"الحواسم".. عندما نهب العراقيون منشآتهم الحكومية ومتاحفهم

روداو/معد فياض:بعد يومين من اسقاط تمثال صدام حسين الذي كان منتصباً في احدى الساحات الرئيسية بشارع السعدون في جانب الرصافة من بغداد، من قبل القوات الاميركية ـ

تأكد العراقيون من ان نظام البعث قد انتهى، فتوجه عشرات الالاف من العراقيين الى الدوائر الحكومية والمصارف والمتاحف والفنادق والمراكز الفنية والمستشفيات وبيوت كبار المسؤولين السابقين لسرقتها في أكبر عملية نهب بتاريخ البلد، استخدموا خلالها السيارات والعربات التي تجرها الحمير، والاخرى التي تدفع باليد، أطلقوا على هذه السرقات تسمية (الحواسم) للسخرية من صدام حسين الذي كان قد اطلق اسم (الحواسم) على المعركة ضد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، بينما اشتقوا من الكلمة فعل (الحوسمة) اي السرقة.. حدث ذلك في جميع المحافظات تقريباً، باستثناء أقليم كوردستان، لكن النهب الأعظم كان في العاصمة بغداد.

"حوسمة" كل شيء

كنت في بغداد يوم ذاك، اتجول بشوارعها في عربة همر اميركية، علق الضابط الاميركي ديفيد، واسمه يدل على ديانته اليهودية، حيث كان مسؤولا في السفارة الاميركية بإسرائيل، قال ساخراً: "هذا أكبر مهرجان مجاني للتسوق"، اجبته: "هذا يحدث بفضلكم حيث امتنعت قواتكم من حماية المنشآت الحكومية والمتاحف والمستشفيات". تطلع بوجهي وقال بلهجة جادة: "الشعب الذي لا يحرص على حماية منشآته ومتاحفه ومراكزه الحكومية لا يحق له ان يتحدث عن المواطنة والوطنية، كان على العراقيين ان يقفوا ضد كل من يسرق الدوائر، فهذه المنشآت ليست ملكاً لصدام حسين بل ملكاً للعراقيين".

كنت امر بجموع من الرجال والنساء وقد نهبوا اشياء مختلفة، كراسي ومكاتب وسجاد واجهزة تبريد، وكل شيء يقع بايديهم، بينما السراق المحترفين توجهوا الى الدوائر والمصارف وهم يحملون اجهزة خاصة لفتح او تحطيم ابواب الخزائن (القاصات). وحدث ان تخصص بعض الموظفين بسرقة دوائرهم التي يعرفونها جيداً، إذ توجه بعض العاملين بالاذاعة والتلفزيون لسرقة ارشيف المؤسسة من اشرطة فنية مختلفة وفيما بعد تم بيع هذه الاشرطة للفضائيات التي انتشرت لاحقاً، وكذلك فعل البقية. وهناك من أوغل بجريمته عندما احرقوا الدوائر الحكومية التي سرقوها.

في غضون يوم او يومين خلت الدوائر الحكومية وغير الحكومية بمختلف اختصاصاتها من الاثاث والوثائق التي تخصص بسرقتها (الوثائق) احزاب كانت حتى يوم امس تطلق على نفسها وصف (المعارضة)، ولا يخفى على احد بان حزب المؤتمر الوطني سيطر على وثائق المخابرات العامة في منطقة الحارثية. بينما سيطر على وثائق الامن العامة احزاب الاسلام السياسي الشيعية.

لم تقتصر عمليات (الحواسم) على سرقة الاثاث وبقية المستلزمات، بل هناك غالبية من الغوغائيين الذين قدموا من ضواحي بغداد وبعض المحافظات القريبة قد هجموا على البيوت التي كان قد غادر اهلها الى محافظات اخرى واستقروا فيها، كما سيطروا على بناية وزارة الدفاع السابقة على ضفاف دجلة واتخذوا من غرفها وقاعاتها سكناً لهم، وابنية دوائر اخرى.

سرقة المتحف العراقي

ولكن تبقى افضع الجرائم هي جريمة سرقة المتحف العراقي، وحسب الدكتورة لمياء الكيلاني المتخصصة في الأختام الأسطوانية للعهد البابلي القديم، فأن حصيلة ما تم سرقته من الآثار التي لا تقدر بثمن هي 42 أثرا، عدا الآلاف من المخازن، وتمت استعادة 15 ألف أثر فقط، من بينها تمثال (انتمينا) الذي تعرض للكسر بعد أن جرى تهريبه لسوريا، وكذلك (أسد بابل) الذي وجد بباب معبد بمحافظة ديالي، لأن اللصوص لم يستطيعوا نقله فقاموا بقطع رأسه، وكذلك الحال مع (قيثارة أور) التي سرق منها ذراعاها المصنوعتان من الذهب الخالص، وكذلك الرأس، وأعيد تأهيلها من جديد.أما (فتاة الوركاء) التي كانت في غرفة رقم 104 فقد وجدت فيما بعد مدفونة تحت نخلة في منطقة نائية. كما سرقت جميع قطع العاج الموجودة في المتحف، وهي قطع ليس لها مثيل في العالم كله، وسرق أيضا 5000 ختم أسطواني لم يعد منها إلا أقل من ألف ختم.

شهود عيان أكدوا ان القوات الاميركية هي من فتحت بوابة المتحف العراقي، وكان الجنود الاميركيون اول من دخل الى قاعات المتحف قبل ان يغادروا البناية تاركين الابواب مشرعة امام الغوغاء. وكانت الدكتورة لمياء الكيلاني، قد اوضحت في عام 2019 ، ان "دلائل موثقة تكشف تعمد إهمال دول الاحتلال لعمليات نهب وتدمير المتحف العراقي، وإن أخطاء قاتلة رافقت عملية تحصينه من السرقات، كما أن هناك جهات منظمة كانت وراء سرقته، وأن اللجنة التحقيقية العراقية المكلفة بالكشف عن جريمة السرقة منذ عام 2004 لم تفصح لحد الآن عن نتائج التحقيق لأسباب مجهولة".

واضافت الكيلاني قائلة: "لقد حصل خرق لأهم شرطين لحماية المتاحف العالمية، وأولها: أهمية أن تحمي الدولة الغازية آثار الدولة المحتلة، إضافة إلى ضرورة أن لا تستخدم الدولة المحتلة المواقع الآثارية لحماية نفسها، والذي حصل أن الحكومة الأميركية قامت بتهيئة لجان عدة للاستعداد لما بعد احتلال العراق، تشمل جوانب التعليم والصحة والزراعة والصناعة، ولكنها نسيت إدراج لجنة للآثار! وتعاملت مع الموضوع على أنه غير مهم تماما أمام احتلال بلد مثل العراق. وهذه هي أول دلائل (كذبة حماية الآثار) في البلاد، أي أن القوات الأميركية تعمدت تعريض المتحف العراقي للنهب، وكان هناك تقصير واضح من قبل وزارة الخارجية العراقية التي لم تعرف بمن تتصل كي تحمي آثار بلادها".

كما تعرض مركز صدام للفنون الذي يضم اهم اعمال الفنانين العراقيين الرواد والاجيال اللاحقة للسرقة والتخريب، والسؤال هنا هو هل عرف اللصوص اهمية هذه الاعمال وسرقوها، ام ان بعض موظفي المركز هم من قاموا بهذه الجريمة. القوات الاميركية التي تخلت عن حماية المتحف العراقي، هي ذاتها حرصت على حماية وزارة النفط ووزارة المالية ووزارة الدفاع.

سكين وحرية

لم تكن هناك طائرات مدنية متوفرة وقتذاك، وعندما اردت العودة الى لندن، ساعدني بعض الاصدقاء للصعود على متن طائرة عسكرية اميركية مخصصة للنقل ومتوجهة الى الكويت، ومن هناك كانت رحلة للخطوط الكويتية الى العاصمة البريطانية.

ليلا وانا اشاهد الاخبار من خلال التلفزيون في صالة فندق السفير، فندق المطار، وكنت اتحدث مع ضابط اميركي برتبة عالية حول الاوضاع في العراق، ظهر على شاشة التلفزيون شاب عراقي بدين، وقميصه الابيض ممزق بسبب مشاجرة من اجل سرقة بعض ممتلكات الدولة، وهو يحمل سكين مطبخ كبيرة، وقال بأعلى صوته: "اما الان اصبحت اميركي، اني حر، محد (لا احد) يعترض علي، اسوي اللي اريده واسرق اللي اريده"، ترجمت ما قاله هذا الشاب للضابط الاميركي، فضحك وقال: "بالتأكيد ليس اميركياً، بل عراقي".

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

891 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع