بقلم: إبراهيم فاضل الناصري
من الساعة المكسورة الى عقارب بلا اتجاه:استشراء العطل والاجازات، الدولة وأزمة إدارة الوقت وتطويعه
المقدمة:
لم يكن الزمن في أصله مجرد رقم على تقويم، أو عقارب ميكانيكية تدور بلا هوادة، بل هو نَفَس الخلق الأول، إيقاع الحياة الذي ينبض به الكون ويتنفس به الوعي. إنه السر الأزلي الخفي، الذي لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يشكّل الأقدار ويصوغ مسارات الأمم، كأن الزمن منسوج من لحظات خالدة تتشابك مع ذات الإنسان والحضارة.
وحينما أقامت شعوبنا معابدها على خطوط الاعتدال، أو سارت تحت ظلال الشمس، لم تكن تعبُد الزمن، بل تستجيره وتؤطّره، فتمنح العقل سلطان السيطرة على عبث اللحظة. فالزمن ليس محايدًا، بل هو أداة ذات حدين: إمّا أن تملكه وتسيطر عليه، أو يبتلعك في لُجّة غياب المعنى.
واليوم، في هذه اللحظة المفصلية من تاريخنا، نقف نحن في دولنا محاطين بأطلال أزمنة ضائعة، نحمل على أكتافنا أثقال التأجيل، ونرمق ساعات الحائط كما لو كانت زخارف تزين جدران الغفلة. نعيش زمنًا ضاع فيه المعنى، بلا تقدير حقيقي للوقت، ولا استثمار حكيم له، بينما الأمم الأخرى تجري بخطى ثابتة متسارعة في مضمار الساعة، ونحن نمشي ببطء ثقيل على دروب الانتظار والكسل.
كيف لأمة أن تبني نهضتها، وهي لم تبرأ بعد من وباء التراخي الزمني؟ كيف لزمن بلا قدوة أن يُزهر مستقبلًا، أو يُنسج من أليافه تاريخٌ يُذكر؟
أمم تصنع المعجزات في ثوانٍ معدودة… وأخرى تغرق في مستنقع الدقائق المهدورة.
ليس من قبيل الصدفة أن الأمم التي تضيء العالم اليوم تضع الوقت في قلب ثقافتها وعاداتها؛ ففي اليابان يُقاس التأخير بثوانٍ، وفي ألمانيا تُعتبر الدقيقة ضياعًا للنظام، وفي سويسرا لا تُرتدى ساعة اليد كزينة، بل كعهد مقدس للانضباط والاحترام.
أما في بلادنا، فقد تحوّل الزمن إلى مادة سائلة تُساق بأعذار واهية، يُعاد تشكيله حسب مزاج اللحظة؛ تُؤجل الاجتماعات وتبدأ متأخرة، تُعطّل المشاريع بلا موعد محدد، والمواعيد إن وُجدت تُكسر ببساطة تحت عبء "كُلّه ربع ساعة"، أو "احنا بالدول النامية".
نتعامل مع الوقت كأنه فائض يمكن إضاعته بلا حساب، وكأن كل ساعة تأخير لا تكلفنا إلا القليل، غير مدركين أن ساعة مفقودة في اقتصاد ما تعني خسارة سنة، وأن توقفًا لمرفق حيوي يكلف الملايين التي لا تُعوّض.
وما يزيد الألم أن الهدر الزمني بات جزءًا من ثقافة وجدانية تُقابل بالتساهل والتهكم. التأخير في الخدمات، تعطيل المواعيد، والانتظار الطويل صارت أمورًا تُعامل كحقوق مكتسبة. العطل تُمنح بلا تخطيط، والإجازات تمتد حتى تذوب سنوات العمل دون إنتاج.
بينما تخطط الدول المتقدمة لعطلاتها بدقة تامة، وفق دراسات اقتصادية واجتماعية، نجد في بلادنا قرارات تعطيل تُتخذ على أهواء المزاج الشعبي أو مناسبات سياسية عابرة، دون اعتبار علمي أو اقتصادي.
(إعادة تصميم السياسات لترسيخ احترام الوقت كقيمة جوهرية):
إدارة الوقت ليست خيارًا فحسب، بل هي ركيزة أساسية لأي مجتمع يطمح إلى التنمية المستدامة والتقدم الحضاري. احترام الوقت قضية مركزية لا تخص الأفراد أو الثقافة فقط، بل تشكّل إطارًا تنظيميًا وسياسيًا حيويًا يؤثر في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
الأبعاد الاقتصادية:
1. زيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف
عندما تُعاد صياغة السياسات لتعزيز احترام الوقت، تقل الساعات الضائعة، وتزداد الإنتاجية. المؤسسات التي تنظم وقتها بدقة تحقق إنجازات أكبر بتكاليف أقل، وتتسارع دورة المشاريع، وتُخفض نفقات التأخير والتسويف.
2. تحفيز النمو والاستثمار
البيئة التي تحترم الوقت تجذب المستثمرين، فهي تعكس نظامًا إداريًا منظّمًا وكفؤًا، يسمح بتنفيذ الخطط في مواعيدها، ويحد من التعقيدات التي تعرقل المشاريع. هذه البيئة تزيد ثقة المستثمرين وتدفع برؤوس الأموال نحو السوق المحلية.
3. خفض الخسائر الاقتصادية
التأخيرات غير المحسوبة تكلف اقتصاد الدول أموالًا طائلة من تمديد العقود وتكاليف الفرصة الضائعة، مثل تأخير تشغيل محطة كهرباء أو طريق جديد يعرقل النشاط الاقتصادي. لذلك، السياسات التي ترسخ احترام الوقت تقي من هذه الخسائر غير الضرورية.
المعطيات التنظيمية:
1. تعديل الأطر التشريعية والتنفيذية: باعادة تصميم السياسات تتطلب مراجعة القوانين واللوائح التي تحكم جداول العمل وتوقياته، واعتماد نهج يجعل الوقت مقدسًا لا يجوز التفريط فيه، لا إفراطًا ولا تفريطًا.
2. ترسيخ ثقافة الوقت: فان احترام الوقت يتعدى التشريعات، ليصبح ثقافة تنظيمية مبنية على المحاسبة الذاتية والجماعية، واعتماد تقنيات إدارة الوقت، وجداول واضحة، وأدوات تقييم دورية، وتعزيز روح الانضباط والالتزام.
3. توسعة دائرة الاستثناءات من العطل: أي أن من الواجب إعادة النظر في آلية تعطيل الدوائر والمؤسسات خلال الإجازات الرسمية، فلا يُعقل أن تقتصر الاستثناءات على المستشفيات والجهات الأمنية والخدمية البلدية فقط، بينما تُغلق أبواب مؤسسات حيوية بات المواطن يحتاجها يوميًا.
إن شركات البطاقة الذكية (كي كارد)، وشركات الاتصالات، ومكاتب البريد، ومرافق النقل، والخدمات الرقمية، كلها نوافذ حياة لا يمكن تعليقها كلما أُعلنت عطلة عامة.
فالدولة العصرية لا تُدار بمنطق الشلل الجماعي، بل بمنطق التوزيع الذكي للموارد والدوام. إن توسيع دائرة الاستثناءات في أيام العطل وتحديد خدمات مستمرة على مدار الأسبوع يعكس حسًا تنظيميًا متقدمًا، ويحقق توازنًا بين الراحة العامة واستدامة الخدمات الأساسية.
فالعطل ليست وقتًا للمراوحة، بل فرصة لإعادة تنظيم إيقاع الدولة دون أن تتوقف نبضات الخدمة في شرايينها الحيوية.
(زمن بلا قدوة: التسيّب الذي يتحول إلى سلوك رسمي):
في دول تُدار بالقدوة، يصبح احترام الوقت منهج حياة متوارث، لكن حين يتأخر الوزير عن مؤتمره، ويُفتخر ببرامج مرنة بلا مواعيد ثابتة، تتحول الرسالة إلى أن الوقت هنا بلا وزن أو قيمة.
الوقت لا يُكتسب عبر الكتب فقط، بل بالقدوة والمنهج العملي. المجتمعات التي لا تخلق قادة يعظمون الزمن، لن تصنع مواطنين يحسنون ترتيب دقائقهم. لا نهضة ولا إصلاح بلا ثورة زمنية في القيم والعادات.
(البيروقراطية: القاتل الزمني الرسمي):
مأساة الوقت تكمن في مؤسساتنا، حيث الروتين الطويل، والتقنيات المهترئة، وتعطيل المعاملات المتكرر، وغياب نظم إلكترونية فعالة، كل ذلك ينزف وقتنا بلا هوادة. المشاريع تتأخر، القوانين تتجمّد، والقرارات العُليا تحتجز بتوقيعات بطيئة أو غائبة، تحت مسمى "هذه طبيعتنا".
في غياب المحاسبة، تتحول الدوائر الرسمية إلى ورش لهدر الوقت، ويصبح التأخير القاعدة، والإنجاز استثناء نادرًا.
(خسائر اقتصادية جسيمة: قطارات العمر التي فاتتنا):
الهدر الزمني ليس ظاهرة اجتماعية فحسب، بل كارثة اقتصادية متفاقمة. كل دقيقة ضائعة تعني مالًا مفقودًا، وكل مشروع مؤجل فرصة ضائعة. الموظف الذي يهدر نصف يومه في الدردشة، والغياب غير المبرر، والمواطن المتلكئ، يشكلون شبكة عجز خفية تعيق اقتصادنا.
كيف نطالب بالنمو والابتكار، ونحن لا ندير وقتنا بحكمة؟ كيف ننتظر التقدم، ونحن أسرى ثقافة "بكرا منشوف"؟
(البعد الاجتماعي: الفوضى التي تفتت الإيقاع):
الزمن المنفلت لا يفسد الإدارة والاقتصاد فقط، بل ينشر شرخًا عميقًا في نسيج المجتمع. عندما تذوب مواعيد الالتزام، تنهار الثقة وتتفتت العلاقات. المجتمعات التي لا تحترم الوقت تصبح مسرحًا للفوضى والعبث، حيث ينعدم النظام، وتفقد المعايير قدرتها على ضبط السلوك.
تنتقل هذه الفوضى إلى الأسرة، والمدرسة، والسوق، وحتى الطقوس الدينية والاجتماعية، فتتحول أزمة احترام الوقت إلى انهيار منظومة ثقافية كاملة.
(نحو عقد زمني جديد: صحوة النهضة عبر ضبط الساعة):
لننقذ أنفسنا من متاهة الوقت المفقود، نحتاج إلى مشروع حضاري يبدأ بالفرد ويمتد إلى المؤسسات:
• إصلاح إداري شامل يحل محل البيروقراطية بتقنيات متطورة وكفاءة عالية.
• إعلام توعوي يرفع من شأن الزمن ويشجع الانضباط بدل الترفيه الفارغ.
• تقنين العطل والإجازات بما يوازن بين الراحة ومتطلبات التنمية.
(الخاتمة: الزمنُ نَفَسُ الأمة.. فهل ننتشلُه من فخِّ التهاون والهدر):
الوقت ليس مجرد عقارب تدور بلا هدف، بل هو نبض الحياة وجوهر الحضارة وروح التقدم التي لا تنام. أمة تغفل عن الزمن تسقط في مستنقع الضياع، حيث تتحول الفرص إلى رماد، وتذوب الأحلام في مياه التأجيل.
ولكن في يدنا سلاح لا يُرى، هو وعي الزمن، الإدراك العميق أن كل لحظة تضيع تُسرق منا مستقبلنا، وكل دقيقة نلتزم بها تبني مجدًا جديدًا.
الأمة لا تُقاس بما مضى من أعوام، بل بما صنعت من دقائقها الثمينة، وبما حوّلت من وقت ضائع إلى قصة نجاح، ومن انتظار قاتل إلى حركة صاعدة لا تعرف التوقف.
فهل نمتلك الشجاعة لرفع هذا السيف الخفي، ونقطع به عبر غياهب التأجيل؟ هل نملك الإرادة لإعادة ترتيب ساعاتنا وصنع من الزمن ركيزة نهضتنا الجديدة؟
وباختصار أقول إنها ساعة القرار.. ساعة الانتصار على فخ الزمن وهيمنته على مقدراتنا.. ساعة استعادة الدول لروحها من خلال السيطرة على الوقت وتنظيمه قبل أن تتحول عقارب الساعة إلى رمز السقوط الأبدي.
861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع