د.سعد العبيدي
بين إنجلترا واسكتلندا: قرية تزهر بالحب والهروب
حلَّ الظهر عند مزرعةٍ تقوم على تخوم إنجلترا واسكتلندا، صاحبها يتنقّل بين أغنامه كمن يحصي أنفاسها. لم يُبدِ حرجًا في التخييم على حافة حقله؛ رجلٌ اسكتلندي شارك في حرب العراق عام 2003، يحمل في ذاكرته صورًا تتداخل فيها رائحة الرمال البَصريّة التي جابتها مدرّعات خدم فيها مع رطوبة المراعي الخضراء المترامية حوله. وحين فرغ من تقديم نفسه، سألناه عن المعالم الجديرة بالزيارة فيما تبقّى من نهار تغيب شمسه متأخرة، فأشار بإصبعه نحو قرية تلوح في الأفق، وقال بصوتٍ تخالطه نبرة فخرٍ وحنين:
"غرتنا غرين…" ثم بدأ يروي قصتها وكأنه شاهد على تاريخها منذ مولد أسطورتها:
كان الزواج في إنجلترا، قبل عام 1754، مسموحًا للفتى في سن الرابعة عشرة، وللفتاة في الثانية عشرة. لكن في ذلك العام، سنّت إنجلترا قانونًا صارمًا يشترط بلوغ الواحد والعشرين، والحصول على موافقة الأهل، وتسجيل الزواج في البلدية، والإشهار المسبق. أما على الجانب الآخر من الحدود، فكانت اسكتلندا أكثر تساهلًا، لم تفرض مثل هذه القيود بعد. وهكذا صار العشاق الصبية من الإنجليز، المولعون بالحب، يعبرون الحدود سرًا هربًا من القانون، متجهين إلى هذه القرية الصغيرة لتحقيق أمنياتهم في الزواج السريع على أرض يلتقي فيها الحجر العتيق بالمراعي الخضراء، وتختلط طرقات الأحصنة بأحلام القلوب الشابة، حولتها الأيام إلى معبر العشاق الهاربين، وحولت حدادها الى كاهن سندان" — يبارك اتحاد الأحبة بطرقات مطرقته على الحديد المتقد، في مراسم خاطفة لا تحتاج سوى ربط يدي العروسين بقطعة قماش وحضور شاهدين، وضربة على السندان إعلانًا عن ولادة حب لا يعرف الانتظار.
لقد شاع أمر القرية في عموم إنجلترا واسكتلندا، وحفلت منذ تلك الأيام بقصص غريبة؛ منها ما جرى عام 1771 حين فرَّ عاشقان من كمبريا باتجاهها، لكن والد العروس الرافض للفكرة لحق بهما، وفي مطاردة عبر النهر، تحطّم أحد مراكبه وسط العاصفة، ومات أحدهم غرقًا، بينما نجح العاشقان في الوصول والزواج. وهناك أيضًا من يزعم أن صوت طرق السندان ما زال يتردد في ورشة الحداد القديمة حتى اليوم، وأن ظلالًا غامضة تُرى أحيانًا في نوافذها عند الغروب، وكأن أرواح الماضي لا تزال تبارك العشاق وتهمس بأسرارهم.
مرّت الأعوام، وتوالى "كهنة السندان"، وبقيّ الأشهر من بينهم ريتشارد رينيسون، الذي جمع بيديه بين أكثر من خمسة آلاف زوج بين عامي 1926 و1940، قبل أن تتوقف الطقوس القديمة حين سنت اسكتلندا قوانين زواج مقاربة لما سنته إنجلترا، وكأن الستار أُسدل على فصل من حكاية طويلة.
توقف الاسكتلندي قليلًا عن الكلام، شبك يديه خلف ظهره، ثم قال:
اليوم تغيّر كل شيء… إلا روح المكان. الزواج هنا صار مطابقًا للقوانين الحديثة من حيث السن، والتسجيل، والشهود، والإعلان، لكن القرية لا تزال تحتفظ بسمعتها كأرضٍ يسرع فيها نبض القلب. المراسم أنيقة وسريعة نسبيًا، ولا يزال رباط القماش بين اليدين حاضرًا، يمنح اللحظة لمسة من تقاليد الأمس ونكهة الأسطورة. ومع تعاقب الأيام، تحولت غرتنا غرين إلى وجهة سياحية رومانسية، تزينها الفنادق الفاخرة، ومتاجر التراث الاسكتلندي، وقاعات الاحتفال التي تمزج بين دفء التاريخ ورونق الحاضر."
أخيرًا، نظر إلى ساعته، وابتسم ابتسامة خفيفة قبل أن يغادر قائلًا:
الوقت ما زال كافيًا لتجوالكم فيها… علّكم تلمحون ظل إله الحب الذي كان يزورها قديمًا، وتسمعون همس المطارق وهي تبارك العشاق.
بعد دقائق من التحرك باتجاه القرية، وجدنا أنفسنا أمام قاعة صغيرة يخرج منها عزف كمان ناعم دفعنا الى الدخول، فإذا بعقد قران حديث يجري هناك، جلسنا في مؤخرة القاعة، رأينا العروسين يتقدمان بخطوات بطيئة نحو منصة خشبية يتوسطها سندان قديم، عليه مطرقة تلمع تحت الأضواء. تقدّم الكاهن، ربط أيديهما بوشاح أخضر مطرّز بنقوش قديمة، ثم طرق المطرقة ثلاث مرات على السندان، فاهتز المكان برنين معدني عميق كأنه صدى قرونٍ مضت. تبادل الحاضرون التصفيق والتهليل، وبدت على العروسين ملامح فرح ممزوجة بدهشة المشاركة في طقس تمتد جذوره مئات السنين.
654 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع