البرج العاجي للفلسفة والانعزالية الفلسفية

 أ.د. نزار الربيعي

البرج العاجي للفلسفة والانعزالية الفلسفية

إننا نعيش في عصر يزخر بالمشكلات التي تنشأ نتيجة للتغيرات السريعة المتزايدة التي تؤثر في صميم حياتنا تأثيراً عميقاً يزداد شدة وتغلغلا يوماً بعد يوم . وبينما تزمح بنا الأحداث العلمية والاجتماعية رمحاً سريعاً وتغير معالم حياتنا تغييراً جذرياً ، نجد عدداً غير قليل من الفلاسفة المعاصرين – إن لم يكن معظمهم - لا يحفل بهذه الأحداث الجسام وإنما يعنى بمناقشة حفنة المشكلات الفلسفية التقليدية التي كانت ، في تاريخ الفلسفة الثقافي ، تخدم أغراضاً اجتماعية وثقافية لم يعد لها وجود الآن . فبدلا من مناقشة الأهداف الاجتماعية التي يجب أن نسعى إليها في هذه المرحلة التاريخية ، لا يزال هؤلاء الفلاسفة يناقشون ((طبيعة الحقيقة)) ، وبدلا من دراسة ما يبذله الناس من جهود لصياغة الأمور التي تقع لهم فى خبراتهم والتي يتعلقون بها في حماسة وقوة ، لا يزال بعض الفلاسفة يقوم بمحاولات عقيمة مستحيلة في سبيل الارتفاع عن الخبرة والسمو عنها ، وبدلا من تناول الصراع القائم بين الغايات الاجتماعية ، والتضارب بين المؤسسات المتوارثة وبين الاتجاهات المعاصرة التي لا تتلاءم معها ولا تنسجم ، وبدلا من توضيح أفكار الناس ومفاهيمهم وتبصيرهم بما يدور خونم فعلا من ضروب الاصطراع الأخلاقي والاجتماعي وما وراء هذا الاصطراع من قوى وقيم ومصالح ، وبدلا من محاولة اختراع وسائل أو أساليب فكرية لحسم هذه التوترات بدلا من هذا كله نجد أن جانباً كبيراً من الفلسفة المعاصرة لا يريد أن يتخلى عن محاولاته في البحث عن الحقيقة المطلقة النهائية وفى التأمل في طبيعة الأشياء في ذاتها . فلا يزال من الفلاسفة المعاصرين من يؤمن بأنه ((ليس للفلسفة زمان ومكان : ليس لها تواريخ ولا طقوس ولا رجال ولا خصوصيات . .)) ، وأنه : ((أمام الرؤية الفلسفية ينزوي الزمن والمكان والطبيعة. وهؤلاء يتفقون مع الفيلسوف سانتيانا الذي قال بعد أن حل الموت والدمار بمدينة روما في الحرب العالمية الثانية : ((إن المأساة التي قاست منها آلاف القلوب والعقول لم تؤثر في .. إنني أعيش في الخلود)).
ومثل هؤلاء الفلاسفة الذين يبحثون في الأمور الخالدة غير المتغيرة ، وفى المطلقات التي تسمو عن خصوصية المواقف ونسبيتها ، لا ينظرون إلى الفلسفة كوسيلة اجتماعية يفيد منها الإنسان في توجيه حياته وتناول مشكلاته وتطوير أوضاعه ومنظماته ، بل يرون أن نزول الفلسفة إلى مشكلات الواقع وما فيه من توترات وقلق واضطرابات ، معناه الإجهاز عليها والتنكر للتراث الفلسفي . يقول وليم ستيس Stace أحد أعلام هذه المدرسة في أمريكا :
دعنا ننظر إلى قائمة أقطاب الفلسفة الحديثة أمثال ديكارت ، سپينوزا ، ليبنز ، بركلي ، هيوم ، كنط ، هيجل ...... وباستثناء لوك وهيجل من هذه القائمة ، لا نجد لأى منهم أثراً مباشراً على أحدات عصره . لم ير احد منهم أن من شأنه أن يسهم في حل مشكلات عصره الاجتماعية أو السياسية ، لقد كان اهتمامهم الأول والأخير موجها إلى مسائل ((الروح الخالص))، إلى مشكلات ذات جوانب نظرية وعقلية ، ولست مشكلات ((عملية)) . إن آراء تلك الفئة التي لا تكف عن الصياح بأنه إذا كان ثمة لوجود مبرو الفلسفة فإنه يتحتم عليها أن تسهم في حل مشكلاتنا المباشرة ، إنما هي آراء خاطئة ممعنة في الخطأ ، ولا بد من مقاومتها . إن شعار الفلسفة الحقة :
ابحثوا أولا عن ملكوت السموات ، وكل هذه الأشياء سوف تزاد لكم .
و يعلق جون ديوي على فلاسفة البرج العاجي بقوله :
إن اعتراف الفلسفة بأنها تعمل على أساس ما هو أزلي وثابت لا يتغير يقيدها في مهمتها وفى موضوع بحثها ، بحيث يصبح ذلك – أكثر من أي شيء آخر – مصدر عدم احترام الناس المتزايد لها وعدم الثقة مما تدعيه لنفسها ، ذلك لأنها إنما تعمل وراء ستار ما قد نبذه العلم الآن ولم يأخذ به ، فليس يعاونها اليوم المعاونة الحقة سوى المؤسسات القديمة التي يتوقف ما لها من صيت وسلطان ، وأرباح ناشئة عن القوة ، على المحافظة على النظام القديم. ويحدث هذا فى نفس الوقت الذي عم فيه اضطراب الأحوال الإنسانية بصورة تستدعى بشكل عاجل - أكثر مما كانت تستدعيه في أي ذلك البحث ((الموضوعي)) الشامل الذي تعنى به الفلسفات التاريخية . فبالنسبة لأصحاب المصالح الخاصة ، إن صيانة الاعتقاد بمفارقة الزمان والمكان لمجرى الحوادث ، مما يترتب عليه ازدراء شئون البشر ، أمر لا بد منه لاحتفاظهم بسلطة تتحول عمليا إلى قوة لتنظيم أمور الحياة الإنسانية كلها من أعلاها إلى أدناها.
ويتصل بمفهوم البرج العاجي مفهوم آخر شائع بين الفلاسفة هو مفهوم ((الانعزالية الفلسفية)) فكثير من الفلاسفة يؤكد ضرورة انعزال الفيلسوف عن ميادين الصراع الراهنة وعن القضايا الجدلية وعن ألوان الحماس المختلفة التي تحيط بالمشكلات الاجتماعية. فهناك دائماً الخوف من الانزلاق وراء التفاصيل ومن فقدان النظرة الشاملة المنزهة غير المتحيزة. ويقول هؤلاء إن حب الفيلسوف للحكمة يحتم عليه أن ((يتحرر)) من مشكلات الحياة المباشرة ومطالبها اليومية ، وإلا انقلب الفيلسوف إلى واعظ اجتماعي أو رجل دعاية وانجرف وراء جانب أو آخر من جوانب الصراع الفكري – الاجتماعي ومفهوم ((الانعزالية الفلسفية)) هذا يعنى لنا ، بكل اختصار ، الدعوة الصريحة للفلاسفة بالابتعاد عن مناقشة المشكلات والأحداث التي تعيش فيها ، وبالتالي إلى عدم اتخاذ موقف منها . وفى هذا خروج واضح وتنكر صارخ للتقليد الفلسفي الذى كان دائماً أبدا يقوم بوظيفة اجتماعية ثقافية في غاية الأهمية ، وظيفة التقويم الاجتماعي ، أي تقويم القيم والأوضاع والاتجاهات المعاصرة واتخاذ موقف منها . لقد كانت الفلسفة دائماً - مهما تنكرت في شكل قضايا ميتافيزيقية (أي قضايا غير مستمدة من عالم الخبرة) ونظريات ابستمولوجية (نظريات في المعرفة) ونظم کوزمولوجية (تتعلق بالوجود) - دفاعا أو هجوماً ، تبريراً أو تجريحاً هذا وذاك . أي أننا لا نعرف فلسفة واحدة استطاعت أن أو الجمع بين تحقق خرافة السمو عن اعتبارات الزمان والمكان ، ولا نعرف فلسفة واحدة استطاعت أن تلتزم تماماً بمفهوم ((الانعزالية الفلسفية)) ولا نعرف فلسفة من هذه الفلسفات الانعزالية لم تصبح وسيلة فكرية لتبرير قيم اجتماعية ومصالح اقتصادية وسياسية في وجه مجموعة أخرى من القيم والاتجاهات الناشئة التي أخذت تناصها العداء وتقف لها بالمرصاد .
ومما لا شك فيه أن هذا الهروب من ((مشكلات الناس)) الى ((مشكلات الفلاسفة)) - وهذا الانسحاب على حد تعبير جون ديوي .
من ميدان الخبرة النابض إلى الأبراج العاجية هو في حد ذاته موقف اجتماعي فلسفي خطير لا يخرج عن كونه تحالف مع تلك القوى التي ترى من صالحها الابقاء على الأوضاع الراهنة ، وبالتالي تخشى التحليل الناقد والتوجيه الاجتماعي . في إحدى مؤتمرات الجمعية الفلسفية الأمريكية المنعقدة عام ١٩٥٣ بمدينة كليفلاند بولاية أوهايو لمناقشة موضوع ((دور الفلسفة في الدفاع عن الحريات المدنية)) قام أحد العلماء الطبيعيين المرموقين - وهو من أصل ألماني - ليقول : ((إن من أحد الأسباب الجوهرية التي شجعت على ظهور التعصب العنصري في ألمانيا النازية هو سلوك زملائه الفلاسفة والعلماء الذين تنصلوا من مسئولية الدفاع عن الحرية الأكاديمية وحرية البحث العلمي في الوقت الذي كان واضحاً أمام الجميع أن هذه الحرية تتهدد في الصميم)).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1056 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك