فيلم «ملكة الصحراء» : الباحثة عن الحب والسلام في صحراء التيه والألم

       

                       أفيش ملكة الصحراء

القدس العربي/ناصر الحرشي:أطل علينا المخرج الألماني فيرنز هيرتزوج، بعد غياب تام عن السينما الروائية، سينما المؤلف بفيلمه الطويل «ملكة الصحراء» الذي يمتد زمن عرضه لما يزيد عن الساعتين ونصف ساعة تقريبا، وهو من نوعية أفلام السيرة الذاتية التي كتبتها المستكشفة والمستشرقة البريطانية غيرترود بيل، والتي جسدتها ببراعة النجمة الهوليودية والممثلة الأسترالية نيكول كيدمان.

فيلم هيرتزوج يروي سيرة حقيقية، إذ يكشف لنا عن شخصية محورية غير معروفة للغالبية العظمى، لعبت دورا لا يقل أهمية عن دور لورنس العرب في رسم حدود المنطقة العربية، بعد انتهاء وسقوط الإمبراطورية العثمانية. لكن الدور الذي لعبته غيرترود بيل) (1868- 1926). كان إيجابيا مقارنة بدور لورنس العرب. البطلة كانت مصورة فوتوغرافية وباحثة ورحالة، وأيضا كاتبة، لكنها قبل كل شيء هي فريدة ومتميزة مثلما هي جميلة من الخارج هي جميلة من الداخل. فضلت ترك الحياة الارستقراطية الناعمة، والعيش في كنف الصحراء واستكشاف عوالمها الغامضة ومخالطة أهلها وأناسها، وتعلم لغتهم والتحدث بها، ثم البقاء والعيش بينهم في سلام روحي والمصالحة مع البيئة الغريبة عن ثقافتها، بعيدا عن ضوضاء الحياة المعاصرة في بلدها المتحضر. وفي سبيل تحقيق ذلك لاقت غيرترود بيل الكثير من المعاناة والملاحقة، سواء من جانب أهلها أو سفارات بلادها، أو مضايقات الجيش التركي لها، وكذلك ارتياب القبائل وشيوخها المتشككين في كل من هو غريب وأجنبي، ثم لا ننسى مطاردة قطاع الطرق ولصوص الصحراء لهذه المستكشفة الجميلة. وليس انتهاء بمصاعب ومشاق حياة الصحراء القاسية، خاصة أنها امرأة اجنبية ووحيدة من دون زوج وحبيب.
يمكن اعتبار «ملكة الصحراء» من دون شك نسخة معاصرة مقابلة لفيلم «لورنس العرب» لكن على الطريقة الهيرتزوجية في الإخراج، وفي تغليب ما هو إنساني مغلف بقصة حب وصراع وتحد وبقاء.
ومن بين الأمور التي تحسب للمخرج الألماني في هذا المنسك الفني ظهور شخصية لورنس في عدة لقطات في الفيلم، حيث التقى غير ما مرة بغيرترود من دون الهالة التي نسجت حوله وحول شخصيته الأسطورية، بالعكس نراه شخصا عاديا لا يتورع عن توزيع النكات البذيئة، ومغازلة البطلة الجميلة والظهور في الصحراء بين الفينة والأخرى على نحو غير لافت. لم يمض فيلم هيرتزوج على نحو خطي منذ البداية ألى النهاية، فقد افتتح بمشهد يظهر فيه في إحدى الحجرات الرسمية العسكرية البريطانية في القاهرة ونستون تشرتشل، ومن معه من القيادات السياسية والعسكرية وهم يقسمون المنطقة العربية على الخريطة، بعد هزيمة الأتراك وطردهم أبان الحرب العالمية الأولى، حيث يظهر لورنس برفقة هؤلاء وهو ينصحهم باستشارة غيرترود لأنها الأكثر دراية بالمنطقة وجغرافيتها.

https://www.youtube.com/watch?v=SU-bdMPV0V4

بعد ذلك يعود بنا المخرج اثني عشر عاما كي يتتبع حياة غيرترود، بعد تخرجها الجامعي وذهابها إلى عمها في طهران وقصة حبها الوحيدة هناك مع ممثل دبلوماسي في السفارة البريطانية، ثم رفض والدها الزواج منه لمستقبله غير المضمون، بعد ذلك انتحار الحبيب ثم تعلمها الفارسية والعربية بعد انتقالها إلى السفارة في عمان والعيش هناك في الصحراء على الحدود السعودية. وحتى ذيوع شهرتها وتلقيبها من جانب العرب بملكة الصحراء، وفي النهاية يختتم المخرج الألماني فيلمه مرة أخرى بتشرشل ولورنس الثعلب الداهية، وهو يوجه القيادة البريطانية من أجل الحسم في مسألة المنطقة العربية، ثم وهو يلتقط صورة تذكارية أمام هرم أبي الهول، وهو يمتطي جملا.

فيلم «ملكة الصحراء» رغم خلفيته السياسية التي تدور الأحداث في فلكها، نجح في ألا يسقط في فخ السياسة الفج، ولا أن يستسلم في الإسراف في رصد التقاليد الفلكلورية الصحراوية، بغية تقديم عمل سينمائي استشراقي يرضي الجمهور الغربي، الذي يظهر البدو في حالة من التخلف الحضاري. عوض ذلك غاص فيلمه أكثر في رصد شخصية غيرترود التي لا تحمل ملامح لورنس وطباعه المخادعة. ويلتقي هيرتزوج إلى حد كبير في تقديمه لشخصياته بالكاتب الأمريكي بول بولز صاحب «شاي في الصحراء» حيث الأبطال يغرقون في غياهب المجهول وتعبث بمصائرهم أيادي الأقدار ثم الضياع والوحدة، وأحيانا الموت، أو التواصل مع النفس والتعرف إليها والوصول إلى حالة من الصفاء والتجلي الروحي. نلاحظ أن شخصية غيرترود تحاول وباستماتة أن تضفي على نفسها الكثير من القوة والنفوذ والمهابة لتحمي نفسها كامرأة.
وقد نجح المخرج إلى حد كبير في أن يعمل على إيصال تلك الحالة المركبة، سواء عبر الحوار، أو من خلال المواقف التي وضع شخصيته فيها أمام العديد من المشاهد الخلابة التي التقطتها عينا الكاميرا الفاحصة والمتلصصة لفضاء الصحراء الطافح بالأسرار والمدهش والعجيب والمخيف. لقد أراد الرجل أخيرا أن يقدم فيلما تقليديا جنح فيه صراحة إلى الكلاسيكية في البناء والإخراج، بغرض التركيز أكثر على طبيعة الشخصية التي يقدم مراحل من حياتها، وعلى الأجواء الساحرة والمتوترة التي تدور على خلفيتها الأحداث. سيظل هذا المنجز التاريخي والتخييلي علامة فارقة في تاريخ السينما/السيرة.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1063 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع