بسام شكري
كتاب معجم حكام العراق /الحلقة التاسعة
المجتمع العباسي
مرت على العصر العباسي حقبة ورقت فيها ظلال النعيم وترقت مباهج الحياة ورفت غلائل الحياة الخضرة وإيراد العرائض النضرة فقد زخر المجتمع العباسي بمختلف العناصر والأجيال وشتى النحل والأديان وضروب المهن والصناعات.
فقد ضم المجتمع العباسي الأكثرية من العرب واقليات الفرس والترك والروم والأحباش والأكراد والنبط والبربر والشركس وغيرهم من الاقوام، كما ضم الإسلام والنصرانية واليهودية والصائبة والبوذية والمجوسية وفي كل هؤلاء فرق متباينة ومذاهب مختلفة يعرفون بها ويمتازون بتعاليمها، فأجتمع في هذا المجتمع عادات كل هذه الأمم وأخلاقها ومعتقداتها ظهرت في عصور مختلفة وأشكال متباينة.
وفي هذا المجتمع الغريب طبقات كثيرة وصنوف عديدة لها عاداتها وأخلاقها وتقاليدها ففيه الأمراء والوزراء والقادة والقضاة وأهل العلم من رواة الإخباريون والمحدثون والكتاب والمؤدبون والشعراء وأصحاب الدواوين وفيه التجار وأصحاب المهن والأعمال ثم فيه طبقات العامة وهم صنوف كثيرة وضروب مختلفة وجماعات عجيبة فيهم الشطار والعيار والذعر والفتيان والأمية والصعاليك والحرافيش والزواقيل والضعار والطرارون اللعابون وفيه هذا المجتمع أيضا النخاسون والقيان والجواري والإماء والغراميات والمخنثون والمغنون والظرفاء وفيهم العامة من أهل القرى والسواد .
وغير هذه الطبقات ممن يعسر إحصائهم واستقصاء أمرهم ومعرفة شؤونهم وأخلاقهم وأساليب حياتهم ونظم مجتمعهم وطرائق معيشتهم.
وقد غلب على هذا المجتمع البذخ والترف لما فتح الله على العباسيين وارفــه عليهم من نعيم الدنيا وخيرات الأرض حتى صبت أموال الدنيا في خزائن العراق , لذلك اقتن القوم في اللهو والطرب واقتناص اللذات حتى أفرطوا في الاستماع بها والاحتفال لها والبذخ في سبيلها وبخاصة في بلاط الخليفة العباسي .
ومن بيوت أصحاب المال والثراء وما يظهر فيها من عيش مترف وحياة ناعمة لاهية فقد ذكر الأصفهاني أنه كان للرشيد زهاء ألفي جارية وذكر المسعودي أنه كان للمتوكل أربعة الآلف جارية كما كانوا يتهادون الجواري والغلمان فقد أهدى طاهر إلى المتوكل هدية فيها مائتي وصيف ووصيفة وربما أهدت المرأة زوجها بعض الجواري كما فعلت زبيدة مع الرشيد.
وليس هذا موضوع كلامنا على الجواري في العصر العباسي ولكنه صورة صغيرة للثراء العباسي تظهر فيها يملكون الجواري والإماء وما يهديه بعضهم لبعض من هذه البضاعة البشرية.
وإذا نظرنا إلى مقدار ما كان يهديه الخلفاء للمغنيين والشعراء وجدنا صورة أخرى لهذه الثروة العجيبة فقد قيل إن الهادي أعطى إبراهيم الموصلي في يوم واحد خمسين ومائة ألف دينار وأن المغني محرز غني الرشيد بأبيات الصمة بن عبيد الله التي مطلعها:
وَأَذكُرُ أَيّامَ الحِمَى ثُمَّ أَنثَنِى
عَلَى كَبِدِى مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدعَا
فاستخف الرشيد الطرب فأمر له بمائة ألف درهم وفعل مثل هذا مع حسان إلا شقر المغني أما الواثق فنجد أنه أعطى اسحق الموصلي وقد غنى في حضرته مره مائة ألف درهم.
هذه أخبار صغيرة ذكرناها ليتعرف بها القارئ على عظم ثروة العباسيين وبعض وجوه صرفها وكذلك حالة أرباب المال والثراء الذين كانوا ينفقون في مجالس لهوهم وقصفهم الشيء الكثير وكيف كانوا، هذه اذن صورة الحياة التي كانت تحياها طبقات العباسيين بين هزج الطنابير في عبق الخمر وأنفاس الزهور وروح الغواني وشدو القيان وعزف الوتر في قصور الخلفاء والأمراء وأرباب الجاه والثراء أو على حفافي الأنهار وشطآن الجداول في البساتين والدساكر.
ولعل الأعياد العباسية كانت أصدق مظهر لهذه الحياة المترفة الناعمة وأجمل صورة لترفهم واستمتاعهم فقد كانوا يستعدوا قبل أوانها بكل ما أوتوا من حدق وتفنن وتظرّف ومال كما كانوا يهبون لها كل الأسباب لقصفهم ونزفهم ولهوهم ومتعهم من شراب وآنية ونقل وقيان ومغنيات مما يصلح لهم ويوافق محلهم ويزيد في لذتهم واستمتاعهم.
ولقد كان المسلمون مشتركون مع غيرهم في الأعياد طلبا للذة واقتناصا للمتعة فقد كانوا يشتركون مع الروم والترك والفرس والنصارى في أعيادهم ويظهرون كل أسباب اللهو فيها كأنما هي من جملة أعيادهم ولا يزال أهل العراق في يومنا هذا يحتفلون بعيد النيروز كأنه من أعيادهم القومية وهو في الأصل عيد فارسي.
ولقد عاش أهل الذمة من نصارى ويهود وصائبة في البلاد الإسلامية متمتعين بحريتهم ويزاولون أعمالهم فيها لا يمنعهم عن ذلك أحد إذ لم يرد في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أية باب من أبواب الأعمال وقد بقيت كنائس اليهود والنصارى وبيعهم ودياراتهم قائمة في البلاد الإسلامية يقيمون فيها شعائر فيها بكل حرية.
ولقد كانوا يشاركون المسلمين في أهم الأعمال والوظائف فقد كان منهم أطباء وصيارفة ورجال أعمال بل كان منهم رجال حرب وقادة جيوش ووزراء ففي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري اتخذ كل من عضد الدولة في بغداد والخليفة العزيز بالله في القاهرة وزيرا نصرانيا يدير شؤون الدولة كما كان لكل قوم وديانة منهم رئيس يمثلهم في قصر الدولة وفي دواوين الحكومة يسمى (رأس الجالود – الجبالية).
وكان الخلفاء يباهون في محبتهم وإكرامهم وتقديمهم في مناصب الدولة يغدقون خاصتهم بالمال والنعمة حتى نالوا منهم الأموال الطائلة والهدايا الثمينة والضياع الكثيرة وحسبنا مثالا على ذلك ما كان يأخذه الطبيب السرياني جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد من مخصصات منها رواتب نقدية كان يقبضها من بيت المال العامة وبعضها من بيت المال الخاصة فقد ذكر لنا جرجي زيدان نقلا عن طبقات الأطباء ثبت ما قبضه من بيت مال الدولة العباسية وقال أنه بلغ ( 12,700,000 ) درهما وإذا أردنا معرفة هذا المقدار بالنقد المعاصر أن الدرهم العباسي يساوى ( 40 ) فلسا عراقيا محسوبة بمقدارها عند اصدار النقود العراقية ابان الحكم الوطني في زمن المغفور له الملك فيصل الاول أو ما يقرب من ذلك فيكون مبلغ ما أخذه
(450,800) دينارا عراقيا بقيمتها في زمن الملك المؤسس فيصل الأول رحمه الله.
وهذه قصة أخرى نستدل بها على مدى إكرام الخلفاء للنصارى كانت بين المعتصم الخليفة العباسي وطبيبة سلمويه النصراني، قال حنين (كان سلمويه عالما بالطب ولما مرض عاده المعتصم وبكى عنده، ولما مات امتنع المعتصم عن الأكل ذلك اليوم وأمر بإحضار جنازته إلى الدار وأن يصلى فيها بالشمع والبخور.
ويظهر لنا من نصوص التاريخ التي سردها مسلمون وذميون ان الحكومة الإسلامية لم تتدخل في شؤون أهل الذمة الدينية التقليدية وغيرها بل كانوا يقومون بها في مختلف النواحي بكل حرية وكان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضروا مواكب أعياد النصارى ويخرجوا معهم ويأمروا بصيانتهم وحراستهم وكثيرا ما كانوا يشتركون معهم في احتفالاتهم بالأعياد الكبرى كعيد الميلاد وعيد الشعانين ويذهبون معهم إلى مواطن النزهة ومواضع اللهو كأنما هم يدينون بدين واحد وربما أظهروا معهم جميع شعائر الأعياد وعيدوا معهم .
الباحث
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://www.algardenia.com/maqalat/55398-2022-08-31-15-09-29.html
548 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع