العشيرة والمال السياسي… حين تُختطف الديمقراطية في العراق

قاسم محمد داود

العشيرة والمال السياسي… حين تُختطف الديمقراطية في العراق

كيف تتحول الولاءات التقليدية والإمكانات المالية إلى أدوات للتحكم بالانتخابات ، على حساب إرادة الناخب والمصلحة العامة.

 مع اقتراب موعد الانتخابات في العراق، يبرز دور العشائر والمال كعاملين أساسيين في تحديد مسار المنافسة الانتخابية. فالعشيرة ما زالت تمثل مرجعية اجتماعية وسياسية مؤثرة قادرة على حشد الأصوات وترجيح كفة المرشحين، بينما يلعب المال السياسي دوراً متزايداً في الحملات الانتخابية، سواء عبر الدعاية أو شراء الولاءات. هذا التداخل بين النفوذ العشائري والقدرة المالية يثير تساؤلات حول فرص التغيير الحقيقي، وما إذا كان الناخب العراقي سيتمكن من كسر هذه الحلقة لاختيار ممثلين يعبرون فعلاً عن إرادته ومطالبه.

رغم مرور أكثر من عقد ونصف على التجربة الديمقراطية في العراق، ما زالت العشيرة والقبيلة تلعبان دورًا محوريًا في العملية الانتخابية. فالعشيرة تُعد حاضنة انتخابية للمرشحين، حيث ينطلق الكثيرون من قاعدتهم العشائرية كخطوة أولى لضمان الأصوات. وغالبًا ما يتحول التصويت إلى مسألة تضامن جماعي، إذ يُنظر إلى انتخاب "ابن العشيرة" على أنه واجب اجتماعي قبل أن يكون خيارًا سياسيًا.
هذا النفوذ يرافقه في أحيان كثيرة ضغط اجتماعي على الأفراد، ما يحدّ من حرية الاختيار ويجعل القرار الانتخابي محكومًا بالانتماء لا بالقناعة. كما تدخل القوى السياسية في صفقات غير معلنة مع شيوخ العشائر، مقابل وعود بالمنافع أو الدعم، ليصبح شيخ العشيرة بمثابة وسيط سياسي قادر على ترجيح كفة هذا المرشح أو ذاك.
ويتضاعف تأثير العشيرة حين يقترن بالمال السياسي، إذ يجمع المرشح بين الولاء التقليدي والإمكانات المالية، ما يمنحه قدرة أكبر على الحشد والتأثير. وبينما يرى البعض أن هذا الدور يحافظ على شكل من أشكال التضامن الاجتماعي، فإن آخرين يعتبرونه عائقًا أمام نشوء ثقافة انتخابية مدنية تقوم على البرامج والأفكار لا على الولاءات القديمة.
إلى جانب النفوذ العشائري، يبرز المال السياسي كأحد أكثر العوامل تأثيرًا في الانتخابات العراقية. فالكثير من الحملات الانتخابية لا تُبنى على البرامج أو الرؤى، بقدر ما تعتمد على القدرة المالية للمرشح أو الجهة الداعمة له. ويظهر ذلك في حجم الدعاية الانتخابية، من لافتات ومهرجانات ووسائل إعلام، وصولًا إلى شراء الولاءات وتقديم الهبات المباشرة للناخبين.
المال هنا لا يقتصر على تمويل الحملات، بل يتحول إلى وسيلة لبناء شبكة مصالح، إذ يسعى بعض المرشحين إلى استمالة الفئات الفقيرة بتقديم المساعدات، أو عقد اتفاقات مع زعامات محلية لقاء دعم انتخابي. هذه الظاهرة جعلت الكثيرين يصفون الانتخابات في العراق بأنها "سوق للأصوات"، حيث تتراجع قيمة البرامج السياسية أمام حجم الإنفاق المالي.
لكن هذا الدور المهيمن للمال السياسي يثير مخاوف جدية حول طبيعة التمثيل البرلماني، إذ غالبًا ما يصل إلى السلطة من يملك النفوذ المالي لا من يمتلك الكفاءة أو المشروع الإصلاحي. وهو ما يعمّق فجوة الثقة بين الناخبين والعملية الانتخابية برمتها، ويفتح الباب أمام إعادة إنتاج الأزمات السياسية بدلاً من معالجتها.
إن تزاوج النفوذ العشائري مع المال السياسي لا يترك مساحة واسعة للديمقراطية الحقيقية في العراق، بل يُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها. فبدلاً من أن تكون الانتخابات ساحة للتنافس على البرامج والرؤى الوطنية، تتحول إلى ميدان تسعى فيه العشائر إلى تثبيت حضورها ونفوذها، فيما يوظّف المال لشراء الولاءات والسيطرة على القرار الحكومي.
بهذا الشكل، تتحول العملية السياسية إلى وسيلة لتوزيع المكاسب المادية والمعنوية بين فئات محددة من الزعامات والشخصيات النافذة، على حساب المصلحة العامة. ويجد الناخب العراقي نفسه محاصرًا بين واجب الانتماء العشائري وإغراءات المال، ما يضعف من إرادته الحرة، ويجعل البرلمان القادم انعكاسًا لهذه المعادلات التقليدية أكثر مما هو تعبير عن تطلعات الناس نحو الإصلاح والتغيير.
يبقى السؤال الأبرز أمام الانتخابات العراقية القادمة: هل يستطيع الناخب كسر دائرة العشيرة والمال السياسي ليمنح صوته لمشروع حقيقي يعالج أزمات البلاد؟ أم ستستمر المعادلة الراهنة حيث تُدار العملية الديمقراطية بأدوات ما قبل الدولة الحديثة؟ إن مستقبل التجربة الديمقراطية في العراق مرهون بقدرة المجتمع على تجاوز هذه القيود، وبناء وعي انتخابي جديد يُعيد الاعتبار لصوت المواطن باعتباره أساس الشرعية ومصدر السلطة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

769 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع