الجرح الأمومي عند فقدان الأم: التحليل النفسي والتدخلات العلاجية

د. نزار گزالي، أربيل - دكتوراه في علم النفس

الجرح الأمومي عند فقدان الأم: التحليل النفسي والتدخلات العلاجية

يُعد فقدان الأم (بالوفاة أو الغياب الكلي غير القابل للاستعادة) من أعمق الجروح النفسية في مسار النمو الإنساني، لأنه يمسّ العلاقة الأولية التي تُكوِّن القاعدة الآمنة (Secure Base) التي وصفها جون بولبي في نظريته حول التعلق. انقطاع هذا المصدر المبكر للتهدئة والتنظيم الانفعالي ينعكس لاحقًا على الإحساس بالأمان، الثقة بالذات، وتنظيم العلاقات الحميمة في مرحلة الرشد.
ما دفعني لكتابة هذا الموضوع وإثارته هو ملاحظتي السريرية خلال الشهرين الماضيين؛ إذ زارني أكثر من خمس حالات، أغلبهم من النساء، يعانون من فقدان الأم بصورة مرضية (Prolonged Grief Disorder) واكتئاب حاد مصاحب.
تشير الدراسات إلى أن النساء أكثر عرضة من الرجال للإصابة باضطرابات الحزن المعقّد والاكتئاب بعد الفقد، وهو ما قد يرتبط بتفاعل عوامل بيولوجية (مثل الهرمونات)، ونفسية-اجتماعية (كأدوار الرعاية والتوقعات الاجتماعية) التي تجعل المرأة أكثر حساسية للفقدان العاطفي.
الإطار المفاهيمي: من التعلق إلى الأركيتايب
يمتد فهم الجرح الأمومي عبر مستويين متكاملين:
(أ) المستوى العلائقي-التطوري: الطفل يحتاج إلى مستجيب ثابت ومنظِّم انفعالي؛ غياب هذه الوظيفة الأمومية المبكرة يُعرِّض أنظمة التعلق للاضطراب، ويهيّئ لقلق الانفصال وأنماط تعلق غير آمنة
(ب) المستوى التحليلي-الرمزي في علم نفس يونغ: “أركيتايب الأم”* يمثل حاوية (container) للولادة النفسية، الحماية، والتغذية الرمزية. عندما تُفقَد الأم الواقعية مبكرًا، قد يختل تكوين التمثيل الداخلي للأم الأركيتايبية، ما يخلق فجوة رمزية تُملأ أحيانًا بأشكال تعويضية (تشبث، أيديولوجيات، تعلق جماعي، أو أمومة إسقاطية على شركاء).
ديناميات الفقد وتكوّن الجرح
يمكن تصور الجرح الأمومي كـ تراكب ثلاث طبقات:
- الحدث الصادم: موت الأم أو اختفاؤها يفعّل استجابات حادة للانفصال وفقد الإحساس بالتوجّه العاطفي.
- التثبيت الانفعالي غير المُكتمل: لعدم توافر رعاية تصالحية، تتجمد أجزاء من الذات الطفولية عند زمن الفقد، ما يجعل الفرد عرضة لارتدادات وجدانية عند كل فقد لاحق. يظهر هذا سريريًا في الحداد المعقّد (Prolonged Grief Disorder, PGD) حيث يستمر الشوق/الاشتياق والاضطراب الوظيفي بعد المدد المتوقعة.
- البناءات التعويضية: قد يعمد الجهاز النفسي إلى خلق بدائل (علاقات مثالية، أدوار رعاية مبالَغ بها، تبنّي هوية “القوي الذي لا يحتاج أحدًا”) لتجنّب لمس الفراغ الأصلي؛ تُلاحَظ هذه الأنماط في العمل العلاجي مع حالات فقد مُبكّر.
المظاهر الإكلينيكية المرتبطة بفقد الأم
ليس هناك تشخيص DSM مستقل باسم “الجرح الأمومي”، لكن تتقاطع المظاهر مع طيف سريري أوسع:
- قلق تعلق مرتفع: خوف من الهجر، طلب مفرط للتطمين، أو تذبذب بين التشبث والانسحاب الدفاعي. 
- حداد ممتد / PGD: استمرار الشوق المؤلم، الانشغال الذهني بالمفقود، اضطراب هوية، وضعف الأداء الاجتماعي بعد مرور 12 شهرًا (للبالغين) وفق DSM-5-TR؛ مع اختلافات معيارية عن ICD-11.
- تدهور التنظيم الانفعالي: نوبات حزن أو غضب أو خَدَر عاطفي نتيجة اضطراب في أنظمة التهدئة المرتبطة بالتعلق المبكر.  
- فراغ وجودي أو تشوه هوية: يتقاطع غياب “الشاهد العاطفي الأول” مع البعد الرمزي للأم في التحليل اليونغي.
آليات دفاعية وأنماط علائقية متكررة
بعد الفقد، قد يستبطن الفرد تمثيلات أمومية مُجزَّأة: أم مثالية مفقودة مقابل عالم غير آمن. ينتج عن ذلك:
- التكرار القهري (Repetition): اختيار شركاء غير متاحين عاطفيًا كمحاولة لاواعية لإعادة كتابة قصة الفقد.
- تثبيت عند علاقة أركيتايبية: إسقاط صورة “الأم العظمى” على قيادات، جماعات، أو مؤسسات تمنح شعورًا بالانتماء والرعاية، وهو مهم في السياقات الثقافية والجماعية.
- اجترار حدادي مطوَّل: صعوبة الانتقال من التعلّق بالمفقود إلى استعادة الاستثمارات الحياتية؛ محور رئيس في بحوث PGD.
اعتبارات ثقافية
في البنى العائلية والعشائرية الممتدة في العراق وإقليم كوردستان، قد تنتقل وظائف الرعاية الأمومية إلى خالات أو جدّات أو نساء من الشبكة الاجتماعية، ما قد يخفف شدة الانقطاع لكنه أحيانًا يعقّد مسار الحداد إذا شجّعت الأعراف على الكتمان بدل التعبير. يمكن توظيف الطقوس الدينية-الاجتماعية (مجالس ذكرى، صدقات باسم الأم) كحاويات رمزية للتكامل الانفعالي، شريطة ألا تلغي التجربة الذاتية للفرد.

تمارين عملية للتشافي من الجرح الأمومي بعد فقد الأم
ملاحظة تطبيقية: يُفضَّل ممارسة التمارين ضمن مساحة آمنة؛ ويمكن مشاركتها مع معالج نفسي عند الحاجة.
١- تمرين الرسالة غير المرسلة (Expressive Writing)
الهدف: تفريغ المشاعر المكبوتة وتكامل الحزن في السردية الذاتية.
- اكتب رسالة إلى والدتك تبدأ بـ: “أمي العزيزة…” واسمح لنفسك أن تكتب بحرية عن الحب، الاشتياق، العتاب، أو ما لم يُقَل.
- اكتب 15–20 دقيقة دون توقف، لعدة أيام متتالية (3–4 جلسات).
- بعد الانتهاء، يمكنك الاحتفاظ بالرسالة، أو أداء طقس رمزي (قراءتها بصوت منخفض، دفنها، حرقها).
أظهرت بروتوكولات الكتابة الانفعالية أن الإفصاح الكتابي عن الأحداث المؤلمة قد يرتبط بتحسّنات نفسية وجسدية على المدى القصير والمتوسط لدى بعض الأفراد، بما في ذلك سياقات الفقد.
٢- تمرين الكرسي الفارغ (Empty Chair – Gestalt/Chairwork)
الهدف: إعادة تفعيل الحوار الداخلي والحصول على قدر من الإغلاق العاطفي.
- ضع كرسيًا فارغًا أمامك وتخيّل أن أمك تجلس عليه. تحدّث بصوت مسموع عمّا تشعر به.
- بدّل المقعد وتخيّل ردّها: دعم، حب، اعتذار، أو حكمة.
- يمكن تسجيل الجلسة صوتيًا لمراجعة المشاعر.
استخدمت مقاربات جشطالتية وتقنيات الـ Chairwork في معالجة الحزن، الصراعات العلائقية، وتنشيط التعاطف الذاتي، وقد تساعد بعض الأشخاص على تخفيف مشاعر عالقة بعد الفقد.
٣- بناء الأم الداخلية (Self-Reparenting Practice)
الهدف: توفير رعاية نفسية داخلية تعوّض الغياب الخارجي.
- اكتب ثلاث جمل كانت ستمنحك الأمان لو قالتها أمك (مثال: “أنت محبوب دائمًا”، “أنا هنا من أجلك”).
- كررها يوميًا بصوت مسموع أو أثناء التأمل؛ أضف لمسة جسدية (وضع اليد على الصدر).
- وسّع القائمة بعبارات حدود ودعم (مثل: “أستحق الراحة”).
يُستخدم مفهوم Self-Reparenting في التحليل التفاعلي لإعادة تشكيل صوت الوالد الداخلي من ناقد/غائب إلى مغذٍّ وداعم؛ ممارسات ذاتية منتظمة تعزز ذلك التحول.
٤- استراحة التعاطف الذاتي (Self-Compassion Break)
(مقتبسة من أعمال كريستين نيف)
عند موجة حزن أو وحدة:
اولا. اعترف: “هذه لحظة ألم.”
ثانيا. ذكّر نفسك بالإنسانية المشتركة: “الألم جزء من التجربة الإنسانية.”
ثالثا. قدّم لطفًا ذاتيًا: “سأكون لطيفًا مع نفسي الآن.”
التعاطف مع الذات مرتبط بانخفاض الاكتئاب والقلق وتحسّن التكيّف الانفعالي، ويُعد موردًا علاجيًا مهمًا في التعامل مع الفقد والصدمة.  

٥- طقس رمزي للاتصال الآمن (Symbolic Bonding Ritual)
الهدف: دمج البعد الرمزي للأم في حياة الحاضر.
- خصص ركنًا صغيرًا يحوي شيئًا يذكرك بوالدتك (صورة، قطعة من ملابسها، رائحة).
- اجلس أمامه لدقائق يوميًا، وتنفّس ببطء، وتخيّل أنك تتلقى منها دفءًا أو بركة.
- يمكن إضافة قراءة دعاء، آية، أو كلمات شكر أسبوعية.
العمل الرمزي مع صور الأم يتناغم مع فهم يونغي للأركيتايب الأمومي كحاوية نفسية وروحية، ويمكن أن يسهّل تحويل الحزن إلى علاقة داخلية مستمرة.
ختاماً فقد الأم لا يُختَزَل في ذكرى رحيل، إنه تغير بنيوي في كيفية شعورنا بأنفسنا في العالم. لكن ما يُفقد في العلاقة الأولى يمكن إعادة بنائه عبر علاقة علاجية صادقة، رعاية ذاتية رحيمة، وتمثيلات رمزية جديدة تُنبت “أمًّا داخلية” قادرة على منح الأمان المفقود. الجرح يبقى علامة، لكنه لا يحكم المصير.
لا تتردد في زيارة مختص نفسي أو طلب المساعدة منه؛ فالدعم المهني يمكن أن يُحدث فارقًا جوهريًا في تحسين جودة حياتك.
*أركيتايب الأم هو مفهوم في علم النفس التحليلي يمثل النموذج الأصلي أو الصورة البدائية للأم في اللاوعي الجماعي. إنه يمثل الجوانب المختلفة للأمومة، بما في ذلك الرعاية، والعطاء، والحماية، والخصوبة، والحدس، والحكمة.
المراجع:
1. Bowlby, John. A Secure Base: Parent-Child Attachment and Healthy Human Development. New York: Basic Books, 1988.
2. Jung, C. G. “Psychological Aspects of the Mother Archetype.” In The Collected Works of C. G. Jung, Vol. 9, pt. 1: The Archetypes and the Collective Unconscious, 2nd ed., Princeton University Press, 1968 (orig. publ. 1954).
3. Eisma, Maarten C. “Prolonged Grief Disorder in ICD-11 and DSM-5-TR: Challenges and Controversies.” Frontiers in Psychiatry / PubMed record (2023).
4. Neff, Kristin D. “Self-Compassion: Theory, Method, Research, and Intervention.” Annual Review of Psychology 74 (2023): 193–218.
5. James, Muriel. “Self Reparenting: Theory and Process.” Transactional Analysis Journal 4, no. 3 (1974): 32–39.
6• Stroebe, M., Schut, H., & Stroebe, W. (2007). Health outcomes of bereavement. The Lancet, 370(9603), 1960-1973.
7• Lundorff, M., Holmgren, H., Zachariae, R., Farver-Vestergaard, I., & O’Connor, M. (2017). Prevalence of prolonged grief disorder in adult bereavement: A systematic review and meta-analysis. Journal of Affective Disorders, 212, 138-149.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

657 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع