لا بُدَّ مِن صَنْعا وإِنْ طالَ السَفَر(١)

                                                   

                           د. زكي الجابر

لا بُدَّ مِن صَنْعا وإِنْ طالَ السَفَر(١)

إعداد: د. حياة جاسم محمد

لم تَكُن تلك الجولةُ للنفسِ فَحَسبُ بل لِلذِهنِ أَيضاً، وكانتْ نُقطةُ ابتدائِها عمليَّةَ اختِطافٍ مارَسَها نِظامُ الحُكمِ الذي كان قائماً حينذاكَ في اليَمَن، الحُكمُ الذي أحالَ البَلدةَ الطيّبة إلى قَفْرٍ ’’ذي أُكُلٍ خَمْطٍ وأثْلٍ وشيءٍ من سِدْرٍ قليل‘‘(2). والجَولةُ هي جَولةٌ في الروايةِ التي خطَّها قلمُ الأديبِ ’’زَيْد مُطيع دَمّاج‘‘ وأطلَقَ عليها اسمَ ’’الرَهِينة‘‘(3)، وإنّها لَروايةٌ إنْ افتقدَتْ، كما أَرَى، مِكنةَ الصِياغةِ والدُربَةِ على سِلسلةِ انسيابِ العباراتِ فإنَّها لم تَفتقِدْ جودةَ التَصويرِ وعُمقَ النَفاذِ إلى جَوهَرِ المَوْضوعات. تُجسِّد الرواية في مُسْتَهَلِّها اختطافَ ’’العَكفة‘‘، حَرَسُ الإمامِ الخاصّ، ذلك الصبيَّ من أحضانِ والدتِه ومن بَينِ سَواعِدِ أفرادِ أُسرتِه ليتحوَّلَ إلى ’’دوَيدار‘‘ يَنفردُ بحضورِ البديهةِ ويُحسِن خِدمةَ الأمراءِ والحُكّامِ في قُصورِهم وبُيوتاتِهم، وهو في واقعِ أمرِه رَهِينَة، اعتُقِلَ أوَّلاً في ’’قلعةِ القاهرةِ‘‘، مَعقِلِ الرهائنِ، ثم نقلوه إلى منزلِ نائبِ الإمامِ وعامِلَه على المدينة. وتَتَصاعدُ مأساةُ الصبيِّ في ذلك المنزل حِدّةً حينَ تَقعُ في حبِّه إحدَى ’’شريفاتِه‘‘، وأخيراً يتمكَّنُ من الفِرارِ قبلَ أَن يُكَبَّلَ بالقُيودِ مدَى ما تبقّى له من حياة!
وهكذا يُظهِرُ الاختطافُ فَصلاً لا يُمكنُ فَصلُه عن تاريخِ اليمنِ، وإذا ما كانت الدولةُ تقومُ بالاختطافِ فهناكَ اختطافٌ تُمارِسُه القبائلُ ضَرْباً من ضُروبِ الشَطارَةِ وإسماعِ الصَوتِ ومُنازَلةِ الخَصمِ والحُصولِ على بَعضِ المَكاسِب، وهو اختطافٌ مُتَميِّزٌ في خَصِيصَتِه وتَعامُلِه، فَهُو، وإِنْ جَرَى تَحتَ ظلالِ البَنادِقِ والسيوفِ والخناجرِ المُشرَعَةِ، لا يَنطوي على إِراقةِ دمٍ، وليسَ في النِيَّةِ أن تكونَ هذه الإِراقة. ولقد تعرَّضَ سائحونُ أَجانِبُ لِعَمَليَّةِ اختطافٍ وأُطلِقَ سَراحُهم لِيَعودوا يقصُّون طَريفَ القَصَصِ عن كَرَمَ الضيافةِ وأدبِ المُعاملة. ولقد تحوَّلتْ حِكاياتُ الاختطافِ إلى ما يُشبِهُ الأساطيرَ ذاتَ الجاذبيّةِ، وأصبحَ اليمنُ مُغرِياً لذلكَ السائحِ الذي يُحِبُّ المُغامرةَ وتُراوِدُهُ هواجسُ الاختطافِ والحُلمِ بعودتهِ إلى أهلِه وبِطانَتِه لَيرويَ ما يَروي من أحداثٍ ونوادر.
ثُمّ مدَّتِ السياسةُ يَدَها لِتُقَرِّبَ الاختطافَ في اليَمنِ من ذلكَ النَمَط الذي مارَسَتْهُ عِصاباتُ الإرهابِ في ألمانيا وإيطاليا ولبنان وفي أكثرَ من مكان آخر. إنّهَ النمطُ الدَمَويُّ الذي يستبدلُ الرؤوسَ بالأموالِ والأموالَ بالرؤوسِ ويُثيرُ الهَلَعَ وتتسلّطُ عليه أضواءُ التَلفزةِ وتتناقلُه وكالاتُ الأنباءِ، النمطُ الذي يُريدُ الوصولَ إلى مَغنَمٍ سياسيٍ وفَرْضِ نُفوذٍ، وكثيراً ما فَشلَ في مَسعاه!
قد يطولُ طَوافي بكَ، ولعلَّ لِخَير النهاياتِ هذا المَطاف. لقد شَغلَ اليمنُ الناسَ وانشَغلَ حين سالتْ دماءُ سائحينَ في دُوّامةِ معركةِ إنقاذهم من الأَسار والارتهان. وإنّه لَشأنٌ مُرٌّ ومرير، وإني لأعلَمُ أنّكَ رأيتَ وسمعتَ وقرأتَ الكثيرَ منهُ، وأظنُّ أنّ الذي يَعنيكَ ويَعنيني هو أَنَّ الاختطافَ اليَمنيَّ في طابعِه الأصليِّ القَبَليِّ لا يُشكِّلُ انسلاخاً عن الأعرافِ أو خروجاً عن المألوفِ من التقاليد. وهو يَقتربُ من ذلك النمط الذي تَعرفُه بعضُ القبائلِ في بَعضِ بقاعِ العرب ويَندرجُ في عاداتِها وأعرافِها، وذلك حين يَخطفُ الفتَى الفتاةَ التي يُريدُها شَريكةَ حياتِه ويذهبُ بها بعيداً لِيتزَوّجا واضِعَين عشيرتَهُ وعشيرتَها أمامَ الأمر الواقع، وليسَ هُناكَ من دمٍ يسيلُ غير دمِ فَضِّ البَكارةِ، دَمِ الخِصبِ والنَماءِ والمُستقبلِ السعيد!
كما أظُنُّ أنّهُ يعنيكَ ويَعنيني أن يَظلَّ الاختطافُ بعيداً عن أَيْدِي الدولةِ وحُرّاسِها ووُكَلاءِ أَمنِها. إنّ الدولةَ حينَ تتدخّلُ مُدَجَّجةً بالسلاحِ يتحوَّلُ الاختطافُ إلى مُمارسةِ عُنفٍ، ومن جانبٍ آخرَ فإنَّ انتفاءَ تَدخّلُها لا يَمنعُ من تدخُّلِ العُصَبِ السياسيّة والتجمّعاتِ المُتعطِّشة للدِماء. ويتحوَّلُ الاختطافُ من تَقليدٍ اجتماعيٍّ إلى حِرفةِ إجرامٍ تُرَسِّخُ محَفِّزاتِ الاعتداءِ والإقرارِ بالعُنفِ كوسيلةٍ أساسيّةٍ من وسائلِ السيطرةِ مع شُيوعِ الاعتقادِ بفَعّاليّتِها.
إنّ النظامَ الاجتماعيَّ لَيُصبِحُ عُرضةً للاهتزازِ حين تقفُ عِصاباتُ الاختطافِ الدَمَويِّ، وبالأخصِّ اليمينيةُ المتطرّفةُ منها، ضدّ الدولة. إن هذه العصاباتِ، ومن أجلِ ممارسةِ عمليّاتِها بفعّاليةٍ، تَقفُ وقفةَ المُعارضِ من الحكومةِ المركزيّةِ وأدواتِها التي تستخدمُها للضَبطِ والرَبطِ من أجهزةِ أَمْنٍ ومَحاكم، بل تقفُ وقفةَ المُعارضِ من النظامِ الماليِّ والتعليمِ العَصريِّ ومؤسّساتِه مع محاولاتٍ لتعطيلِ الخَدَماتِ العامّةِ وأجهزةِ العَونِ الطبّيِّ والتضامُنِ الاجتماعيّ، وكما يقعُ في إطارِ فعاليّتِها تنظيمُ حَملاتِ إشاعةٍ ضِدَّ جدوَى المُستَجِدات التقدُّميّةِ من فِكر ومعلوماتٍ وتكنولوجيا.
إنّ أهمَّ ما يُمكنُ أن تُواجَه به عمليّاتُ الاختطافِ، بِما تحملُه من نَزعةٍ غيرِ إنسانيّةٍ وبشَكلِها القَبَليِّ والدَمَويِّ، هو سَحبُ التَعاطُفِ الشعبيِّ مع أَبطالِها ومُخَطِّطيها والكشفُ عن طابَعُها اللاحضاريِّ، وتلك مسؤوليةٌ يتحمّلُها كلُّ عُشّاقِ حضارةِ سَبَأ وتاريخِها العريق. وإذا كانت لغةُ الصِراعِ السياسيِّ تَنشَغِلُ على الدوامِ بأسئلةِ من يأخذُ ماذا ومَتَى وكيف؟ فإنّ السؤالَ النبيلَ الذي يطرحُ نفسَه هو لِماذا؟
لِماذا الاختطاف؟
يَختَتِمُ ’’زيد مُطيع دَماج‘‘ روايتَه ’’الرَهينة‘‘ بوصفِ هروبِ الغلامِ ’’الدويدار‘‘ يُطاردُه صوتُ ’’الشريفةِ‘‘ التي شَغَفها حُباً وقالتْ له هَيْتَ لكَ، إنه يهربُ قائلاً مع نفسِهِ ’’وأنا أتوقَّعُ صوتَها أو حجراً مقذوفاً منها سيقعُ على ظَهري، لكنّي كنتُ قد قطعتُ مسافةً كافيةً في طريقٍ جديدٍ مُؤَدٍّ إلى المستقبل‘‘.
ولا بُدَّ من صَنْعا وإنْ طالَ السَفَرْ

1- قالها الإمام أحمد بن حنبل الذي غادر العراق طلباً للعلم مُقرِّراً السفر إلى الإمام عبد الرحمن الصنعاني في اليمن، ثم شوهِدَ الإمام الصنعاني في مكّة فقِيلَ للإمام أحمد إنَّ وجوده في مكّة يمكِّنه من طلب العلم على يديه فأجاب: ’’لا، لا بُدَّ مِن صَنْعا وإِنْ طالَ السَفَر‘‘. (جريدة الرياض، السعودية، 7-6-2009).
2- من سورة سبأ، الآية 16. الخَمْطُ ثمرٌ بَشِعٌ، والأَثْلُ شجرٌ لا ثَمَرَ له، السِدْرُ شجَرُ النَبْق.
3- ’’الرهينة‘‘ رواية للأديب اليمني زيد مطيع دمّاج. صدرت الطبعة الأولى منها عن دار الآداب 1984، وترجمت إلى عدد من اللغات الأجنبية، واختيرت ضمن الأعمال الإبداعية المنشورة في مشروع اليونسكو (كتاب في جريدة)، العدد 4. أعيد طبعها بالعربية في بغداد 1988، وفي بيروت 1979، وفي القاهرة 1999، وفي صنعاء 2014. (ويكيپيديا)

*************************
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘، المغرب، 14-3-2000.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

800 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع