اليمين الشعبوي في أوروبا.. النشأة والتطور

        

لا يعدو الخطاب السياسي للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا كونه شعارات

الخليج أونلاين:أظهرت المتغيرات والأزمات التي عصفت بالقارة الأوروبية، وجعلتها تترنح أمام التحديات التي باتت تهدد بنيتها الأساسية خلال السنوات الماضية؛ وجود خللٍ في نظامها المناعي الذي حفظ لها سلامة أنظمتها الديمقراطية من الاعتلال على مدار قرنين من الزمان، وبات من المؤكد أن قيمها وحصانة مجتمعاتها من النزعات القومية والدعوات الانفصالية، بعد مرور عقودٍ من التكامل والتوافق في ظل الوحدة الأوروبية منذ خمسينيات القرن الماضي، في حالةٍ حرجة، قد تمهد- في حال عدم تداركها- لنهاية أكبر نظام وحدةٍ سياسي واقتصادي وأمني عرفته البسيطة منذ نشأتها.

وعن التساؤلات حول نشأة التيارات والأحزاب اليمينية المتطرفة، واستفحال وبائها في الحياة السياسية وفي الأوساط الاجتماعية الأوروبية، تتعدد الإجابات والتأويلات حول ذلك، ويتراوح التشخيص لدى المراقبين والمحللين بين تسميتها بالظاهرة العابرة نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية المتراكمة لدول الاتحاد الأوروبي، وبين المسلم بكونها حقيقة ثابتة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المعادلة السياسية في أوروبا.

يمكن للمتابع للشأن الأوروبي تسمية نشأة وصعود التيارات والحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا اليوم بالتفاعل الكيميائي، الناتج عن عجز الحكومات الأوروبية بقيادة الأحزاب المعتدلة عن حل المشكلات الاقتصادية، وإيجاد السياسات البديلة التي تجنب مجتمعاتها الوقوع في مستنقعات الفقر والبطالة وتراجع الاتفاق الحكومي؛ وهو ما يشكل البيئة الخصبة للخطاب اليميني الشعبوي المتطرف.

- النزعات القومية والعوامل الاقتصادية

رفعت الحركات والأحزاب اليمينية الأوروبية لواء التطرف والغلو في حربها للعولمة؛ بحجة تراجع الهوية القومية والصبغة الثقافية وضعف القرار الوطني أمام السياسة الدولية، علاوةً على ما يعده اليمينيون المتطرفون في أوروبا انتهاكاً لحرمة مجتمعاتهم، ومؤامرة لطمس هويتهم بفعل التنوع الثقافي والعرقي والديني الذي شهدته بلدانهم، بفضل حرية التنقل وزيادة معدل الهجرة نحو بلدانهم، والتي أتاحتها العولمة لكثير من شعوب العالم خلال العقود الثلاثة الماضية.

وعقب تأسيس الكيان السياسي الموحد للسوق الأوروبية المشتركة "الاتحاد الأوروبي"، وانضواء الدول الأعضاء تحت علم الوحدة الأوروبية، نصبت الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة على حد سواء العداء للكيان الأوروبي الجديد؛ بحجة تقويضه للعقيدة القومية لبلدانهم، ورأوا أن للبرلمان الأوروبي والمحكمة الأوروبية العليا والبنك المركزي الأوروبي اليدَ الطولى في تحديد مصير بلدانهم، وفرض السياسات الداخلية على حكوماتهم.

كما أضاف التحول نحو الوحدة النقدية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والاستغناء عن العملات المحلية، عنصر تحريض إضافياً بعد سوء أداء العملة الأوروبية في أسواق المال، وارتفاع معدلات التضخم داخل دول الاتحاد الأوروبي؛ وهو ما شكل النشأة الحقيقية للحركات اليمينية الشعبوية المتطرفة بصيغتها الحالية، حينما أظهرت الأزمة المالية العالمية هشاشة النظام المصرفي لدى المنظومة الأوروبية، والتباين في قدرة الدول الأعضاء على تجاوز تداعيات الأزمة الاقتصادية دون المساس بقدراتها الإنتاجية، بعد تعثر أنظمتها المصرفية التي تمثل شريان الحياة للمصانع التي يعتمد عليها ملايين المواطنين في تلك البلدان كمصدر للرزق؛ وهو ما أدى إلى تفشي البطالة في المجتمعات الأوروبية، وارتفاع معدلاتها في البلدان المتعثرة كاليونان وإيطاليا وإسبانيا.

الهجرة غير الشرعية عبر البحر الأبيض المتوسط، والتدفق غير المسبوق لمئات الآلاف من اللاجئين نحو القارة الأوروبية، وظهور تحديات أمنية جديدة، وتنامي ظاهرة "الإسلاموفوبيا" بشكل لم تعهده دول الاتحاد الأوروبي من قبل، حيث وجدت البلدان الأوروبية المنخرطة في الحرب على الإرهاب نفسها أمام واقع جديد، دفعها إلى تقويض الكثير من الحريات التي تعتبرها المجتمعات الأوروبية جزءاً من بنيتها الأساسية، هو ما استغلته الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا لتشكيل أحزاب وكيانات سياسية لخوض الانتخابات المحلية والعامة، ونيل أكبر قدر ممكن من المكاسب الانتخابية من خلال خطابها التحريضي ضد خصومها السياسيين، مستفيدين من حالة السخط الشعبي داخل مجتمعاتهم من تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وارتفاع معدلات البطالة.

- كبح جماح اليمين المتطرف في أوروبا

على الرغم من قساوة المكاسب التي حققها اليمينيون الشعبويون في أوروبا في كثير من الدول، والخسارة التاريخية التي مني بها دعاة الوحدة الأوروبية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على يد الشعبويين، إلا أن فرص تقويض تلك المكاسب وحرمان اليمين المتطرف من تجيير تلك الانتصارات لمصلحته أمر متاح، يعتمد بالدرجة الأساس على مدى استخلاص الأحزاب الحاكمة والمنافسة من يمين الوسط واليسار والليبراليين للدروس والعبر من خروج بريطانيا، وفوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية.

لا يعدو الخطاب السياسي للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا عن كونه شعارات لا تمت للواقع بصلة، إذ تخلو البرامج السياسية لمرشحي تلك الأحزاب في الانتخابات المقبلة، التي ستشهدها بلدان أوروبية عدة العام المقبل، من وجود برامج سياسية واقتصادية تتلاءم مع وعودهم بتحسين الأوضاع المعيشية لناخبيهم، وزيادة الإنفاق على التعليم والصحة وإعادة النظر في النظام الضريبي، إذ لا يملك هؤلاء عصا سحرية قادرة على تحقيق ذلك، ولا يمكن للشعارات وحدها أن تخرج اقتصادات بلدانهم من حالة الركود التي تعاني منها، والتي انعكست بدورها على إنتاج المصانع وحركة البضائع، وتسببت بارتفاع نسبة العاطلين عن العمل.

في ألمانيا، عجلة العربة الأوروبية كما يحلو لكثيرين تسميتها، يخوض حزب البديل اليميني الشعبوي المتطرف الانتخابات النيابية نهاية العام المقبل، حيث يتندر رواد مواقع التواصل الاجتماعي ومقدمو البرامج السياسية الساخرة في القنوات المحلية حول البرنامج السياسي الذي قدمه حزب البديل للناخبين؛ إذ لا يخلو من الغرابة والطرافة والتشدد واللاواقعية؛ وهو ما سيشكل عامل نجاح لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ستقوده المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، خلال الانتخابات النيابية المقبلة، في حال تمكنه من تقديم برنامج إصلاحي حقيقي يلبي تطلعات الناخبين، ويمنعهم من السقوط في وهم الشعارات الشعبوية الرنانة والتصويت لها كما حدث في بريطانيا والولايات المتحدة. كما تبقى المكاسب التي قد يحققها حزب البديل، بحسب آخر استطلاعات الرأي، ضمن حدود قدرة ميركل على استيعابها وتقويض تأثيراتها على المشهد السياسي في ألمانيا.

أما في فرنسا، العجلة الثانية في العربة الأوروبية، فتبقى السيناريوهات مفتوحة أمام فوز اليمين المتطرف في الانتخابات، رغم استطلاعات الرأي التي تظهر تقدم مرشح اليمين فرانسوا فيون، وهو الكابوس الذي لا يرغب الأوروبيون برؤيته خلال العام المقبل.

يزيد الخطاب التحريضي للأحزاب المحافظة في أوروبا ضد المسلمين واللاجئين من قتامة المشهد، فالتنافس على قاعدة الناخبين الذين يراهن اليمين المتطرف على كسبهم لمصلحته يفرض على الأحزاب المحافظة في يمين الوسط طرح خطاب ذي طابع تحريضي ضد المسلمين واللاجئين في بلدانهم.

إعادة اللاجئين ووقف استقبالهم كما حدث في العام الماضي، ومنع النقاب أو البرقع، وإغلاق مساجد السلفيين، ومنع نشاطاتهم، شعارات يستخدمها المحافظون في ألمانيا وفرنسا لمداعبة الناخبين ومخاطبة ودهم، ولسحب البساط من تحت منافسيهم الشعبويين، ويبقى الصوت العربي والمسلم بعيداً عن تلك القضايا وبعيداً عن صندوق الاقتراع؛ بفعل حالة العزوف الجماعي عن المشاركة في الانتخابات، وفقدان الثقة بالبرامج السياسية التي لا تخدم قضاياه، ولا تراعي مصالح الأقليات.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

749 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع