عندهم محطات لتبادل المعارف وعندنا توربينات لتوليد الأحقاد

                                      

بين الغرب والعرب نقطة, لكنها نقطة كبيرة بحجم الثقوب السوداء, التي خلفتها الفترة المظلمة في مسيرة التحضر, يتفاخر الغربيون اليوم بالمعارف, ونحن نتباهى بالمغارف, ونسرف في إقامة الولائم والمناسف.

كنا في البحر نمضي أكثر من أسبوعين في عبور المحيط الأطلسي من رأس الرجاء الصالح إلى ريو دي جانيروا, ونقضي الفترة نفسها في رحلة العودة على ظهر الناقلة العراقية العملاقة (خانقين), كان ذلك عام 1973 عندما كنا متدربين نتعلم مبادئ الفنون البحرية بإشراف الطواقم الروسية. .

أذكر إننا توقفنا مرات ومرات في عرض البحر لنتبادل الكتب مع سفينة روسية أخرى فنرسل إلى طواقمها ما بحوزتنا, ونستلم منهم ما فرغوا من قراءته من مراجع وروايات, ثم نستأنف رحلتنا فرحين بما ستضيفه لنا هذه الكتب من إشراقات معرفية جديدة, وتأكد لنا فيما بعد إن سياقات تبادل الكتب من السياقات المتعارف عليها بين الطواقم الغربية العاملة في البحر, لكنها تكاد تكون مفقودة, ولا أثر لها بين الطواقم العربية. .

أما على اليابسة فقد ابتكر اللندنيون عشرات الطرق لتبادل العلوم والمعارف, وتفننوا في نشرها بين سكان قراهم, من دون أن يترتب على تفعيل هذه الطرق أي تكاليف مادية, فكلها مجانية ومتيسرة للصغير والكبير, ومتاحة لعامة الناس في الفضاءات السكانية المفتوحة. .

من أطرف هذه الطرق, الطريقة الشائعة الآن في القرى البريطانية, وبين الأحياء الريفية, حيث تحولت أكشاك (كابينات) الهواتف العمومية المهجورة إلى محطات ثقافية مصغرة لتبادل الكتب, ويحق لأي إنسان أن يأخذ الكتاب الذي يعجبه, ويترك على رفوف الكشك كتابا آخرا, أو يأخذ كتابا ليقرأها ثم يعيده بعد قراءته إلى الكشك نفسه. .

من المؤسف له ان هذه الوسائل الثقافية القائمة على تعاون الناس مع بعضهم البعض, لا يمكن تطبيقها عندنا في مدننا وقرانا, لا بسبب تفشي الجهل والأمية, ولا بسبب غياب التوجهات التثقيفية عند الناس, وإنما بسبب الإجراءات الأمنية الاحترازية, التي تمنع تداول الكتب المدرجة على قوائم المنع, أو بسبب المخاوف الدينية و الاجتماعية, التي قد تفتح المجال لافتعال الدسائس وتلفيق الاتهامات. .

في لندن أيضا خصصت محطات القطارات ومواقف المترو رفوفاً ليترك عليها المسافرون كتبهم التي فرغوا من قراءتها, أو التي يرغبون بالتخلص منها, حتى يتمكن الآخرون من قراءتها والاطلاع عليها, وبما يضمن تعزيز مكانة لندن كعاصمة للثقافة, وتفعيل دورها في القضاء على الأمية, ونشر الثقافة بين فئة الشباب. .

نحن في مجتمعنا العربي بأمس الحاجة لتشجيع الناس على القراءة. كانت عندنا تجاربنا المحدودة, فقد شرعت صالونات الحلاقة منذ  عقود بوضع المجلات والصحف المحلية القديمة على رفوف صغيرة, ليقرأها الناس في فترات الانتظار, والمثير للسخرية ان المجلات النسائية هي الأكثر تداولا في المقاهي وصالونات الحلاقة الرجالية, تستهويهم اللقطات المثيرة والوجه الحسن, ثم انتشرت هذه الفكرة في صالات الألعاب والمقاهي الشعبية. .

نقرأ دائماً الجريدة نفسها, وأحيانا نجد بعض المجلات المكتوبة بلغات لا نعرفها, دلالة على عدم اهتمام صاحب المقهى, فنتبرع له بالفائض من كتبنا ومجلاتنا, بعد فحصها والتأكد من خلوها من المقالات والصورة المتقاطعة مع توجهات رواد المقهى. .

توجهت أوربا كلها نحو بناء المحطات الثقافية لنشر العلوم والمعارف, وتوجهنا نحن في العراق عشائريا نحو تفعيل برامج (نحو الأمية), بمعنى إننا لن نصل إلى المستوى الذي بلغته أوربا, ولن ننال الدرجة التي تؤهلنا لتبادل العلوم والمعارف بالصيغة الشعبية الشائعة في لندن, لكننا برعنا بتشغيل توربينات الحقد العرقي والطائفي لتوليد الكراهية, وتخصص المتطرفون عندنا بصناعة الموت, وتبادل العبوات الناسفة. . .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

749 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع