"بعض من اوجه الحياة في بغداد بين الامس واليوم..تجليات جميلة في الذاكرة والوجدان"

 

                 

 "بعض من اوجه الحياة في بغداد بين الامس واليوم .. تجليات جميلة في الذاكرة والوجدان"

    

اعتبر كثير من العلماء والمدونين أن مقياس حضارة و هوية المجتمع هي بمقدار ما تنتجه من عادات و تقاليد خاصة بها من جهة و من جهة أخرى هي بمقدار ما توليه من اهتمام ومحافظة على عاداتها وتقاليدها الأصلية و اللصيقة بكيانها الروحي والمادي ومصدر هويتها الثقافية والحضارية عبر مراحل تاريخها الطويل، لأن المجتمع يخضع أفرادها في تفكيرهم واتجاهات سلوكهم إلى مجموعة من التنظيمات المكتسبة و المعروفة باسم التراث الإجتماعي أو الثقافي اوالحضاري، أن التراث لا يمكن أن ينحصر في واحد من مكوناته كما جرت العادة في الفكر المعاصر، بل يتسع ليشمل كل ما له علاقة بين الجماعة والمجتمع والفضاء الذي تعيش أو يعيش فيه، أي أنه يتسع ليشمل الحياة بكل ما فيها من حيوية وتنوع واستمرار، وهي جميع مرادفات لمدلول واحد يشمل ما يوجه الحياة الإنسانية من جوانب مادية وغير مادية، من عادات وتقاليد وقيم و لغة و نظم اجتماعية، إن هذه القوة الاجتماعية في كل مجتمع تختلف عن غيره من المجتمعات بما يميز كل مجتمع ويؤثر في حياة الأفراد و تحيط تفكيرهم واتجاهاتهم وسلوكهم بإطار عام يتحركون في محيطه و بوحيه، أنها مست كل جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية و السياسية والفكرية.. من شعر، غناء، رقص، لباس، طبخ، أعياد، حفلات، فن، زخرفة، نحت، حرف، واعراف.

بعد مروراكثر من عام تقريبا على انتشار وباء الكورونا، وفيه افتقدنا، بعض من الاحباء والمعارف، وحفلات الزفاف، والحفلات الخاصة والمزيد من المتع البسيطة، وفيه ايضا تعمق الشعور بالوحدة نتيجة التباعد الاجتماعي من خلال البقاء في المنزل وعدم الاختلاط بالاخرين، كما اعاق الوباء المعانقة والقبل، جمعتنا جلسة مع صديق على ضفاف بحيرة خالد في احدى مقاهيها الجميلة، ونحن في موسم نهاية الربيع الجميل بشمسها الدافئة، والمنعشة بنسمات هوائها العذب، نتجاذب اطراف الحديث، عن الحنين إلى الوطن ومايدخره الانسان المغترب من الذكريات و المشاعر تجاه وطنه و رسوم المكان الذي امضى بين حناياه طفولته وصباه وشبابه ، يظل الحنين يحمل لوعة الفراق القسري، هي بالغة الايلام بوصفها معاناة لاتنتهي وتشكل هوية وجود الكائن الانساني .. السلام على الوطن الذي تعلمنا أن نحمله منذ لحظة فراقه حتى لحظة الرحيل الابدي، عدنا الى الذاكرة من زمننا المفعم بالحيوية والنشاط واوقاته الذهبية وكأنها حلم تبعث فينا الحنين نظرا لانها حياة عذبة وصافية رغم بساطتها، فقد كان زمنا جميلا يعبر عن الحياة الكريمة ويعطي الانسان مكانته وكانت فيه اجواء السعادة والراحة، ذكريات تداعب افكارنا وعقلنا عما كانت عليه، فهذه الذكريات كانت سوانح سريعة تمر في خاطرنا مرور نسائم الأثير المنعشة في هذا الجو الجميل هنا في الامارات المزدهرة والمفعمة بالأمن والامان بامتياز .

                                        

بغداد عاصمة العباسيين ومنارة الدنيا ودار السلام التي شيدها المنصور العباسي في العام الهجري 145، وقد استغرق بناؤها خمس سنوات لتتحول إلى مركز للثقافة العربية والإشعاع الإسلامي إلى كل الدنيا رغم أن خيول الأجانب وطأت ترابها لأكثر من 20 مرة تفيق بعدها وتسطع من جديد، كانت بغداد على مر الزمان هى مركز الإشعاع والنور وقاعدة للرقي الانساني والحضارى، حتى و إن تعثرت فى مسيرتها الحضارية فى حقب عديدة من محطات الزمان، والماضي مملوء بالقصص والعِبَر والإنجازات عن مجتمعه . . هناك رجال ونساء من الماضي؛ ولكنهم مازالوا يعيشون بيننا، وهناك ما هو أكبر من ذلك، لقد رأينا فيهم القدرة والحكمة منهم من كسر حاجز الزّمن بانجازاته، لتعيش كل الأزمان، وسوف تبقي تلك إلأنجازات خالدة في ذاكرة الشعوب.

       

بغداد فيها كل شيء له نكهة، جميلة جدّاً، جميلة بناسها وبشوارعها المضاءة ليلاً وبنيانها وبساتينها، التي يرويها نهر دجلة الذي كانت ضفافه مكاناً للنزهة والسيران لأهالي بغداد، أي قبل خمسين سنة، فكانت الحياة في بغداد أجمل وأحلى وأبهى، أن بغداد من الناحية الأيديولوجية، عاشت القرن العشرين مستقلةً دينياً إلى حد ما، أو تكاد، بالتالي حمت نفسها مبكراً من أيديولوجيات الاحزاب الدينية، العهد الملكي تبنى العلمانية والدفاع عن فكرة إقامة الدولة المدنية بوضوح، ومن دون نفاق سياسي، حين نتأمل المثقف العراقي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الاحتلال، سنجده يتميز بتطلعات نوعا ما واضحة المعالم مهما كان انتماء يسارياً أو قوميا أو ليبرالياً ونوعا ما اسلامياً، وكان نهوض الحركات السياسية كلها وبروز الاحزاب القومية واليسارية، وما رافق ذلك من صعود الإنتاج الثقافي، في الرواية والشعر، والقصة..حيث عكست النزعة الانسانية، وارتفاع درجة الشعور بالأمل في الوعي البشري، وكان للثقافه والمثقفين العراقيون دورا بارزا فى العراق بعد ثورة 14 تموز، شكلت ولسنوات طويله وعى للعراقيين والعرب جميعا وآثرت فى المكون الحضارى فى فترة الخمسينات والسبعينات من القرن العشرين، ولكن نوعا ما منطق الأقصاء والتبرير والموالاة والمعارضه للسلطه لم يغب عن المشهد بل كان له بعدا ملحوضاً، فقد ظهرت بواكير الإقصاء للآخر لعبت فيه الدوله دورا كبيرا لكن الدور الأكبر كان بين المثقفين أنفسهم على إختلاف مشاربهم الثقافيه والفكريه فقد مارسوا ضد أنفسهم أبشع اساليب الإقصاء وعدم قبول الآخر لكن ذلك لم يعوق الإنتاج الأدبى والفكرى والثقافى الغزير الذى ساد إبان العهد الجمهوري،

    

فالمعروف بان العراق كان اشبه بالمصنع الذي ينتج الثقافة، منذ العصور التاريخية، ورائداً لتصدير منتجاته من الأدب والفنون بتنوعاتها المختلفة، من الرسم والنقش والنحت، والموسيقى والغناء، فكانت له إسهامات كبرى فى حركة التنوير والإبداع والفكر، بعد الحصار وما تبعه من احتلال، قد حدث تراجع عام وأصبح إختفاء المثقفين المفاجئ من الساحه شيئا معتادا وسط تراجع كامل للحياة الثقافيه التى تراجعت بشدة بعدما أصبح التعليم وسيلة للترقى الحكومى وألتحقت به الثقافه وصارت حكرا على المتحلقين حول السلطه حتى توارى الإبداع وأصبح الدخول لمساحة الضوء والشهرة المرتبطين بالإبداع يجب أن يمرعبر أبواب السلطه.

      

    تتشابه بيوت بغداد القديمة في تفاصيل رئيسية بتصاميمها وبجماليتها ودقة تفاصيلها وطرق بنائها ويعد الخشب عنصرا رئيسيا في بناء البيوت، معظم البيوت البغدادية مكشوفة بصورة عامة وغالبا ما تكون مربعة الشكل وحول (طرام) جمع (طرمة)، مقسمة الى الحوش، وغرفة الخطار، كما انها تتألف من طابقين يشتمل الاول على مدخل البيت فانه يتناول الباب المطل على الزقاق، ويستعمل من خشب التوت، تزينه مطرقة من البرونز أو الحديد في الأعلى، وهي ذات طلاقة أو طلاقتين،

       

كما تدق على الباب مسامير كبيرة للحفاظ على متانته وجماله، ثم ممر صغير (المجاز) وهو الذي يصل بين مدخل الباب وفناء الدار وغالبا ماتكون في المجاز دكتان واحدة على اليمين والثانية على اليسار، وعليه ستارة من القماش تحجب من في الداخل عند فتح الباب،

                             

وقبل استخدام الثلاجة الكهربائية، استخدمت الثلاجة الخشبية او "الحب" وكان مكانه يواجه (المجاز) فيه محامل خشبية مصنوعة من خشب التوت، وقد صمم محل بيت الحبوب مقابل المجاز حتى يصله تيار الهواء من الدربونة فيزيد في برودة الماء، وتحت الحب توضع (البواكة) ولجمع (مي الناكوط) ويكون صافيا جداً، واستخدم (الناكوط) في شرب الشاي عند انتشار الشاي مطلع القرن العشرين ويستسيغ البغادة شرب الشاي في الهول ( ويسمى ايضا الطرار بلهجة اهل الاعظمية ) وهي غرفة مستطيلة الشكل جبهتها المواجهة لفناءالدار مفتوحة ويرفع سقفها عادة بأعمدة خشبية مضلعة الجسم ومنقوشة الرأس يجتمع فيها افراد العائلة وهي تمثل الصالة (الهول) في البيوت الحديثة المعاصرة، فالانفتاح صوب الداخل، بحيث تحقق بذلك الخصوصية والاستقلالية وفي الوقت ذاته الحماية المناخية،

    

وبعض البيوت لها سرداب يستخدم لقضاء ساعات القيلولة في موسم الصيف القائظ ، ويكون السرداب منخفضاً عن أرضية فناء الدار بمقدار (10) أو (15) پاية أي درجة، وسقفه معقود بمقرنصات بديعه، وفي منتصف السرداب توجد فتحة ترتبط بممر يؤدي الى فناء الدار،

    

الطابق الثاني يكون (المحجر) وهو حاجز يصنع من الخشب والشيش الحديدي وغطاؤه من الخشب حيث تعمل بعض الزخارف بلوي الشيش الحديدي واركان (المحجر) الاربعة تكون كروية الشكل (مجروخه) وتسمىر الرمانات، وفي الطابق الثاني تكون غرف النوم حول ساحة الدار وفيها الشبابيك ذات الزجاج الملون والشبابيك المطلة على الخارج (الشناشيل) ويوضع فوق شباك الجام شباك اخر من الخشب معمول على شكل مشبك تحافظ على جو الغرفة وتمنع دخول الشمس في فصل الصيف.

    

بعد الثلاثينات من القرن الماضي توسعت بغداد خارج سورها القديم فظهرت الكثير من التصاميم المتنوعة، لبيوت بغدادية جمعت واجهاتها بين الحداثة الأوربية، والتراث المعماري المحلي في توليفة جميلة تفاعلت ما بين التكنولوجيا والحاجة الاجتماعية، وشاعت في تلك الفترة اسلوب بناء البيت السكني وفقاً لما عرف "بالبيانات المصورة " (الكاتلوغات)، وهو اسلوب لقى انتشاراً واسعاً من قبل مكاتب بنائية تعنى بتقديم انواع مختلفة من التصاميم المعمارية المنشورة في هذه (الكاتلوغات). ويترك للزبون حرية اختيار التصميم الذي يناسبه، وتتسم تصاميم هذة البيوت التى كانت تتبع الاسلوب التولـيفي على استخدامات كثافة زخرفية واضحة، وتوظيف واسع لمفردات معمارية قد تكون غريبة عن تقاليد المنطقة العمرانية المحلية، لكنها (اي تلك البيوت) ظلت بلغتها التصميمية الجديدة، تمثل نموذجا معماريأ حداثياً،

       

طمح كثر من البغداديين، ان يكون المنزل المستقبلي، الذي يأملون في العيش به، كان ذلك جلياً في البيوت التي شيدت في مناطق خارج سور بغداد، ومنها الوزيرية والعلواضية والعطيفية وكرادة مريم والمنصور والسعدون والكرادة والبتاوين والعرصات وهكذا، شملت تلك البيوت حدائق غالبا ماتزرع باشجار مألوفة، مثل النخيل والحمضيات والاوراد، حيث الأشجار تغطيها الزهور الملونة والبراعم النامية التي يفوح منها أريج القداح والطلع والجوري والرازقي والقرنفل والياسمين لتدخل العائلة في جو من النشوة اللذيذة والراحة النفسية تجد البعض يدخل عالم التأمل والشعور بالرضى والسكينة، وكان الكثير من الحدائق ذات ذوق وعناية تدعو الى الاعجاب، في موسم الربيع حيث تزهر الأشجار والنخيل فتملأ الجو الندي بالعطور ألأخاذة والألوان ألآسرة وزقزقات العصافير وهديل الحمام وطنين النحل ورفرفة الفراشات، وكان الكثير من تلك البيوتات الجميلة ببنائها وحدائقها العامرة ، تمتلئ بأخبار رجالها وجلساتهم في الربيع وحتى في الخريف وهم يستمتعون بالاحاديث وسماع الشعر والطرب، كما كان النساء يتمتعن بجلسات قبولاتهم فيها.

        

           عائلة بغدادية تتناول العشاء على السطح

كانت المنازلمكاناً للمحبة والحنان والتفاهم والتعاون وهو يضم أفراد الأسرة الكبيرة التي تتألف عادة من الجد والجدة ومن البنات والأولاد والأحفاد، تعيش في جو لا تقتصر على البيت بل تتجاوزه إلى الحارة التي تؤوي العديد من البيوت والعائلات المتحابّة والمتآلفة، لتشكل أيضا عائلةً وخليّة واحدة أكبر من سالفتها وصولاً إلى الحارات التي تتعانق لتشكل الأحياء، التي تعشش في الذاكرة بكل ما فيها من محبّة ودفء وألفة وأمان، متنعمين بسحر العادات والتقاليد الأصيلة المتوراثة عبر الدهور، باختصار كانت " بغداد" عائلة كبيرة واحدة يخيم عليها الحب والتسامح والتراحم والتآزر، كما اتسم بأن ابنائه عاشوا في الفة ووئام ومظاهر التعصب الديني غير موجودة فيه، اذاً كانت العلاقات الاسرية قديما اكثر قوة وتماسكا عن وقتنا الحاضر، فقد كان هناك وقت للحوار والحديث بين افراد الاسرة، بينما الان اختفت لغة الحوار والنقاش، ربما بسبب النمط السريع للحياة وانه لم يعد هناك وقت للحوار فمابين انشغال الوالدين وانخراطهم في العمل والسعي المستمر لتحقيق حياة افضل للابناء، وبين انجذاب الابناء لوسائل التكنولوچيا الحديثة والانعزال التام عن العالم الخارجي، لاسيما ان التكنولوچيا اصبحت تؤثر بشكل لا يستهان به على العلاقات والروابط الاسرية بشكل مبالغ نتج عنه سلوكيات مختلفة وسلبيات طغت على ايجابياته.
لقد أختفت كثير من حدائق البيوت في أغلب محلات بغداد بعد أن جرى تقسيم البيوت بمساحات صغيرة وصلت الى الخمسين مترا ناهيك عن البناء العشوائي وزحفه ليشمل الكثير من مناطق بغداد، كما تم الاستيلاء على أراضي المنتزهات وتوزيعها للمسؤولين كما حدث في طريق المطار وقناة الجيش واماكن أخرى يعرفها ساكنوا بغداد،

    

كما تعرض التراث البغدادي إلى التدمير وتتشوّه معالمه بسبب الإهمال الرسمي الكبير الذي لحق به خلال السنوات الماضية، فقد دُمرت منازل بغدادية تراثية كثيرة بهدف اقامة مشاريع تجارية، و اختلطت أكياس النفايات المتروكة على الأرصفة المتسخة يتوسدها بعض المتسولين والعاطلين.

      

مارس ابناء المجتمع البغدادي الكثير من الالعاب ذات الطابع الفردي و الجمعي بهدف التسلية منها، التوكي والمصرع وجر الحبل وكرة القدم والختيلة والسباحة والعسكر والحرامية، وتمرسوا على اساليب وفنون اللعبة بما فيها الكشافة.

        

في الايام الصيفية اعتاد اغلب العراقيين النوم فوق سطح المنازل، وهو تقليد يتلاشى، تصاحب هذا التقليد الاجتماعي ببعض الطقوس والممارسات، ، وتقوم ربات البيوت والأولاد برش السطح بالماء يوميا من بعد غياب الشمس لتخفيفه من الحرارة وترطيبه، ويتهيأ أهل الدار للجلوس بعد المغرب حتى أذان العشاء فيه،

   

ويكفل افراد العائلة ولا سيما البنات بحمل الافرشة والاغطية وقت المغرب واملاء التنكة بالماء، وفي الليل تلجأء الاسر تحت السماء الصافية بنجومها المزدهرة التي شكلت في صفحة القبة السماوية كنجوم خريطة دقيقة للاتجاهات وتسجل الوقت بدقة متناهية، والمستلقون في سطوحهم يرتبطون بهذا المنظر يوميا حتى بات من كثرة قراءته مادة محفظة عن ظهر قلب يتقنون ما يجري في نجوم سمائهم دون دراستها من الكتب وهي دراسة صيفية على الطبيعة لعلم الفلك والجغرافيا.

   

كانت بغداد فيها عددا كبيرا من المقاهي العريقة التي يعود تاريخ إنشاء بعض منها إلى القرن التاسع عشر، ويطل أغلبها على الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية القديمة، ويذكر أن فترة العشرينات من القرن الماضي شهدت ازدهارا كبيرا للمقاهي، وكان معظمها يقع على شارع الرشيد،، ومن اشهرها الزهاوي والشابندر وخليل والبلدية و حسن العجمي والبرلمان وخليل والبرازيليا ..، وشهدت معظم هذه المقاهي أحداثا هامة، حيث تشكل فيها العديد من الأحزاب والمنتديات الفكرية والسياسية، "منتدى ثقافي وسياسي واجتماعي" لعدد كبير من الأدباء والمثقفين، كما دونت في فسحاتها الكثير من قصائد الغزل، فيما شكل تراثها المعماري مادة خصبة للكثير من الفنانين.

       

من قلب بغداد النابض بالحياة، ومن أحد محلاتها التي تحكي كلٌ منها حكاية تاريخ متنوع مليء بالحضارة والأحداث والسحر، شارع الرشيد كان نبض بغداد وروحها النابضة ذاع صيته في البلاد العربية وخارجها يختزن شارع الرشيد ذكريات العديد من العراقيين، ولا سيما من عاش الحقبة الذهبية للشارع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، في هذا الشارع خليط جذاب من كل العراق، هنالك الغني والفقير، الطلاب والأغنياء والشحاذون، وجدل بيزنطي ومقاهي التي تزدحم بالشباب ولا سيما طلاب أي كليات الطب والهندسة وغيرها والتي تستقبل نشاطات ثقافية عديدة: موسيقية، أدبية، شعرية وحتى ترفيهية، فكيف لا أحب شارع الرشيد، كان شارع الرشيد يشهد ازدحاماً من السياح، لكنه كان أيضاً مقراً لحياة ثقافية نشيطة، فالمقاهي «الثقافية» عادت لتشغل زوايا الشارع، ويعد مقهى الشابندر والزهاوي من بين المقاهي القليلة الباقية في منطقة الميدان وبداية شارع الرشيد والتي تجمع بين سمات المقهى القديم والحديث في آن واحد، فطاولاته وكراسيه الخشبية حولها تجمع عددا كبيرا من الفنانين والمثقفين، إضافة إلى كبار السن والمتقاعدين.

             

من ناحية أخرى، لا يمكن لمن يزور شارع الرشيد في منطقة رأس القرية إلا أن يقوم بزيارة مكتبة مكنزي، وتحت بناية "بيت لنج" ذات العمارة البغدادية المميزة والجميلة، كانت تشغله "مكتبة مكنزي"، التي اسسها الاسكتلندي كينيث مكنزي عام 1920 وهي اقدم مكتبة في العالم العربي، نعم كان لها مكان في قلب العاصمة كما لها مكانة في قلب كل مثقف وقاريء، المكتبة توفر الكتب المدرسية والتعليمية والعلمية والادبية والثقافية والادوات المختبرية، بالاضافة الى جميع الكتب الانكليزية الخاصة بالعالم العربي الاسلامي من كتب رحلات وتاريخ وتراث ونشرات ودوريات حيث اصبحت المكتبة متخصصة في الاسلاميات والتاريخ والرحلات، منذ العشرينات .. مكتبة مكنزي تتسلم شحنات الكتب من دور النشر في بريطانيا والولايات المتحدة، وكان صاحبها يرتبط بصداقات مع العديد من الأدباء والشخصيات المهمة في العراق.

وفي العام 1928 توفي مكنزي ودفن في المقبرة البريطانية في الباب الشرقي ثم انتقلت مكتبته فيما بعد الى شخص عراقي وهي لا تزال قائمة في ذات المكان ، ولطالما وقفت أمامها عندما كنت فتى يافعاً أتأمل واجهتها المليئة بالكتب القيمة، التي يديرها رجل اسمه كريم ورثها من أصحابها الإنجليز الذين كان يعمل معهم منذ تأسيس المكتبة قبل الحرب العالمية الثانية، واحتفظ بالاسم الذي به اشتهرت المكتبة، حتى بات هو نفسه، على ما روى جبرا في مذكراته «شارع الأميرات»، يعرف باسم كريم مكنزي، التي كانت يومئذٍ تحوي أنفس الكتب والمطبوعات، واستمر حضورها الثقافي حتى أواسط تسعينات القرن الماضي، قل نشاطها بفعل ظروف الحصار المفروض على العراق، غير أنها لم تغلق أبوابها نهائيًّا، على أمل أن تتحسن الظروف لتعود إلى نشاطها، لكن الاحتلال الأميركي – الإيراني، وما نتج عنه من دمار وما عرفت فيه بغداد من تخريب، أنهى كل أمل بعودتها، فتحولت أخيرا إلى مخزن بائس للبضائع، ثم محلا لبيع الاحذية، ولا ندري قد تصله معاويل الهدم والازالة.

       

محلات اورزدي باك أسم تاريخي كبير، انشأت على ارض وقف قره علي والتي كانت عبارة عن قهوة ومسافرخانه و مربط للخيل وهي ارض واسعة المساحة، بالقرب من تكية ومدرسة قرة علي، افتتحت في بداية الثلاثينات، وهي اكبر الاسواق التجارية في بناية، ارتبطت به أذهان اللعراقيين لفترة طويلة، ولازالوا يذكرونها، التي كانت تعرض كل المنتجات والبضائع المستوردة من ارقى واحدث المناشئ بالعالم، والتي تحتاجها الاسر البغدادية من الطبقات المتوسطة والغنية، في أقسام متعددة تبيع بضائع متنوّعة، للملابس وأخرى للأحذية والمصنوعات الجلدية أو للمواد المنزلية أو للمواد الغذائية والاقمشة وغيرها، إذ كان شراء سلعة منها مصدر فخر للكثيرين، في فترة السبعينيات أممت الحكومة العراقية محلات أوروزدي باك، وأصبحت ملكاً للدولة تحت اسم: "الأسواق المركزية"، وفتحت لها فروع في عدد من أحياء بغداد مثل الكرادة والمنصور والعدل والشعب والبلديات، ثمّ فتحت لها فروع في المحافظات، ولا يمكن لأحد أن يقلل من أهمية محلات أوروزدي باك الّتي واكبت ولا شك دخول المجتمع العراقي "أو على الأقل المجتمع البغدادي" في الثقافة الإستهلاكية، والتي تحتل مكانتها في ذاكرتنا الجماعية.

        

     
تغيرت ملامح شارع الرشيد وتحول إلى مكان لا يمثل من تاريخ بغداد إلا الشيء البسيط، وذلك بعد زوال العديد من لأبنية البغدادية الجميلة، حيث دمرت على مرأى من سادة السلطة الذين لم يبدوا اهتماماً بذلك، هو في الوقت الراهن يحتضر وتحول إلى مكان لرمي النفايات، فالمدرسة المستنصرية تعرضت للتشويه بعد صيانتها إذ أضيف إليها مثلاً أنابيب بلاستيكية لتسريب مياه الأمطار التي تتجمّع على سطحها، فالعديد من المقاهي التراثية مثل مقهى الزهاوي الذي كان يجلس فيه جميل صدقي الزهاوي، ومقهى الرصافي والذي كان يرتاده معروف الرصافي ومقهى الشابندر وغيرها هذه المقاهي تعيش اليوم حالة يرثى لها، كما ان تمثال الرصافي محاط بالنفايات وهو ينادي اغيثوني، علماً أن هذا الشارع احتضن فنادق وسينمات ومنازل بعض الشخصيات العراقية المعروفة من ثلاثينيات حتى ستينات القرن الماضي.
كانت تقام في المجتمع البغدادي العديد من مناسبات الافراح التي تختلف في مظاهرها الاجتماعية باختلاف الفئات العرقية والدينية، وكيف كنا نتسابق للقاء الأهل والأصدقاء، وفيها مشاركة لمختلف فئات المجتمع البغدادي حيث تشعر مدى التآلف والتآزر.

   

لقد كان لبعض النسوة مكانة علمية وتربوية وفنية فظرت منهن الطبيبات والمربيات والمعلمات والفنانات والمغنيات والشاعرات والرياضيات، كما كان لبعضهن دور اجتماعي نشيط في مشاركة الرجال لبعض الاعمال، وفي معظم الانشطة الاجتماعية.
لعبت المطاعم دورا مهما في حياة سكان بغداد، فمطاعم بغداد متنوعة جدا، منها حديثة ومنها من اصالة الماضي، لها سحر وعراقة الماضي وأصالة التراث ممتزجة مع نفحات من الحاضر وتراث المدينة المطرزة على جدران وحجارة الأمكنة التي تروي قصصا لا تنتهي عن عشق أهلها لهذا الإرث التاريخي العريق والمتجدد، وعكست صورة بغداد كما أحبها العراقيون، وجسّدت معاني عبارات حفرت في وجدان العراقيون منذ ولادتهم عن مدينتهم التي لا تموت وجوهرته على الرغم من الحوادث التي شهدتها، فالعوائل البغدادية تعشق الطعام والمتيسرة منهم يرتادون المطاعم الراقية والمشهورة بأناقتها وجودة مأكولاتها كما يرتادها الدبلوماسيون والسواح ومدراء الشركات الاجنبية، ومن المطاعم المعروفة، مطعم خان مرجان الذي يقدم الاكلات العراقية مع الموسيقى الشرقية والمقام، وهو بناء تراثي جميل كان فيما سبق خان، ومطعم "فاروق" قرب معرض بغداد الدولي والذي يملكه السيدان (فاروق الياسين) الضابط في الحرس الملكي سابقا و(هاشم الشابندر)،

    

ومطعم "فوانيس"في الباب الشرقي والذي كان يملكه الاخوان رعد وسعد الخضييري، ومطعم ا"لبرمكي" الواقع على ساحة الفتح مقابل المسرح الوطني ويقدم فيه وصلاته الغنائية الفنان "الهام المدفعي"، ومطعم "ستراند" في شارع السعدون من جهة العلوية

   

و يقابله على الجهة الاخرى عبر شارع السعدون، مطعم "الشموع" المشهور بتقديم الاكلات الأجنبية والتي كانت من مطاعم الدولة السياحية ، ومطعم "الأناء الذهبي" و"مطعم المطعم)" في منطقة العرصات، ومطعم "خان دجاج" المشهور بتقدبم الدجاج المشوي قرب بوابة نادي العلوية مواجها لساحة الفردوس،ومطعم "الكهف"، ومطعم "علي شيش"، ومطعم ، ومطعم "نزار"، ومطعم "تاجران"، ومطعم "شباب الكرخ"، ومطعم "الشمس"، ومطعم "فوانيس"، ومطعم "السعدون" المتخصص بالكريم جاب، ومطعم "أبو حقي" في سوق الصفافير، ومطعم أبن سمينة، ومن الأطعمة المفضلة اللذيذة والمفضلة اكلة الكباب وهي اكلة الباشواتوالفرسان كما يطلق عليها، ولهذا فقد اشتهرت مطاعم خاصة لتقديمه منها، كباب ألأخلاص في شارع المتنبي وكباب الفلوجة وكباب زرزور وكباب هبوبي في الاعظمية وكباب سوق الاسترابادي في الكاظمية وكباب نينوى في المنصور وكباب نادي صلاح الدين وكباب الجنابي في راغبة خاتون.

    

تميّزت بغداد الساحرة بالوانها وتنوعها واجوائها بوجود بارات ونوادٍ، وأنشطة ترفيهية ليلية، فهناك النوادي الليلية كالطاحونة الحمراء وسليكت والامباسي وعلي بابا وبغداد والاوبرج وليالي الصفا ومطهم المطعم وحمورابي وعبد الله وجوهرة الشرق واريزونا، والبارات فيتامين و21 والكرفان وليالينا في فندق بغداد.

             

   في سبعينات القرن الماضي اشتهر شارع ابو نؤاس، وعلى جانبيه الأشجار الشاهقة المتنوعة الممتدة حتى نهايته قرب الجسر المعلق، هذا الشارع الجميل منحه لهفة تقاطر العشاق والعوائل ارتياد متنزهاته، كما منح كافة شرائح المجتمع ومنهم الادباء والشعراء والفنانيين والأجانب ارتياد مقاهيه ومطاعمه وباراته، والتي تستقبلهم حتى أوقات متأخرة من الليل، ومنها:

كاردينيا، السلام، البيضاء، البغدادية، الزرقاء، الخضراء، الركن الهادئ، الشاطئ الجميل، وفي الليل تضيف أضواء أبي نواس على تموجات مياهه الهادئة واشجاره الكثيفة وحدائقه المترامية ألقاً خالداً لنسمات الهواء المنعش المفعم بعطور الورود يصعب تكرار ليل ٍ كهذا في مكان غيره، هناك المطاعم الفخمة والانيقة ومنها مطعم "الياقوت" التي تقام فيها حفلات وأماس لكبار المطربين المشهورين في البلاد بينهم سعدون جابر وحسين نعمة وآخرين.
شارع ابو نؤاس امتداد ليلي لشارع الرشيد باعتبار ان جلساء مقاهي الرشيد في النهار ينتقلون الى حانات ومقاهي ابي نواس.

    

اشتهر شارع ابو نؤاس بمحلات شوي السمك المسكوف، التي يرتادها العراقيون والعرب والأجانب، من لم يتذوق السمك المسكوف فی أبو نۆاس فانه لم یر بغداد، هكذا يردد زوار العاصمة العراقية، ومن لم تستوقفة رائحة الشواء المنبعثة من المطاعم المصطفة على امتداد كتف الشاطىء، تلك الاكلة الفلكلورية العريقة، التي تتربع على عرش الاكلات العراقي،

    

والسمك المسكوف ليس مجرد اكلة تحمل عبق الذكريات، انما هي تقليد له نكهته التي ارتبطت بشاطىء دجلة وبشارع ابو نؤ اس، حيث يجتمع الاهل والاحبة والاصدقاءالتي، تأتي للاستمتاع بأكلة السمك المسكوف الشهية وتبقى حتى ساعة متأخرة من الليل، واصبحت بمرور الزمن هوية للعراقيين في كل بقاع العالم، وكما يتذكر الكثير عندما اقام الرئيس الراحل صدام حسين عندما كان نائباَ لنظيره جاك شيراك دعوة عشاء مكونة من السمك المصطاد من نهر دجلة والمشوي على الطريقة البغدادية (المسكوف)، حيث تم إحضار خيرة سكافة بغداد، مع السمك الحي المصطاد توا، بطائرة خاصة إلى باريس، وأعدوا بحديقة الإليزيه الوجبة العراقية الأكثر شهرة في العالم، اغلق الشارع على خلفية الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 واستمر اغلاقه لسنوات عديدة، تعرض مطعم (قدوري ابو الباجلا) الى تفجير انتحاري لقوى التخلف والجهل مما ادى الى استشهاد العشرات من الابرياء، كما شنت حملة مشبوهة ومتخلفة لتهديم تمثال الشاعر أبي نؤاس، حيث تم تخريب قاعدته واقتلاع اللوحات النحاسية المنحوتة التي تعرف به وبالفنان الذي أبدعه، وهو اسماعيل فتاح الترك دون أن تحرك امانة العاصمة اي فعل يذكر، والان يواجه الشارع حملة لتغيير بعض من معالمه ومنها ازالة الحدائق التي اشتهر بها.

   

وفي السبعينات والثمانينات افتتحت مطاعم متميزة منها الغريب وقرطاج وقيراط والمطعم الصيني والهندي والايطالي، كما اشتهرت مطاعم فندق "بغداد والميريديان فلسطين وعشتار شيرتون والرشيد وبابل وميليا المنصور"، بالاضافة لمطاعم النوادي الاجتماعية "كالمنصوروالضباط والصيد والهندية والعلوية وصلاح الدين والمشرق"، ونوادي النقابات كلاطباء والمهندسين والمعلمين والمحاميين والزراعيين والجيولوجيين والصيادلة.

    

وللباجة مكانة خاصة لدى العراقيين، فبالاضافة لاجادة المرأة العراقية لطبخها في المنازل، فمع ذلك يفضل البعض بتناولها في المطاعم، وكان هنالك مطعمين مشهورين لتقديمها وهما مطعم "الحاتي" في الرصافة و"ابن طوبان" في الكرخ، احب العراقيون البرجر، فهو من الوجبات المفضلة لدى الكبار والصغار على حدٍ سواء، ينفرد بمكوناته البسيطة ومذاقه الشهي،

        

فقد اشتهر بتقديمها منذ الستينات "ابو يونان" ، في جهة الرصافة الواقع في منطقة الكرادة، لصاحبه السيد "بطرس أوديشو" الذي بدأ بكشك صغير تابع ل (كوكا كولا) فتقوم بتجهيزه بقناني الكوكا ليبيعها مع الهمبرگر وينجح في مشروعه هذا فيقوم بشراء الأرض الخالية التي خلفه ويبني عليه محله الشهير "همبرگر وگص أبو يونان"، ومنذ ذلك الوقت عشق العراقيون البركر، ثم اشتهر صديقنا السيد "علي اللامي بمطعمه واسواقه المشهورة في الجادرية.
كان الكثير من البغداديين يرتادون المطاعم الشعبية في حارات ضاقت على المارة لكنها اتسعت بالمحبة يأتي الناس من كل الأماكن للاستمتاع بأجواء المدينة محلات بغداد القديمة، بدءا من الصباح ومع وجبات الفطور وحتى ساعات متأخرة من المساء يجمعون بين التاريخ والأصالة وروح الحضارة المتجددة التي ترفد شرايين محلات بغداد، كان الجلوس في هذه الأماكن القديمة يمنحنا الاحساس بالتفاؤل والأمان لذلك كنا نحرص على أن نأتي وأصدقاؤنا للاستمتاع بهذه الأجواء فنحسب نفسنا وكأننا مع عائلتنا الكبيرة، كان الشباب يستمتعون بتناول وجبه عشاء شهيه في حاره ضيقه ومزدحمه من مناطق الاعظمية والكرخ وشارع الكفاح وشيخ عمر والجعيفر والسفية والحارة والباب الشرقي والسعدون،

    

وأحيانا تجلس بجوار غرباء علي نفس الطاوله لعدم وجود اماكن شاغره، في سبيل تذوق الطعم الحقيقي للكباب والتكة والمعلاك، ولمحبي اكل الشوارع الشهي والرخيص،

    

هناك مطاعم اخرى صغيرة تنتشر في مناطق بغداد تقدم انواعا مختلفة من الاكلات التي اعتاد العراقيون تناولها وقت الفطور مثل "كبة السراي" في سوق السري و "الجلفراي" وهو خليط من اللحم والطماطم، اما "المخلمة" فهي الأكلة المفضلة للكثيرين منا، لانها سريعة الاعداد، ولها طعم يختلف عن باقي الاكلات ولاسيما في الصباح، وتشريب "الباجلا" المقشرة والمغطاة بالبيض المقلي بالدهن الحر وشرائح الطماطم مع قطع النارنج الذي يعصر فوق الطبق المغطى بـالبطنج والبصل والطرشي، والتكة والمعلاك، ثم يتبع ذلك الشاي الساخن المخلوط بالهيل..
بينما قامت أغلب الدول ذات الإرث الحضاري بحماية تراثها من الاندثار، بل ساهمت في تنميته واستثماره استثمارًا اجتماعيًّا واقتصاديًا، من خلال تطوير وظائفه وأغراضه للتعايش مع واقع العصر، ولتصبح هذه الحرف عنصرًا جماليًّا يثير الحنين إلى الماضى حيث كانت الحياة تقوم على التضحية والعمل والاخلاص، فلا يمكن أن ترجع الأيام والحياة الماضية بظروفها، فالأشياء تتغير وتتأثر بمتغيرات حياتية عديدة، فالمتابع لاحوال بغداد في فترة مابعد الاحتلال وليومنا هذا يتعجب مما آل اليه الامر، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتراثية، فبينما الدول من مشارقها الى مغاربها تندفع نحو المستقبل وفق خطوات تختلف من مجتمع الى اخر، وقد تخلص من من العراقيل الاجتماعية والفكرية في خطى ثابتة نحو تحقيق سعادة الانسان، بينما عند مجتمعنا لا تزال تمضي بحلقة مفرغة، حيث تستنفذ طاقاتها وامكاناتها في بث سموم الطائفية والمشاحنات والصراعات الدموية احياناً.
فمن عاش في هذه المدينة الساحرة بروحه وعقله وجسده لايمكن أن ينسى لحظة واحدة من لحظاتها العذبة الجميلة، فترابها ومائها عطرا خاصا يحسبه عشاق بغداد دليلا خاصا يرشد نحو مدينتهم الحبيبة.

اليوم بعد ان غابت صور بغداد الاصيلة، أصبحت هذه المدينة الجميلة منذ الاحتلال الامريكي – الايراني والدخلاء والطارئون عليها، أشبة بالضيعات المنفلتة أو بالثكنات الميليشياوية، التي ارتدت وشاح الطائفية والمذهبية التي نخرت البلاد وأفسدت تفكير العباد وأضاعت خارطة الوطن وبوصلة هويته، الذين لا يعرفون إلا لغة العنف والإرهاب، بل صاروا يتطاولون عليها اكتسحوا كل القطاعات بطرق ملتوية، وعاثوا فيها فسادا ما بعده فساد، وضاعت كلمة الحق واستعيض عنها كل ما هو باطل ومتخلف، وأصبحت المروءة مقذوفاً بها من أعلى شرف إلى أسفل درك، افتقدنا الصدق والثقة والمروءة، وغابت رائحة الورود والحمضيات التي كانت تملأ شورعها وازقتها أيام الرخاء والتنمية والتطور، حين كانت المدينة نظيفة من هؤلاء وأشكالهم.

الا تستحق بغداد الجمال والمحبة، ان نكتب عنها وهي مبعث الفكر والعلم والامجاد، فالقلب يحترق كمدا على بلد تم تقزيمه إلى أن أضحى لا يرى حتى بعيون أبنائه فضلا عن أبناء الآخرين.
الا تستحق بغداد لوحة تبين بيوتاتها ومقاهيها ومطاعمها وجوامعها وكنائسها وشوارعها وحدائقها وبساتينها واهلها الطيبين .
بغداد، يا دجلة النهر الذي يسقيها ويحيطها ويحضنها كأنها شجرة غصونها تبعث الحياة لساكنيها.
بغداد تبقى لوحة في القلب مطرزة بصور علمائها وبناتها وشعرائها واطبائها ومهندسيها ومغنيها، زارعة الخير والنهوض.
من يتابع مجريات الاحداث في مشهد اليوم في بغداد يوحي بانه لا يبشر بخير كما يعتقد البعض، وكأنه لا يشعر بأمل في الأفق القريب لبزوق فجر جديد يولد، فجر يرمرم البناء ويداوي الجراح، ليعيد وجه العراق الباسم والمشرف والمفرح، اقول واكتب وانا متفائل بان شعلة الانطلاق لفجر قادم ات وقريب،
فبغداد الجميلة هي روح اهلها الاصلاء ستخرج من تلك المحنة بفضل شعلة التوهج لثوار تشرين وصلابتهم، والوطنيين الاصلاء من شعب العراق فتنفض غبار المآسي وتنهض مجددا اصلب عودا واشد قوة لتعود ملتقى الثقافات والأديان والأجيال والثورات، لتبني وطنا سليما معافى من كل شائبة ونقص، ومن الله التوفيق..
سرور ميرزا محمود

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

676 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع