قراءة تأريخية لمقتل الملك غازي (٤)

                                               

                       بقلم : عباس الخفاجي


قراءة تأريخية لمقتل الملك غازي (٤)

وهكذا دفن سيد شباب البلاد قرب أبيه في المقبرة الملكية في الأعظمية وجدران المقبرة تردد صدى هتاف الجماهير الغاضبة ( كتلوا ملكنه و أتهموا السيارة ) دلالة على علم ومعرفة الجماهير بأن المصرع كان مخطط له ولم يكن محض حادث مؤسف ، حيث إن أي حادث سيارة يؤدي إلى الوفاة لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة ، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً، كما أن الأضرار التي كانت في السيارة تركزت في الجانب الأيمن الذي أصطدم بعمود الكهرباء ، بينما كان الملك يجلس في الجانب الأيسر خلف المقود ، كما لم تكن أي أصابة في جسم الملك سوى تهشم الجمجمة من الخلف ، وهذا ما يثير الشكوك حول حقيقة مقتل الملك الذي كان محبوبا جدا من جماهير الشعب العراقي لمواقفه الوطنية والعروبية المشرِّفة.

انـتـشرت الهمسات ثم الإشاعات فالتأكيدات، بأن الإنكليز رتبوا له هذه الحادثة، لأنه تمرد عليهم.

 

مواقف غازي التي أغاضت الأنكليز:

1. يبدو أن قضية أعادة الكويت الى العراق ، كانت من الأسباب الرئيسة التي عجلت باتخاذ قرار أزاحته أو التخلص منه ، فعندما تولى الملك غازي الحكم وضع نصب عينه مسألة إعادة الكويت إلى العراق، حيث كانت أيام حكم العثمانيين جزءا من العراق، وتابعة لولاية البصرة، لكن المحتلين البريطانيين اقتطعوها من العراق، ونصبوا الشيخ مبارك حاكما عليها تحت حمايتهم، عام 1895. تمتاز الكويت بأهميتها الاستراتيجية، حيث تتحكم برأس الخليج، وتبلغ مساحتها 7000 كيلومتر مربع، وكان يسكنها آنذاك حوالي 100 ألف نسمة، وكان الملك غازي يعتقد أن اقتطاعها من العراق سبب حرمانه من شواطئه البحرية على الخليج، إلا من بقعة صغيرة جداً قرب مصب شط العرب. وهكذا أصبح هاجسه في كيف يعيد الكويت إلى العراق، في ظل تعارض رغبته تلك مع إرادة الإنكليز المهيمنين على مقدرات العراق. حاول الملك غازي التقرب من ألمانيا، غريمة بريطانيا، وسعى إلى توطيد العلاقات معها، لعل ذلك يساعده على استعادة الكويت، وقد قامت الحكومة الألمانية بإهداء الملك غازي محطة إذاعة تم نصبها في قصر الزهور الملكي، واستعان الملك بعدد من العناصر القومية الشابة، وراح يوجه إذاعته نحو الكويت، وكان بثها كله موجها حول أحقية ضم الكويت إلى العراق، ومهاجمة الإنكليز الذين اقتطعوها من العراق، مما أثار غضبهم وحنقهم على الملك غازي، وجعلهم يفكرون بالتخلص منه.

فقد ذكر السفير البريطاني ( باترسن) في كتابه ( Both sides of Curtain) حول تصرفات الملك غازي ما يلي:

(لقد أصبح واضحا للعيان أن الملك غازي إما يجب أن يُسيطر عليه، أو أن ُيخلع من العرش، وقد لمحت إلى ذلك، وبهذا المقدار، في زيارتي الوداعية للأمير عبد الإله). ( مذكرات طه الهاشمي ، ص 200).

أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيذكر في مذكراته أن نوري السعيد الذي كان يقيم في القاهرة كان قد أرسل إليه، وإلى العقيد فهمي سعيد، ولده صباح، بعد مقتل بكر صدقي بأسبوعين، ليستفسر منهما عما إذا كانا يريان قتل الملك غازي، وإلحاقه ببكر صدقي، وتخليص البلاد من عبثه أمرٌ ممكن ؟ وقد رد عليه فهمي سعيد، بصوت جهوري قائلاً: (لا يا صباح لن يحدث هذا أبداً).

أما صلاح الدين الصباغ فقد رد عليه قائلاً: (أما بصدد اغتيال الملك غازي، فنحن أبعد الناس إلى التطرق لمثل هذا العمل، ولا نسمح بأن يذكر أمامنا، ونصيحتي لك أن لا تكرر ما قلته، وأن لا تفاتح به أحد بعد اليوم). (الصباغ ، صلاح الدين ، فرسان العروبة ، ص 90).

وتطرق توفيق السويدي إلى نفس الموضوع في مذكراته المعنونة (نصف قرن من تاريخ العراق، والقضية العربية) قائلاً: (أتذكر بهذا الصدد أنني عندما كنت في لندن، التقيت بالمستر( بتلر) وكيل وزير خارجية بريطانيا الدائم، وقد أبدى لي شكوى عنيفة من تصرفات الملك غازي فيما يتعلق بالدعاية الموجهة ضد الكويت من إذاعة قصر الزهور، وقال لي بصراحة بأن الملك غازي لا يملك القدرة على تقدير مواقفه، لبساطة تفكيره، واندفاعه وراء توجيهات تأتيه من أشخاص مدسوسين عليه، وإن الملك بعمله هذا يلعب بالنار، وأخشى أن يحرق أصابعه يوماً ما). (السويدي ، توفيق ، نصف قرن من تاريخ العراق ، ص 326).

لقد حاول الملك غازي إعادة الكويت بالقوة، أثناء غياب رئيس الوزراء نوري السعيد الذي كان قد سافر إلى لندن لحضور مؤتمر حول القضية الفلسطينية في 7 شباط 1939، فقد استدعى الملك رئيس أركان الجيش الفريق (حسين فوزي) عند منتصف الليل، وكلفه باحتلال الكويت فوراً. كما اتصل بمتصرف البصرة داعيا إياه إلى تقديم كل التسهيلات اللازمة للجيش العراقي للعبور إلى الكويت واحتلالها.( الحسني ، عبد الرزاق ، تأريخ الوزارات العراقية ، ج5 ، ص 76).

كما استدعى الملك صباح اليوم التالي نائب رئيس الوزراء ناجي شوكت بحضور وزير الدفاع، ووكيل رئيس أركان الجيش، ورئيس الديوان الملكي، وأبلغهم قراره باحتلال الكويت.

لكن ناجي شوكت نصحه بالتريث، ولاسيما وأن رئيس الوزراء ما زال في لندن، وأبلغه أن العملية سوف تثير للعراق مشاكل جمة مع بريطانيا، والمملكة العربية السعودية وإيران، واستطاع ناجي شوكت أن يؤثر على قرار الملك غازي، وتم إرجاء تنفيذ عملية احتلال الكويت. (الحسني ، عبد الرزاق ، تأريخ الوزارات العراقية ، ج5 ، ص 77).

فلما عاد نوري السعيد إلى بغداد وعلم بالأمر، سارع بالاتصال بالسفير البريطاني، وتداول معه عن خطط الملك غازي، وقرر الاثنان التخلص من الملك بأسرع وقت ممكن، وهذا ما صار بعد مدة وجيزة، حيث جرى تدبير خطة لقتل الملك والتخلص منه، والمجيء بعبد الإله وصياً على العرش نظراً لصغر سن ولده الوحيد (فيصل الثاني) الذي كان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات آنذاك.( الحسني ، عبد الرزاق ، تأريخ الوزارات العراقية ، ج5 ، ص 76).

2. ناهض النفوذ البريطاني في العراق وأعتبره عقبة لبناء الدولة العراقية الفتية وتنميتها، وأعتبره المسؤول عن نهب ثرواته النفطية والآثارية المكتشفة حديثاً. حيث يقول جيمس موريس: ( إن الملك غازي كان أول ملك هاشمي لايحب الإنكليز، ولم يكن يحمل أدنى شعور بالصداقة لهم، ولذلك كان من أكثر الملوك الهاشميين شعبية في قلوب الجماهير).

3. كان الملك غازي ذو ميول قومية عروبية كونه عاش تجربة فريدة في طفولته حيث كان شاهدا على وحدة الأقاليم العربية إبان الحكم العثماني قبل تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الوطن العربي إلى بلدان تحت النفوذ البريطاني أو الفرنسي. وأذاع بنفسه خطبا وبيانات من أذاعة قصر الزهور ، تندد بالاستعمار الفرنسي لسورية ولبنان ، وتهاجم المخططات الصهيونية والاستعمارية في الوطن العربي. كما وقف إلى جانب قادة الثورة الفلسطينية كعزالدين القسام ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني.

وكان الحلفاء(بريطانيا وفرنسا)، قد أعلنوا عشية الحرب العالمية الثانية أن كل من يقف ضد سياستهم، يضع نفسه في خندق العدو النازي.

4. شهد عهده صراع بين المدنيين والعسكريين من الذين ينتمون إلى تيارين متنازعين داخل الوزارة العراقية، تيار مؤيد للنفوذ البريطاني وتيار وطني ينادي بالتحرر من ذلك النفوذ حيث كان كل طرف يسعى إلى الهيمنة على مقاليد السياسة في العراق. فوقف الملك غازي إلى جانب التيار المناهض للهيمنة البريطانية حيث ساند انقلاب بكر صدقي وهو أول انقلاب عسكري في الوطن العربي، كما قرب الساسة والضباط الوطنيين إلى البلاط الملكي فعين الشخصية الوطنية المعروفة (رئيس الوزراء لاحقاً) رشيد عالي الكيلاني باشا رئيسا للديوان الملكي.

5. كان نوري السعيد يكره الملك غازي ويُـروى عن وزير الخارجية العراقي ناجي شوكت، آن ذاك، قوله :"إن موت الملك غازي جاء نتيجة لعبة قذرة كان وراءها نوري السعيد". (العراق في التاريخ، ص693).

وكان من المعروف تماما أن نوري السعيد هو أحد رجال بريطانيا المقربين ، وقد تولى رئاسة الوزارة أكثر من أي رئيس آخر. ويعتبر أبرز وأقوى سياسي عراقي مخضرم، تكرهه عامة الشعب وتعتبره عميلا للإنكليز.

أن مواقف الملك غازي الوطنية و القومية ، قد أثارت المشاعر الوطنية والقومية للشعب العراقي، فظفر هذا الملك الشاب بحب مختلف طبقات الشعب ، فكان سلوكه هذا قد كلفه حياته شأنه شأن الآلآف من الشهداء الآخرين. 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع