اغتيالها لن يُصَـفّي حِـقْـبَـتَها

                                                

                          كريستيان بيسري*

اغتيالها لن يُصَـفّي حِـقْـبَـتَها

كنت أتجول في شوارع براغ خريف 2018، وبينما أستمع إلى المرشد السياحي، لفتتني قاعدة لبقايا نصب تذكاري يطل على المدينة؛ هي بقايا للتمثال الأضخم في العالم لجوزيف ستالين، أُزيل للمفارقة، من قبل خلفائه من الزعماء الشيوعيين، أجابني المرشد.

استحضرتني حينها الكثير من المشاهد المتناقضة الحية في ذاكرتي: إسقاط تمثال صدام حسين، إحراق كتب ابن رشد في فيلم المصير، تكسير داعش للتماثيل في العراق وسوريا، تفجير طالبان لتمثال بوذا في أفغانستان...

على اختلاف الدوافع والمبررات والأهداف، بالنسبة لي تصب هذه الممارسات في خانة واحدة، محاولة هدم الذاكرة الإنسانية بحلوها ومرها.

أتابع ما يحدث في الولايات المتحدة وفي العالم، إثر مقتل الشاب الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد، على يد شرطي أبيض. في إطار التظاهرات المحقة بمطالبها والسامية بشعاراتها، يصار إلى تدمير كل نصب تذكاري، يرى فيه المحتجون رمزا للعنصرية، التي لا يزالون يرزحون تحت نيرها، كما يقولون.

والأسوأ أن بعض من في السلطة يركب الموجة لأهداف آنية!

أبعد من ذلك، تم سحب فيلم "ذهب مع الريح" الحاصل على جائزة أوسكار، من منصة HBO Max، "في الوقت الحالي" يقول القيّمون على المنصة، "لأنه يصور بعض المظالم العرقية، التي كانت للأسف سائدة في المجتمع الأميركي!"

أفهم الحنق الذي يشعر به المتظاهرون، أدرك أن لحظة التكسير، هي لحظة تنفيس جماعي، ولكن هل إزالة النصب التذكارية تزيل الفترة التي تجسدها من التاريخ؟

هل سحب فيلم صوّر الممارسات العنصرية، التي كانت سائدة، يلغي واقع أن هذه الممارسات حصلت فعلا؟

أشك!

لا أنكر وأنا أتابع هذه المشاهد بأسف، أنني تساءلت في قرارة نفسي، عن تناقضاتي:

ألم أفرح حين رأيت تمثال حافظ الأسد يسقط في الرقة، وتمثال صدام حسين يهوي في بغداد، ورأس تمثال معمر القذافي يقطع في باب العزيزية؟

وقتها اعتبرت ذلك نهاية رمزية لحقبة سوداء، وكنت متمسكة بمبدأ أن تخليد الذكرى لا يليق إلا بالأخيار، والإبقاء على تماثيل الطغاة نكأ للجراح.

ولكن لو سُئلت اليوم، ما إذا وددت أن أرى تلك التماثيل، لو تسنت لي زيارة سوريا والعراق وليبيا وغيرها، سأرد بـ"نعم"!

نعم، لأن التماثيل والنصب التذكارية والمنحوتات والجداريات والآثار، جزء لا يتجزأ من التاريخ، هي ابنة زمن معين وشاهدة عليه، إلغاؤها لن يلغي الحقبة التي أنتجتها.

نعم، لأنها تسهم في تحديد ملامح المدن وتشكيل هويتها.

ألم يأمر نابليون، عندما أراد أن تصبح باريس روما ثانية، باستنساخ نصبها التذكارية؟

تخيلوا شوارع الولايات المتحدة، من دون تمثال لكريستوفر كولومبس، مكتشفها؟

تخيلوا لو أن ذاك الشيخ، الذي أراد تحطيم أبو الهول، تمكن من أكثر من أنفه؟

تخيلوا روما من دون الكولوسيوم، وباريس من دون برجها، ولندن خالية من ساعتها و... و ...

كم ستكون المدن رتيبة، لو خلت من آثار تذكرنا بمَنْ مر من هنا، صالحا كان أم طالحا.

كم ستكون مملة لو لم يستوقفنا فيها أي شيء، يثير فينا تساؤل عن تاريخها، حكامها، شعبها، وأساطيرها.

بالطبع من الصعب، بل ربما المستحيل، تحييد الآثار في لحظات غضب الجماهير، فلتُحفظ، فلتُرمم ، فلتعاد إلى أماكنها، عندما تهدأ العواصف الشعبية، مع لافتة توجز كل ما دار حولها.

أو فليعتمد النموذج المجري، هنغاريا رفضت التخلص من تماثيل الزعماء الشيوعيين، بعد تعرض الأهالي لها، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، جمعتها في حديقة أصبحت متحف "ميمنتو بارك"!

وعندما سُئل مهندس المشروع كيف قبل بتنفيذه أجاب:

"هذه حديقة عن الديكتاتورية، ولكن لأنه أمكن بناؤها ووصفها والحديث عنها، هي عن الديمقراطية، وحدها الديمقراطية، تمنحنا الفرصة للتفكير بحرية عن الديكتاتورية"!

* مذيعة أخبار وصحفية لبنانية في قناة سكاي نيوز عربية أبو ظبي.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1028 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع