دور العراق في إفلاس "آينده" الإيراني

وكالات الانباء:لم يكُن إعلان البنك المركزي الإيراني، حل بنك "آينده" ونقل ودائعه إلى بنك "ملّي" الحكومي، خطوة مالية داخلية فحسب، بل خلاصة مسار أطاحته عوامل إقليمية متشابكة، في مقدمها تشديد القيود الأميركية على النظام المالي العراقي.

فالعراق، الذي كان على مدى سنوات الرئة النقدية لطهران، تحول خلال العامين الأخيرين إلى صمام إغلاق فعلي لتدفقات الدولار نحو إيران. ومع تضييق هذا الشريان، تهاوت قدرة طهران على دعم مصارفها الخاصة، وفي مقدمها "آينده" الذي مثّل حلقة هشّة بين رأس المال العقاري والسياسة المالية المغلقة، حيث تتحكم الحكومة الإيرانية بشكل صارم في تدفق الأموال بين الداخل والخارج، وتفرض قيوداً على الاستيراد والتصدير المالي.

العراق... من قناة مالية إلى ساحة ضبط

منذ صيف 2023، دخلت العلاقات المالية بين بغداد وواشنطن مرحلة جديدة من الانضباط القسري. فقد حُظر على أكثر من 14 مصرفاً عراقياً التعامل بالدولار، وشُددت الرقابة على العملة وتحويلاتها، في مسعى أميركي لوقف تسرب العملة الصعبة إلى إيران وسوريا ولبنان.

وخلال عام 2024، وسعت وزارة الخزانة الأميركية حملتها لتشمل مديرين تنفيذيين في مصارف عراقية، اتُهموا بتسهيل عمليات تمويل لصالح الحرس الثوري وشركات وسيطة تابعة له. ثم جاءت حزمة تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لتثبت القواعد الجديدة، الامتثال الكامل أو فقدان الوصول إلى النظام المالي الأميركي.

النتيجة أن المصارف العراقية تغير سلوكها بالكامل، خفضت التعاملات النقدية، شددت إجراءات التحويل وفرضت قيوداً على بطاقات الدفع الدولية التي كانت إحدى أدوات التحويل الصامت نحو إيران. وهكذا، فقدت طهران منفذها الأهم لتدوير الدولار في الأسواق الإقليمية، وارتفعت كلفة أي تحويل أو تمويل عابر للحدود.

أزمة "آينده" بين الداخل والخارج

داخل إيران، لم يكن "آينده" بنكاً عادياً. فمنذ دمج "تات بنك" ومؤسسات ائتمانية أخرى عام 2014، تحول إلى أحد أكبر المصارف الخاصة وأكثرها نفوذاً. لكنه ربط مصيره بمشروع "إيران مول" العملاق الذي موّله عبر قروض مرتبطة بالأطراف المالكة نفسها، في نموذج فج لما يعرف بـ"الائتمان الذاتي".

مع تدهور السوق العقارية وتضخم الديون الغير محصلة، بدأ البنك يواجه فجوة مالية ضخمة، عجز عن سدها عبر القنوات التقليدية. هنا لعب التجفيف المالي من العراق دور المسّرع، إذ لم تعد هناك قدرة على ضخ سيولة بالدولار أو نقل تمويلات غير مباشرة كما في السابق، فاختنق المصرف بين عجز إداري في الداخل وضغط نقدي من الخارج.

مفهوم "الناترازي"

تستخدم السلطات النقدية في طهران مصطلح "ناترازي" (أي عدم التوازن)، لوصف المصارف التي فقدت الانسجام بين أصولها وخصومها. و"آينده" كان المثال الأوضح على هذا الخلل: ديون عقارية متضخمة، قروض أطراف مرتبطة وفجوة في رأس المال تجاوزت حدود التصحيح الذاتي.

ومع تصاعد القلق من انتقال العدوى الى مصارف إيرانية أخرى، اتخذ البنك المركزي الإيراني قرار الحل المنظم بنقل الودائع والموظفين إلى بنك "ملّي" الحكومي، وفصل الأصول المالية التي فقدت جزءاً كبيراً من قيمتها السوقية وأصبحت صعبة البيع أو غير قابلة للتداول تقريباً، لبيعها عبر صندوق ضمان الودائع وشركة حكومية لإدارة الأصول. الهدف هو إنقاذ ثقة الجمهور، وتحييد المخاطر من دون إنفاق مباشر من الخزينة، والأهم عدم إثارة الشارع الإيراني في هذا الوقت.

ما بعد "آينده"

إفلاس "آينده" لم يكن حادثاً معزولاً، بل جزءاً من برنامج أوسع لمعالجة مصارف غير متوازنة أعلن عنه البنك المركزي الإيراني منذ سنوات. فإيران تضم عشرات البنوك الخاصة وشبه الحكومية التي راكمت فجوات ائتمانية مشابهة، بعضها نتيجة الفساد والتمويل السياسي، وبعضها بسبب بيئة العقوبات نفسها.

وتتراوح خطط المعالجة بين إعادة الهيكلة للمؤسسات الصغيرة والدمج في مصارف حكومية أكبر، كما حدث عام 2019 عندما جرى دمج المصارف التابعة للحرس الثوري في بنك "سِباه"، وصولاً إلى الحل الكامل كما في حالة "آينده". لكن هذه الخطوات تصطدم اليوم بقيود التمويل الخارجي، بعدما ضاق شريان الدولار العراقي الذي كان يمدّ السوق الإيرانية بهوامش مرونة حيوية.

العقوبات كعامل مضاعف لا وحيد

لا يمكن القول إن العقوبات أو القيود في العراق، هي السبب المباشر لإفلاس "آينده"، لكنها بالتأكيد عامل مضاعف للأزمة الداخلية. فقد جعلت الأخطاء الإدارية والائتمانية أكثر كلفة، وحالت دون تدخل سريع لإنقاذ المصرف عبر وسطاء خارجيين. في المقابل، لا تزال الشبكات الإيرانية قادرة على التكيف عبر قنوات بديلة من قبيل، الذهب، والعملات الرقمية، لكنها أبطأ وأقل فعالية.

إفلاس "آينده" لا يُختزل في فشل مصرفي تقني، بل يعكس تبدل البيئة الإقليمية للمال الإيراني. فالعراق الذي كان يوما منفذاً لتدفق العملة الصعبة، صار بفعل العقوبات والرقابة الأميركية حاجزاً مصرفياً أمامها. وبينما تحاول طهران إصلاح مصارفها المتعثرة عبر الدمج والحل، تجد نفسها في مواجهة أزمة أعمق، تقلص هوامش المناورة الاقتصادية في إقليم بات يراقب كل دولار يعبر حدوده.

عندما تلتقي "ناترازي" الداخل مع تجفيف الخارج، يصبح إفلاس "آينده" أكثر من مجرد نهاية مصرف، بل علامة فارقة في تحول النظام المالي الإيراني نحو انكماش قسري طويل الأمد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

824 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع