت حياة شعوبي الشاعر والمغني والعازف صاحب الذوق الموسيقي اشبه بسحابة مطر روت الارض بامطارها، ثم رحلت تاركة محاصيل نافعة، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود
878 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع