من البندقية إلى البنك والطائرة والإنترنت: الفصائل الشيعية وتغيير قواعد اللعب لأجل ديمومة الهيمنة وعدم ضياع حلم الدولة الشيعية

ذو النورين ناصري زاده

من البندقية إلى البنك والطائرة والإنترنت:الفصائل الشيعية وتغيير قواعد اللعب لأجل ديمومة الهيمنة وعدم ضياع حلم الدولة الشيعية

لم تكن التحوّلات الإجرائية والسياسية التي طرأت على سلوك الأحزاب والفصائل الشيعية في العراق خلال هذا العام تحديدًا وليدة لحظة مراجعة فكرية أو تحوّل أيديولوجي، بل جاءت كاستجابة تكتيكية مدروسة لجملة من المتغيرات الداخلية والخارجية التي تهدّد، بشكل مباشر، ما راكمته هذه القوى من مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية على مدى عقدين.

لقد غادرت البندقية مشهد الصدارة، لكنها لم تُعلّق على الجدار، بل خُبّئت خلف واجهة زجاجية في مكاتب الصيرفة، وخوادم الإنترنت، وشاشات الأسهم. إننا أمام 'عسكرة ناعمة' للاقتصاد والخدمات، تحوّلٍ أعمق من مجرد تبدّل أدوات، إلى إعادة ترتيب رمزية لمواقع القوة.
فمع تبدّل المقاربة الأميركية تجاه هذه الفصائل، وانتقال العلاقة من منطق الاحتواء والتفاهم الضمني إلى مرحلة العزل والضغط والتضييق، وجدت هذه القوى نفسها أمام لحظة حاسمة:
هل تستمر في الاعتماد على أدواتها التقليدية التي باتت مكلفة ومكشوفة؟ أم تعيد إنتاج نفوذها عبر أدوات أكثر مرونة وأقل اصطدامًا مع الواقع الدولي والمحلي؟
التحوّل الذي نشهده اليوم لا يُمثّل تراجعًا عن منطق القوة، ولا تخليًا عن المشروع السياسي أو العقدي الذي تأسست عليه هذه الفصائل، بل هو إعادة صياغة لقواعد اللعبة، بما يضمن استمرار الهيمنة والسيطرة ضمن بيئة متغيرة.
هذا التحوّل لا ينفصل عن البُعد العقائدي العميق، إذ بات يُقدَّم كممارسة لـ'التمكين' لا كتنازل، وكمحطة في مسار الدولة العادلة المنتظرة، حيث يصبح النفوذ الاقتصادي والرقمي تمهيدًا لعصر الظهور، لا استقالة من منطق الثورة.

من السيطرة العنيفة المباشرة إلى النفوذ الناعم عبر المال، الخدمات، والوسائط الاقتصادية؛
من ساحات القتال إلى مراكز النفوذ الاقتصادي، والاتصالات، والمواصلات؛
ومن الاستعراض العسكري إلى التغلغل الصامت في مفاصل الدولة والمجتمع.
إعادة توزيع النفوذ والموارد لم تأتِ عشوائيًا، بل توجهت نحو قطاعات تُشكّل أعمدة الدولة الحديثة، وتوفر للفصائل مساحة تأثير واسعة يصعب مواجهتها أو تحجيمها، ومنها:
المصارف والبنوك: عبر واجهات مالية وشركات صيرفة، باتت الفصائل تمتلك أدوات السيطرة على تدفق السيولة، وتدير شبكات تمويل داخلي وخارجي، ضمن مظلة الاقتصاد الشرعي.
شركات الطيران والنقل: تحوّلت إلى أدوات لوجستية استراتيجية، تمنح حرية حركة تتجاوز الرقابة الرسمية، وتوفر بُنية دعم لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تحتكرها الدولة.
الإنترنت والاتصالات: وربما هو القطاع الأخطر، إذ تمتلك الفصائل قدرة متزايدة على التحكم بالبنية التحتية الرقمية، وجمع المعلومات، وتوجيه الرأي العام، في ظل هشاشة تنظيمية ورقابية واضحة.
هيمنة هذه القوى على قطاع الاتصالات لا تعني فقط توجيه الرأي العام، بل تفتح نوافذ للتجسس، وتمنح الفصائل قدرة غير مسبوقة على بناء قواعد بيانات سكانية، تُستثمر لاحقًا في التوظيف، الانتخابات، والتجنيد، وحتى الابتزاز السياسي.
ورغم ما يُشبه الانتقال من القوة الصلبة إلى الناعمة، لم تتخلَّ هذه الفصائل عن ذراعها العسكرية، بل أبقت عليه كرصيد احتياطي للردع أو الحسم، ضمن معادلة تجمع بين:
قوة ناعمة: تتكئ على المال، الخدمات، شبكات المصالح، والبُنى التحتية الحيوية.
قوة صلبة كامنة: لا تُستخدم إلا عند الضرورة، لحماية المكتسبات أو فرض الإرادة.

بهذا، أعادت الفصائل إنتاج نفسها ليس كجماعات مسلحة هامشية، بل كـ"كيانات موازية" تملك المال، المعلومات، الموارد، والسلاح، وتُشارك في توجيه القرار السياسي، دون الحاجة إلى تموضع رسمي مباشر داخل مؤسسات الدولة.
لم يعد ممكنًا فهم الدولة العراقية دون إدراك بنية "الاقتصاد الموازي" الذي تديره هذه الفصائل. فهو اقتصاد يتقاطع أحيانًا مع الاقتصاد الرسمي، ويحلّ مكانه أحيانًا أخرى، في مشهد يُنتج ما يشبه "دولة موازية". وإذا كانت نماذج الدول الموازية قد ظهرت في تجارب تاريخية متفرقة — من المافيا الإيطالية إلى الحرس الثوري الإيراني — فإن النسخة العراقية تمزج بين النفوذ الروحي، الاقتصادي، والتقني، في صيغة هجينة تُنتج 'ما فوق الدولة'، لا ما دونها، تتحرك بهياكل مالية ولوجستية ورقمية متكاملة.
هذا الواقع ليس نتاجًا لصراع السلاح فقط، بل هو نتيجة تحوّل استراتيجي في أدوات السيطرة والهيمنة، هدفه حماية الامتيازات وترسيخ المواقع في لحظة إقليمية ودولية تتّسم بالاضطراب والتقلّب.
الانتقال من البندقية إلى البنك، ومن ساحات المعركة إلى شركات الطيران ومزودي الإنترنت، لم يكن انسحابًا من مشهد القوة، بل إعادة تموضع محسوبة، تهدف إلى تأمين الهيمنة بأدوات يصعب استهدافها أو تفكيكها.
في الجوهر، لم تتخلَّ هذه الفصائل والأحزاب عن منطق السيطرة، بل أعادت إنتاجه بأدوات جديدة، أكثر نجاعة، وأقل تكلفة سياسية وأمنية.
تحوّلت من فصائل حرب إلى مؤسسات نفوذ، ومن وكلاء قتال إلى أمراء اقتصاد وخدمات.
إنه تحوّل في الوسائل لا في الغايات، وإعادة تشكيل لآليات السيطرة لا مراجعة لمسارها.
وما لم يتم إدراك هذا التحوّل في عمقه، فإن أي محاولة لتفكيك نفوذ هذه القوى ستبقى سطحية وغير فعّالة، لأن مواقعها لم تعد في الخنادق… بل في البنوك، ومراكز البيانات، وشركات النقل، ومزودي الخدمة.
إن التحوّل الذي طرأ على الفصائل الشيعية في العراق، من لاعبين على ساحات القتال إلى أمراء الاقتصاد والاتصالات، يشكل تحديًا جديدًا أمام الدولة والمجتمع على حد سواء. فالهيمنة اليوم لا تُقاس فقط بمدى قبضتك على السلاح، بل بقدرتك على التحكم في المال، المعلومات، والبنية التحتية الرقمية التي تدير حياة الناس.
وهذا يعني أن مواجهة النفوذ لا يمكن أن تكون عبر الردود الأمنية التقليدية فقط، بل تتطلب استراتيجيات سياسية واقتصادية وتكنولوجية متكاملة، تعيد بناء مؤسسات الدولة وتستعيد سيادتها على مواردها ومجالات تأثيرها.
إذا لم يُفهم هذا التحوّل بعمق، وإذا لم تُواجه أدوات السيطرة الناعمة بحزم ووعي، فإن حلم الدولة العراقية التي تقوم على القانون والمؤسسات سيظل بعيدًا، وستظل الفصائل تتحكم في اللعبة من خلف الكواليس، وتعيد كتابة قواعدها على نحو يصعب إزاحتها أو تفكيكها.
إن قراءة هذه التطورات ليست دعوة للإحباط، بل هي حث على اليقظة، والتفكير الاستراتيجي، وبناء مؤسسات دولة حقيقية قادرة على وضع حدّ لهذه السياسات العوجاء والرعناء، التي تهدد مستقبل العراق وأمنه.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

692 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع