ا.د فاضل البدراني
سالي التي كانت حميده : حكاية علم ورسالة أستاذ
يرنُّ هاتفي وسط زحمة العمل والمسؤوليات، والمتصل هي سالي، وصوتها تعلوه حشرجة توحي ببكاءٍ محبوس في الحنجرة. أفهم من كلامها أنني المسؤول عن مصيرها في الدراسات العليا، حين وعدتُها في بداية دخولها دراسة الإعلام بمشوار قادم لدراسة الماجستير، وجسدّت ذلك نيلها المرتبة الأولى في البكالوريوس لأربع سنوات، بمعدل 92%.
تلك هي قصّة طالبتي التي أنهت كلامها المبعثر: “دكتور، عفية… خلّصني من ورطة حميدة.”
وعلى الرغم من كفاءتها العلمية، وحصولها على المرتبة الأولى بين جميع طلبة كلية الإعلام في الجامعة العراقية للعام الدراسي 2023–2024، إلا أن الأبواب أُوصدت بوجهها عندما حان وقت التقديم إلى مرحلة الماجستير الذي أختتم الامتحان التنافسي له في ٣٠ حزيران ٢٠٢٥ ، لأن اسم “حميدة” رفض أن يكون “سالي”، كون حميدة سبقتها بدخول البكالوريوس، بينما سالي هو الاسم الذي اختارته لنفسها، الاسم الأحدث، المتماشي مع روح العصر والتكنولوجيا و”الدلفري” و”KFC”.
في بداية العام الدراسي 2019–2020، دخلتُ إلى قاعة دراسية تضم طلبة المرحلة الأولى في قسم الصحافة، وفي أول محاضرة، تعرّفت على أسماء الطلبة، وتحدّثت عن التحوّل الجديد في حياتهم، وعن تخصص الإعلام، وشيء من التوضيح عن مستقبلهم. وكانت من بينهم طالبة مهذبة وأنيقة، في الشكل والمضمون، قليلة الكلام، متدفقة بإجابات واثقة، بليغة في معانيها. اسمها “حميدة”.
أعاد هذا الاسم ذاكرتي إلى زمنٍ مضى، وذكرني بأستاذتي في مرحلة البكالوريوس، الدكتورة حميدة سميسم، الاسم اللامع في الوسط الجامعي والإعلامي، كما ذكرني بإحدى قريباتي التي أصبحت اليوم عجوزًا لم تترك خطوط الزمن في وجهها مساحة إلا وعبثت بها.
عدتُ إلى الطالبة وقلت: “أهلًا بكِ، حميدة… اسمك مألوف وشامخ، ويدل على الخصال الطيبة، وأهنّئك عليه.” لحظتها، نظرتْ إلى زميلتها بنظرة تحمل تساؤلًا في لغة الجسد: “هل كلام الأستاذ حقيقي أم مجاملة؟
في الأسبوع الثالث، وكعادتي، كنت أستنطق الطلبة في المرحلة الأولى لأتعرّف على مستوياتهم العلمية وإدراكهم الفكري. كانت لحميدة حصة من النقاش، إذ إنني في المحاضرة الثانية اقتنصت منها جملة تعادل محاضرة كاملة، عندما سألتهم عن مفهوم الإعلام لديهم.
فتميّزت بإجابتها قائلة:
“الإعلام مسؤولية إنسانية في بناء المجتمع، قبل أن يكون عملية نقل معلومات متداولة بين الناس، سواء كان مصدرها الجريدة أو التلفاز أو الإذاعة.” يا له من جواب رصين، قد يصعب على كثير من طلبة المرحلة الرابعة طرحه! ثم سألتني:
“هل مصادر دراستنا ستكون من ملزمة أم من كتاب منهجي؟ وبرأيك، دكتور، كم مصدرًا يكفينا لفهم المحاضرة واستيعابها؟” أجبتها مازحًا: “يا دكتورة حميدة، سأعطيك جوابًا أجمل مما تطلبين: أنتِ الآن، في ثالث محاضرة لي معكم، تُعتبرين من مكتشفاتي… طالبة متفوقة بشخصية علمية ممتازة. ومن هذه اللحظة، أبلغك: بعد تخرجكِ من الكلية ستُقبلين مباشرةً في الماجستير، وعندها سيكون لسؤالك مشروعية كاملة.”
هنا وقعت حميدة في دوّامة شعور مركّب بين الخجل والنشوة، وقد اتجهت لها كل أنظار الزملاء.
مضت السنين، حتى وصلتْ إلى المرحلة الثالثة في العام الدراسي 2022–2023، وكنت أستاذًا لمادة “الصحافة الاستقصائية”، وهي مادة جافة لا تُفهم إلا بالغوص العميق في قاع البحث والتمحيص، حتى أن خبراء الإعلام يسمونها “صحافة العمق” و”النبش في حيثيات المعلومات وتعدد المصادر”.
في أول محاضرة، كانت حميدة بين زملائها من الطلبة. حييت الجميع بمحبة وأبوة معهودتين، وقلت مازحًا:
“عدنا ثانية، والعود أحمد.” نظرتُ نحو طالبة تجلس في منتصف الصف الأول، وسألتها: “أهلاً حميدة، ما حصيلة نجاحك في المرحلة الثانية؟”
فانحنت برأسها، وأجابت بخجل:
“دكتور، حصلتُ على المرتبة الثانية على الدفعة. الأولى كانت زميلتي تمارا، التي كانت تجلس بجانبي.” ثم أضافت هاربةً من النتيجة: “دكتور، اسمي سالي، وليس حميدة. هذا هو الاسم الذي تناديني به عائلتي. لقد غيرته رسميًا في دائرة النفوس، ولم أعد أتعرف على نفسي إلا به. في هذا العام الدراسي، بدأت معاناة سالي مع الاسم. فقد كان اسمها الرسمي في سجلات الحضور “حميدة”، وكلما تمّت قراءته، كانت تعترض بهدوء:
“أستاذ، اسمي سالي.”
فالاسم الذهني يُشكّل صورة بصرية وهوية نفسية. وسالي –في هذه المرحلة– أصبحت أكثر تميزًا من ذي قبل، حتى إنها كثيرًا ما وقفت أمام زملائها لتشرح الواجبات الدراسية بإتقان. ومن باب الدعم المعنوي، كنت ألقبها بـ”الدكتورة سالي”، وأحيانًا أقول ممازحًا:
“شكرًا حميدة المبدعة.”
كنت أقرأ في عينيها عتبًا وامتعاضًا خفيفًا، يرافقه ضحك الطلبة، في محاولة مني لكسر الرتابة وإضفاء روح مرحة على المحاضرات الثقيلة. رويدًا رويدًا، بدأت أتعود على الاسم الجديد، وانسجمت معه. وفي آخر محاضرة من العام الدراسي، قدّمت للطلبة مراجعة مشوبة بمشاعر وداعٍ أبوية وتربوية. ثم جاءت نتيجة الامتحانات، وكانت المفاجأة:
سالي –التي كانت حميدة– أصبحت الأولى على مرحلتها. وفي الوقت نفسه، انتقلتُ من الجامعة إلى موقعي الجديد وكيل وزارة الثقافة والسياحة، فانقطعتُ عن طلابي، باستثناء زيارة واحدة أجريتها للكلية في نهاية العام الدراسي التالي (2023–2024)، لأتفقد أحوال الزملاء والطلبة.
كانت من أصعب لحظات الزيارة، مواجهة طلابي الذين أصبحوا في المرحلة الرابعة. عيونهم كانت تهرب من نظراتي، وقد غمرتها الدموع. من بينهم سالي، التي باتت كابنتي. تفوقت، وتخرجت وهي الأولى على دفعتها.
زارتني في مكتبي الجديد، وقد تغيّرت الأجواء. لم تكن قاعة درس، ولا غرفة أساتذة، بل مكان ينبعث منه عبق البرستيج الرسمي. أجرت معي مقابلة صحفية لصالح صحيفة الخبر، التي كنت رئيس تحريرها سابقًا قبل مغادرة الكلية
مرّت سنة على تخرج سالي، حتى بدأ موسم التقديم للدراسات العليا. كانت روحها معلّقة بقسم الدراسات العليا، بعنوانٍ اسمه “الماجستير”.
ذات مرة، وقبل انتهاء مدّة التقديم التي حددتها وزارة التعليم العالي بعشرة أيام، وبينما كنت في اجتماع رسمي، رنّ هاتفي المحمول، وإذا بها سالي.
أجبت فورًا، فهاجمني صوتها المشوب بالحشرجة، المعبّق ببكاءٍ مكبوت، وعتبٍ مهذّب: “دكتور، التقديم للدراسات على وشك الانتهاء، وأنا في ورطة… اسمي الرسمي في الوثائق لا يزال حميدة، ومديرية الوثائق والشهادات قالت إن التصويب يحتاج وقتًا، وسيمضي هذا العام عليّ!”
ومن دون تردد، اتصلت بنظيري في وزارة التربية، الدكتور حسين صبري، وطلبت رعايته لهذه الكفاءة العلمية. أبدى استعداده الفوري، وأبلغتها بالذهاب صباح الغد إلى المديرية. وبالفعل، جرت الاستجابة، حتى فوجئت بأن عليها التصويب أيضًا في مدرستها الثانوية.
رن هاتفها مجددًا، فتلقّيت الاتصال بسرعة، موجّهًا إياها إلى الجهات التربوية، التي أبدت تعاونًا إيجابيًا، خاصة بعدما عُرفت بأنها “الطالبة الأولى”، وهو وصف ثالث أُضيف إلى جانب اسميْها السابقين: “حميدة” و”سالي”.
كنا في سباق مع الزمن.
ورغم انتهاء ورطة الاسم في وزارة التربية، بقي فصل جديد ينتظرها في الكلية والجامعة.
في أحد الصباحات، لم يكن يتبقى سوى ثلاثة أيام على إغلاق التقديم. رن هاتفها، وكنت في غاية الانشغال، لكن اتصال سالي يُعدّ من الاستثناءات عندي، لأنه يرمز للرهان الذي عقدته منذ اليوم الأول.
قالت: “دكتور، ذهبت إلى التسجيل في الكلية، وقالوا إن أمامي وقتًا قليلًا لحسم أمري، بينما التقديم يوشك على الإغلاق.”
أجبتها فورًا: “توجّهي إلى عميد الكلية الدكتور إيثار طارق، وهو بانتظارك.”
أغلقتُ الهاتف، وما هي إلا دقائق حتى رنّ هاتف العميد، فأجاب وكأنه كان بانتظاري ليُبدي استعداده التام للتعاون مع هذه الطالبة، التي وصفها بالمجتهدة والمهذبة. وما إن أنهى المكالمة، حتى كانت سالي أمامه. رحّب بها، وكتب لها قصاصة: “توجهي إلى التسجيل، وأنجزي معاملتك فورًا.” وبنهاية الدوام، رن هاتفها مجددًا، لكن هذه المرة بصوت ينبعث منه الطمأنينة: “دكتوري، ساعدني العميد والمعاون، وأكملت الملف في الكلية. لكن المشكلة الآن في الجامعة، بسبب زحمة التسجيل العام.” أجبتها بثقة: “سننتصر يا سالي على مخلفات حميدة. غدًا، توجهي فورًا إلى المساعد الإداري للجامعة، الدكتور حسن فضالة، سيكون بانتظارك.” وما يشفع لها أن الجميع أصبح يعرفها بـ”الطالبة المتفوقة”.
ومضت ساعات النهار، كنت خلالها غارقًا في العمل والنسيان، حتى رن هاتفها مجددًا، قبيل نهاية الدوام، ولم يتبقَ على غلق التقديم سوى يوم واحد.
قالت: “دكتور، أكملت كل شيء، وقدّمت رسميًا في الكلية والجامعة، واسمي الآن ضمن القوائم.”
هذه المرة، كانت ابتسامتها واضحة في نبرات صوتها، مع طموح يفيض من كل حرف.
قلت لها: “موعدنا الامتحان يا سالي.”
أجابتني بحزم ممزوج بالحب: “وسأفرحك… سيكون وجهي أبيض أمامك، يا أبتي.”
يا لها من علاقة أبوية جميلة ! وسرعان ما بدأ امتحان القبول التنافسي لمئات الطلبة، وفي مساء اليوم ذاته، اتصلت مجددًا:
“أبشرك، دكتوري وأبي وأستاذي… حصلت على أعلى درجة بين جميع المتقدمين!” وأتذكّر أنها قالت إن درجتها تجاوزت الـ80%. فسألتها: “ومعدلك في السنوات الأربع؟” قالت: “92%.” فأجبتها مبتسمًا: “مبارك لكِ الماجستير…وأنتظر منكِ الدكتوراه.
سالي لم تكن من عائلتي، ولا من حاملي أي هوية فرعية تجمعنا، لكنها بالحقيقة من أقرب الأقارب إلى قلبي… لأنها بنت وطني العراق، وجزء لا ينفك عني. إنها طالبتي، التي تعلّمت مني العلم والمعرفة، وتبادلنا في رحلتنا روح القيم، وأشبعتنا الأبوة العلمية والإنسانية التزامًا وشغفًا.
سالي أصبحت جزءا مني، من ضميري المهني، ومن مشواري الأكاديمي. كانت رهانا على الذكاء والإرادة وربحتُه.
858 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع