قيامة الأفكار

                                                    

                         جابر رسول الجابري

قيامة الأفكار

ومن الناس من يستحضر عقول الأموات ليعيش على تفكيرها في إيجاد حلول لمعضلات عصره ، أولئك الفئة من الناس هم جهل البرية وإن هم إلا دواب تعتمد الغريزية وإتباع الموروث في سلوكها ، هم من ذوي العجز في التفكير لإستنباط أسباب الأحداث وكيفية حدوثها وما تؤول اليه وذوات قصر في البصيرة لمعرفة أوان الحدث بل هم عاجزون حتى عن التحليل والتفكر في منطق الحدث بهدف تطوير مناهج الحياة لخلق حياة إنسانية أفضل ، لذلك هم عرجوا لإستخدام الموروث هربا من التفكير ودراسة الأسباب بل هم مقتنعون بالركون لإستلهام افكار الآموات وآرائهم وسلوكهم ليعيشوا سبات ظلام زاوية الإعتكاف والتوحد بعيدا عن الحياة ومجرياتها وما فيها من إبتكار وإبداع و رقي ، هم يعيشون بعيدا عن زمنهم وحاضرهم فترى أحدهم يعيش حلما في يقظته متقمصا شخصيات وعقول العصور الغابرة والأحداث التي باتت نخرة ، هو يفكر في عقول ويلوك بأفكار الموتى بالرغم من ان جسده يعيش في حاضرة عصره لكن مسار سلوكه وفق عصر غير عصره وتفكيره وفق تفكير عقل غير عقله فمثله مثل الأعمى يتحسس صور الحياة بنظر غيره فيكون تقييمه معتمدا على تقييم غيره ولو أن هناك عند الوسيلة مزاجية في نقل الواقع فلا خيار لديه الا بالمثول للوسيلة لأنه لا يدرك الحقيقة إلا نقلا، ومما يزيد الطين بله أنه يجهل وضع حقيقة الناقل أو أن موروثه كان قد مسخ أو أن هناك خطأ في النقل ولأنه يجهل كل ذلك فهو أيضا يجهل حقيقة تلك الأفكار وكيف وصلت له وإنها خلت ورحلت برحيل زمنها وتغيرت فلا قياسها باق على صحته ولا المقياس أوفى لأن حيثياته صدأت ، تراهم قوما يفكر الفرد فيهم وفق قراءات مفكر أو مجتهد او فيلسوف عاش في حقب التاريخ وعاش حينها تجاربه بظروفها وزمنها ومعطياتها ونتائجها فأوجد لها حلا أنذاك ليستمر في سلوكه وقد يكن مناسبا لتطور حياته أو العكس،

في عصرنا هذا باتت تلك الحلول من تلك العقول غير مناسبة وباتت تلك الأدمغة معطلة واجسادها تحولت الى فتات من تراب وإندثرت تحت وطأة الارض وتغيرها فلا حياة لأصحابها وتوقفت عن التفكير أضف الى ان افكارهم تلاشت وتغيرت مقاييسها تحت زلازل العصور المتوالية وتغيرات الزمن وتقلبات أحواله وإنما تلك الأحوال تتداول بين الأمم وكل حسب عطائه الفكري وليس حسب مكتسبه الفكري ،

تلك فئة لا تدرك ان لكل زمان أمة يندرج تسلسلها بين فكي العلم والزمن فإما لقمة سائغة لبطون الجهل أو صمد يأكل العلم أكلا لما ليعبر به الزمن الى سنام الحياة ، لا يدركون أن لكل أمة قادة ورجال وإمام زمان يحدد المسار ولكل أمة فكر وأفكار ولكل أمة عقل له إقبال وإدبار ولها در ودردار ودار ولكل أمة حاضرة وآثار وهي تعيش ظرفا وزمنا غير زمن وظرف باقي الأمم الأخريات ولها وسائل ومتطلبات تختلف عن سواها حتى لو كانت تلك الاختلافات بسيطة ومنها ماهو جذري أم هو إختلاف نسبي ، ان الحياة تعتمد على مقدرات ومعطيات والأمة لابد أن تمتلك القدرة على الخلق والتعايش مع الحدث وإبتكار وإيجاد الحلول لمعضلات عصرها بعقول ابنائها في زمانها لتبني مقدراتها ، كل أمة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ولكل سلوك تفكير يقوده عقل حاضر ولكل اداء تقييم يعتمد على مستوى تفكيرحاضره ودقة تشخيص معوقاته من اجل الاستمرار ونمو قدرته كي تعثر الأمة على الحلول والبدائل والوسائل الكفيلة بسموها ،

لا تنهض أي أمة إلا بافكار عقول أفرادها معاصري حركتها وسلوك رجالها الذين يعيشون حياتها فهم نبضها ولا يمكن لأمة أو لشعب أن يعيش على فتات تفكير شعوب أخرى وإن حصل ذلك فانهم سيبقون عبيدا تابعين وذيولا لفكر ذلك الشعب صاحب التفكير وهم لا يملكون طريقا أو سلوكا إلا وسبق وأن سلكته قبلهم تلك الامم المفكرة ، فما بالك إتباع عقول أمم ماتت وتوقفت عقول رجالها عن التفكير ورحلت ارواحهم الى عالم اخر تركت تراثها بسلبيته وإيجابيته بلا تصحيح ،

نحن نعيش في زمن يختلف بتاتا عن زمان الامم الخالية سواء في الوسيلة او المعطيات أو المتطلبات بل نحت وصلنا في عصرنا هذا الى قمم التفكير وما سبقتنا من أمم عاشت في قيعان وديان وسهول التفكير ، فمن غير المعقول ان تلجأ عقولنا الى استلهام تجاربهم وحلولهم لمعضلاتهم وهي لا تنطبق وموازين حاضرنا ، فهل نسعى مثلا في خلاف لإيجاد وقت غروب الشمس وشروقها أو ولادة الهلال ونحن نملك العلم والحاسوب والوسيلة التي تتبع مسار الشمس والقمر لحظة بلحظة لتحدد لنا في اي ثانية زمنية يحدث هذا ، أو هل نسعى لإيجاد قومية او تكوين قومي سواء كان فكريا أو عرقيا في زمن العولمة التي إنصهرت في بودقتها أمم لتشكل مجتمعا إنسانيا يتسابق فيه الفكر لإيجاد وإكتشاف فجوات علمية لم تزل مجهولة من اجل بناء الانسان ورقيه بعيدا عن اللون والعرق والدين والفكر ، أم هل نسعى لاستخدام السيف كوسيلة قتالية ندافع بها عن وجودنا وقد تركت الامم سلاح البندقية الذي لم يعد ناجعا في عصرنا فلجأت تلك الأمم الى العلم والسلام وتستخدم الطاقة كسلاح حديث وسريع ودقيق للدفاع عن مكتسباتها واستمرار عطائها ان شذ شذوذ أو خاض مخاض في مسيرتها ، لازلنا نخوض في الخلافات على مقياس الفرسخ ركوبا أو على دابة او مشيا على الأقدام في حين أن الأمم باتت تقطع مئات الأميال في ساعة واحدة وان الأمم المندرسة كانت تستغرق في قطعها أشهر وسنوات ، مالكم أيها الناس كيف تحكمون أم تريدون من اجيالنا ان تعتكف في زوايا الظلام بعيدا عن حاضرهم يعيشون الماضي بقياسات عقول وافكار أمم خلا زمنها ،

الحق والحق أقول فأدعوكم لتقيموا قيامة الأفكار فتجزى ما تجزى منها وتثاب ما هو نفع وخير يساعد الأجيال في تحديث مسيرة فكرها وسلوكها ولذر ماهو ضار سلبي عليها ولنجعل من تجارب الآخرين نموذجا نصوغ به تفكير عقولنا لإيجاد الحلول الناجعة لمعضلات عصرنا ، أم لازلتم متمسكون بان تكونوا عبيدا لفتات الأفكار التي يمن بها عليكم بعض الامم ام لازلتم تريدون البقاء احياءا أسيرين لعقول الموتى عاجزين عن مجابهة عصركم .

المملكة المتحدة —الثلاثين من أيلول عام 2019

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع